حكايات 60 سنة صحافة الحلقة 23
صباح الخير قــمـــر 14!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
من أطرف المفاجآت التى لا أنساها لعمنا حسن فؤاد، وهو من محبى المفاجآت اللطيفة، أنه قرر فى يناير سنة 1970 وبمناسبة عيد ميلاد «صباح الخير» أن يكون احتفالنا ببلوغ المجلة السنة الـ14 من عمرها، بأن نتجمع جميعا كأسرة تحرير ونمضى يوما معا فى فيلا فى صحراء الهرم بعيدا عن أجواء العمل، حتى ننطلق فى الهواء الطلق ونقترب من بعضنا البعض أكثر.. على اختلاف أجيالنا.
كانت فكرة مدهشة لم تحدث من قبل ولا من بعد.
وعيد ميلاد قمر 14 «صباح الخير» هو يوم 12 يناير من كل عام.
ولم يكتف الأب الحنون بهذه المفاجأة الرائعة، التى أتاحت لنا فعلا مزيدا من التقارب كزملاء فى فريق يتميز بالروح المصرية المتطلعة لكل ما هو أفضل وأجمل.. ويقدّم أحسن ما عنده من أفكار وكتابات ورسوم.
فكانت هناك مفاجأة أكبر.. تكتّم عليها ولم يبلغنا بأمرها إلا فى حينه.. ما هى؟
هى فتاة حلوة فى عمر الـ27 عاما نعرفها جميعنا، لكننا- كلنا أو أغلبنا- لم يسبق لنا أن التقينا بها وجها لوجه!
نعرفها على الشاشة الفضية، ونحبها ونتابع تطور نجوميتها وتألقها منذ أول أفلامها سنة 1959.
هل عرفتم من هى؟
هى طبعا سعاد حسنى!
كانت هذه أول مرة فى حياتى أرى فيها فتاة أحلام كل الشباب وأتحدّث إليها وأكتشف ملامح إضافية لشخصيتها، لم تظهرعلى شاشة السينما.. وتبيّن أننا نحتفل معها بعيد ميلادها أيضا.. وأن عم حسن اكتشف خلال عمله معها فى فيلم «الناس والنيل» الذى كتب له السيناريو وأخرجه يوسف شاهين، أنها ولدت مثله فى يوم 26 يناير.. مع اختلاف سنوات الميلاد طبعا..(هو سنة 1926 وهى 1943) فكان احتفالنا بها وبه ضمن عيد ميلاد قمر 14 «الصبوحة».
من وقتها جمعتنى بسعاد حسنى صداقة عجيبة قامت على ألا تعاملنى كصحفى، نتكلّم كثيرا فى التليفون.. ونلتقى نادرا.. لا أطلب منها أخبارا أو أحاديث للنشر، ولا تطلب منى هى أى شيء، سوى الصداقة البريئة من أى مصالح.. دردشات وأحاديث ومناقشات هادئة أحيانا، صاخبة أحيانا.. وهى كائن إنسانى محب للمرح والبهجة والفن.. وكانت وقتها تستعد للزواج.
فى نهاية هذه السنة 70 تم زواجها من المخرج على بدرخان.. والعجيب أنهما لم يقيما حفل زفاف ولم ترتدِ هى فستان فرح..
سعاد حسنى التى ظهرت على الشاشة مرات كثيرة ترتدى فستان الزفاف حسب قصة الفيلم، عندما حان وقت زفافها، فى الواقع، لم تسعد بارتداء فستان الفرح!
لماذا؟
لأن كليهما، هى وعريسها - مثل الملايين - كانا فى حالة حزن بالغ لرحيل جمال عبدالناصر.
مظاهرة البنات
أعود لاحتفالنا بعيد ميلاد المجلة، ليس على الورق فقط، لكن فى هذه الفيلا الأنيقة وفى صحبة النجمة الشابة المحبوبة.
فى البداية، كانت تجلس وسطنا فى خجل وحياء ولا تتكلّم!.. فقط تعطينا إيماءات مختلفة وابتسامات.
لكن ذلك لم يدم طويلا، فسرعان ما تآلفت معنا وتآلفنا معها وأصبحت تتكلّم وتضحك وتسأل..تسأل كثيرا عن أمور تريد أن تعرفها أكثر.
ولم تكن تخجل من طرح الأسئلة، فهى دائما متطلعة للمعرفة.. وبينما نحن مندمجون معها، فوجئنا بهتافات تأتى من خارج الفيلا.. رحلة بنات علمن- لا أعرف كيف- بأن سعاد حسنى موجودة هنا، فانطلقت هتافاتهن:
عايزين سعاد.. عايزين سعاد
أما سعاد فقد عاودها الخجل الذى لا يعرف جمهورها أنه يسيطر عليها، إلا إذا جالست من تعرفهم.. فشجعناها على الخروج لتلبية طلب مظاهرة البنات اللاتى تحلّقن حول باب الفيلا.. ثم تحلّقن حولها وتحدّثن إليها والتقطن صورا عديدة معها، وطلبن توقيعها على أوراق وأوتوجرافات.
