لماذا رفض يوسف إدريس جائزة نوبل؟!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
أبلغنى يوسف إدريس هذه الحكاية التى لا تصدّق لولا أن يوسف إدريس هو الذى حكاها..
قال إنه رفض قبول جائزة نوبل للآداب!
وأكد أن ذلك حدث بشكل مفاجئ، سنة 1984 أى قبل فوز نجيب محفوظ بها بأربع سنوات، ولم يشر إلى ما حدث طوال السنوات الأربع..وعندما أعلن ذلك على المَلأ بعد فوز نجيب محفوظ لم يصدّقه الكثيرون واتهمه البعض بالغيرة..
وعَلّق كثيرون من كتّاب الصحف المصرية على ذلك بمقالات تقول إن يوسف إدريس مبدع كبير، لكن جائزة نوبل يستحقها نجيب محفوظ بجدارة..
انتهز آخرون الفرصة ليشككوا فى سبب فوز محفوظ بالجائزة العالمية الرفيعة، فادعوا أن تأييده لاتفاق كامب ديفيد بين السادات وبيجن هو السبب.. وثبت فيما بعد عدم صحة هذا الادعاء.
بينما اتفق بعض الكتّاب والنقاد على أن يوسف إدريس يستحق هو الآخر جائزة نوبل.. وذكر بعض من يتابعون تفاصيل عملية اختيار الفائز بالجائزة أن الشاعر والباحث السورى اللبنانى أدونيس، كان هو المرشح المنافس لنجيب محفوظ للفوز بالجائزة سنة 1988؛ حيث جاء ترتيبه الثانى بعده مباشرة.. لكن رأى اللجنة التى تقرّر وتختار الفائز رجّح كفة نجيب محفوظ.
ولاحظ المتابعون أن نجيب محفوظ، الكاتب العربى الوحيد الفائز بنوبل لم يتورط فى المهاترات التى شاعت وقتها حول فوزه؛ بل إن من أعلنوه بالفوز وجدوا أنه استقبل الخبر كما لو كان نكتة!
فلم يخطر بباله أن يحدث هذا.. مع أن عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين كتب قبل سنوات يُزكّى نجيب محفوظ لهذه الجائزة المرموقة..
نعود إلى حكاية رفض يوسف إدريس لجائزة نوبل، وهو الكاتب الذى لم يسبقه أحد إلى إنجاز مستوى راقٍ لفن القصة القصيرة فى اللغة العربية، ولم يلحق به أحد للآن. فقد تذرَّع المتشككون فى هذه الحكاية بحجة قوية تدحض - من وجهة نظرهم - ادعاء إدريس، وهى:
إنه يقول إن مسئولاً فى اللجنة السويدية التى تختار الفائز واتصل به وأخبره أنهم سيقدمون الجائزة له مناصفة مع كاتب إسرائيلى، فمنذ متى تتصل لجنة نوبل بالمرشحين للفوز بها؟!
وكان السؤال محيرًا فعلاً.. فلم يسبق أن سمعنا أو قرأنا أن اللجنة التى تمارس عملها فى سرية تامة، اتصلت بأحد المرشحين!
وتردد السؤال على صفحات الصحف وفى مجالس الأدباء والمثقفين وسخر بعضهم - للأسف - من «ادعاءات يوسف إدريس».. وناله الكثير من التهكّم والإساءة.. وربطوا ذلك بطبيعة إنسانية غلاّبة هى: الغيرة.
ولم يكن لدى إدريس أى دليل مادى على تأكيداته بأن الجائزة عرضت عليه، وأنه رفضها بشدة.
مضت السنون ولا أحد قادر على حسم الأمر، ومع اطمئنانى وغيرى، لصدق يوسف إدريس، إلا أن ضبابًا كان يغطى المسألة.. إلى أن جاءت الإجابة الحاسمة من قلب لجنة جائزة نوبل..