هدأت الأحوال بعد ذلك، وعادت سعاد إلى مجلسها وسطنا، لكن هتافات البنات عادت تتردد بصوت جماعى:
عايزين حجازى.. عايزين حجازى!
والمقصود هو فنان الكاريكاتير الذى لا يتكرر أحمد حجازى.. والموجود بيننا كواحد من أسرة «صباح الخير».
فاق خجل حجازى فى هذا الموقف، خجل سعاد حسنى!.. فهو أيضا إنسان خجول بطبعه، لكن عم حسن شجّعه وخرج به لمظاهرة البنات اللاتى عبّرن له عن الإعجاب الشديد وطلبن ليس فقط أن يوقّع على أوتوجرافات ولكن أن يرسم شيئا من كاريكاتيراته!
كم هى ذكريات جميلة لا تنسى.
ومن مفاجآت عم حسن فؤاد لى أنه بعد حوالى خمس سنوات من التحاقى بالمجلة وجدته يأتى لى ببعض موضوعات لمحررين جدد، ويطلب منى إعادة كتابتها بطريقتى، وكانت هذه شهادة أعتز بها.. وقمت بهذه المهمة بحماس وتكتم، فوجدت مرتبى يزداد دون أن أطلب!
ومفاجأة أخرى: دعانى رئيس التحرير الموهوب حسن فؤاد، أستاذى وأستاذ معظم من يعملون فى «صباح الخير» ومكتشفهم، ودعا معى علاء الديب ورشدى أبوالحسن، لتمضية عدة أيام راحة واسترخاء بعيدا عن ضغوط العمل «لإعادة شحن بطارياتنا» والتمتع بأجواء جديدة.
أين؟
فى فايد على شاطئ البحيرات المرة عند الإسماعيلية.
وأمضينا أياما جميلة فى استراحة النائب..
من هو النائب؟.. هو حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية وقتها!
المدهش فى الأمر هو أن عم حسن كان يتولى بنفسه مهمة طبخ وجباتنا خلال هذه الأيام.. وروى لنا حكاية تعلّمه الطبخ التى أدهشتنا.. وكانت محل استفسارنا، قال إنه تعلّم ذلك فى سنوات المعتقل فى الواحات.
عرفت فيما بعد أنه تعامل مع واقعة الاعتقال هذه بنوع من النظرة الإيجابية، كيف؟
هم هنا بعيدون عن كل شيء، بلا محاكمة ولا يعرفون إلى متى ستكون إقامتهم، فلا معنى للانكفاء على الذات والاكتئاب بلا نتيجة.. لماذا لا نستفيد من اللحظة ونعبّر عن مواهبنا وأفكارنا ونشجّع بعضنا البعض على استثمار الظرف لصالحنا.
قال إنها فرصة لتقويم الذات ومعاونة الآخرين خاصة شباب المعتقلين.
فأطلق كل مواهبه فى الرسم على جدران وأبواب الزنازين.. وأصدر مجلة فنية وابتكر قطع الشطرنج فكان يجفف عجائن الخبز، ليصنع منها هذه القطع!
وحوّل المعتقل إلى مركز للنشاط الثقافى والفنى، إقامة معارض للموهوبين من زملاء المعتقل.. وتنظيم ندوات ثقافية وتنمية مواهب المعتقلين الشبان ومنهم من أصبح مطربا معروفا هو محمد حمام، ومنهم من أصبح كاتبا روائيا بارزا هو صنع الله إبراهيم، ومنهم الممثل المتميز على الشريف.. وغيرهم كثير.
ليس هذا فقط، بل أقام مع الآخرين مسرحا رومانيا فى ساحة معتقل الواحات الخارجة.. وقام بتدريب كثيرين على التمثيل واختار مسرحيات لصلاح حافظ، كتبها خلال فترة اعتقاله وأخرى لنعمان عاشور وثالثة لجان بول سارتر ليخرجها على المسرح.
وكان لافتا أن قائد وحراس المعتقل أبدوا إعجابهم ودهشتهم بكل هذا.
وكان صلاح حافظ زميل المعتقل يشاركه هذه الروح الإيجابية المرحة حتى إنه لم يكتف بكتابة المسرحيات وتمثيلها بل كان يصدح بالغناء بصوت رقيق، وكان يتفق مع عم حسن فى أن هؤلاء الناس- حراس وضباط وجنود المعتقل- معذبون أيضا بالحياة القاسية فى هذه الصحراء البعيدة جدا عن بيوتهم وأولادهم.. وهم يؤدون عملهم ويحتاجون للتسلية والفرجة والإحساس بإنسانيتهم.. كما نحتاج نحن.