كان ذلك بعد سنوات من الضجيج الذى صاحب فوز محفوظ بنوبل سنة 1988.. مضت 13 سنة قبل أن تظهر الحقيقة، وبعد عشر سنوات على وفاة يوسف إدريس، ففى 2001 كانت جائزة نوبل قد بلغت من العمر 100 سنة، ولأول مرة قررت الأكاديمية السويدية التى تقدم الجائزة كل سنة، أن ترفع السرّية عن بعض وثائق ومشاورات ومراسلات وتقارير ترشيح واختيار الفائزين بالجائزة.
وقام واحد من أعضاء الأكاديمية بعد إتاحة الوثائق السرية ونشرها علنًا، بوضع كتاب تناول فيه تاريخ الجائزة والقيم التى كانت تحكمها وكيف تغيّرت مع الزمن ووقائع رفض تقديم الجائزة لعدد من الكتّاب العالميين المرموقين كالروسى ليو تولستوى والنرويجى هنريك إبسن والفرنسى إميل زولا..
الكاتب والشاعر السويدى عضو الأكاديمية مؤلف الكتاب اسمه «شيل إسبمارك» وعنوان الكتاب «جائزة الأدب» ويعتمد على وثائق وشهادات سرية ورسائل استشارية كان أعضاء اللجنة يتبادلونها فيما بينهم حول المرشحين وتقارير عن اجتماعات اللجنة وقراراتها.. وقوائم بأسماء من رشحوا للجائزة ولم ينالوها رغم وصولهم للتصفيات النهائية..
وما يهمنا الآن هو من كان أول مرشح عربى لجائزة نوبل؟ ومتى؟.. ولماذا لم تمنح له؟
ويجيب الكتاب بأنه كان الدكتور طه حسين، وذلك سنة 1949 حيث حصلت الأكاديمية على اسمه كرائد للأدب العربى لكنها لم تتمكن من الاطلاع على أعماله بشكل يكفى لتكوين صورة عن أدب طه حسين.. ويكشف الكاتب عضو الأكاديمية السويدية أن هناك عوامل سياسية حكمت أحيانًا أسباب اختيار بعض الفائزين بنوبل مثل تشرشل، ورفض آخرين مثل تولستوى.
ونأتى إلى قصة ترشيح يوسف إدريس، فيكشف مؤلف الكتاب من واقع وثائق الأكاديمية أن هناك شخصية سويدية مهمة كلّفت بالاتصال بالكاتب المصرى سنة 1984لإعلانه الفوز بالجائزة مناصفة مع كاتب إسرائيلى، فى محاولة من الأكاديمية لفرض حال من التطبيع بين الأدباء العرب والإسرائيليين وهى المرة الوحيدة التى أقرّت فيها منح الجائزة مناصفة بين أديبين، فإذا وافق يوسف إدريس ينال جائزة نوبل مناصفة.
فماذا كان رد كاتبنا الكبير؟
يقول الكتاب إن يوسف إدريس هاجم الأكاديمية والجائزة وهاجم الاقتراح وقال: هل تريدون منّى أن أتقاسم جائزة نوبل مع إسرائيلى؟..هل ترغبون فى صورة جديدة لجائزة بيجن - السادات؟!
وانتهى الأمر بعدم منحه الجائزة كما يعلن الكاتب والشاعر «شيل إسبمارك» مؤلف الكتاب المعتمد على وثائق كانت سرية وهو عضو الأكاديمية السويدية التى تمنح جائزة نوبل كل سَنة.
وهكذا شهد شاهد من أهلها من واقع وثائق «نوبل» وتبيّن صدق ما أعلنه يوسف إدريس الذى لم يصدّقه كثيرون وقتها، وظهرت الحقيقة لكن بعد عشر سنوات من وفاة كاتبنا المحترم، الذى لم تغره عظمة جائزة نوبل العالمية وقيمتها الأدبية والمعنوية والمالية؛ فلم يتنازل عن موقفه ومبدئه وإيمانه بقضية فلسطين. وهكذا يُعتبر يوسف إدريس الكاتب العربى الذى رفض نوبل، وينضم اسمه بذلك إلى العظماء الذين رفضوها بعد إعلان فوزهم بها مثل الأيرلندى جورج برنارد شو والفرنسى جان بول سارتر والروسى بوريس باسترناك.
وفى الأسبوع المقبل نواصل..