المفاجأة الكبرى
هل أحكى عن المفاجأة الكبرى التى قدّمها لى الأستاذ سنة 1974 عندما طلب منى أن أحل محل اثنين من الزملاء كان أحدهما «منير عامر» يقوم بعمل سكرتير التحرير النهارى مع الكتّاب والمحررين والرسامين، ويقوم الآخر «محمد قناوى» بمهمة سكرتير التحرير الليلى فى المطبعة.
وكان هذا العرض مفاجأة كبيرة لى لم أكن أتوقعها، ولم أكن راغبا فيها، فقد كنت فى ذلك الوقت أميل إلى الحياة المفتوحة وسهر الليالى والصعلكة.. واستكشاف العالم والناس.
لكنه دق على وتر حساس: ألا تحب «صباح الخير»؟!.. المجلة تحتاجك فى هذه المهمة.
وقبل أن أقبل، على مضض، علمت أننى سأتقاضى ثلاثة أضعاف راتبى.
المهمة شاقة، وستغير نمط حياتى، لكنها كما قال لى عم حسن «أول خطوة فى سلم الصعود الصحفى الذى ينتظرك.. فهل تريد أن تفوّت على نفسك فرصة كهذه؟!».
عندما قبلت هذه المهمة، ولم تكن لى دراية سابقة بها، قرّرت أن يكون لى أسلوبى الخاص فى ممارستها، وكان لى ما أردت، وأسعدتنى ثقة الأستاذ فى قدرتى على تحقيق النجاح الذى لمسه الجميع.
وكانت هناك مفاجآت أخرى، ففى إحدى الليالى وأنا فى المطبعة أتابع خطوات طباعة ملازم المجلة.. وكانت ليلة رأس السنة فى عام 1977.. أذكر هذه الليلة جيدا، فقد فوجئت بعم حسن على التليفون بصوت متألم وحزين، أثار قلقى، يقول لى:
= شارلى شابلن مات!
أعرف عظمة هذا الرجل وعبقريته.. لكن ما الذى يجعل رئيس التحرير يتصل بى فى منتصف الليل وهو يكاد يبكى ليخبرنى بوفاة شارلى شابلن؟.
صمتت فى ذهول إلى أن سألنى: هل يمكنك أن تلغى أحد موضوعات العدد الجديد وتخصص 3 صفحات لشارلى شابلن؟
لم أتردد.. قلت فورا: طبعا.
قال بسعادة: سأبعث لك الآن بمادة هذه الصفحات.
وتم كل شىء كما لو كان عملية جراحية دقيقة، فما هو الموضوع الذى يمكن لى أن ألغيه أو أرحّله إلى العدد التالي؟
وما هو الموقع المناسب فى صفحات هذا العدد لنشر موضوع شارلى شابلن؟
وأين نجد، بسرعة، الصور والرسوم المناسبة المصاحبة للموضوع؟
عملية دقيقة تمت بسلام، وكان أسهل ما فيها هو تغيير لوحة الغلاف لوضع بورتريه كاريكاتير لأكبر فنان ساخر عرفه العالم.. فالغلاف يطبع فى اليوم التالى، وليس الليلة.
نجحت العملية وأصبحت «صباح الخير» أول مجلة انفردت بالكتابة فورا عن شارلى شابلن.
وجاءت مفاجأة الأستاذ: مكافأة قدرها خمسون جنيها.
رحلة لندن
حديث المفاجآت لا ينتهى.. ومع أن حسن فؤاد تولى رئاسة تحرير «صباح الخير» أكثر من مرة، حيث انتقل رئيسا للمركز القومى للسينما لفترة قام خلالها باكتشاف وإعداد جيل جديد من السينمائيين الشباب.. ثم عاد لأحضان «صباح الخير».. فهو الذى وضع هيئتها وتبويبها عند ميلادها.. بمشاركة فاطمة اليوسف العظيمة وإحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين.
وفى ظروف لا أعرف كل تفاصيلها وإن بلغنى بعضها، وجدت الأستاذ يرتّب نفسه للسفر فى رحلة طويلة تمتد لثلاثة أشهر، إلى لندن!
لماذا؟
الإجابة المعلنة هى: العلاج من مرض أصابه خلال سنوات المعتقل هو الربو.
وكيف ستمضى الأمور فى المجلة خلال غياب رئيس التحرير طوال هذه الفترة الطويلة؟.. خصوصا أنه ليس هناك مدير تحرير، فقد تم عزل رءوف توفيق، منذ فترة ودون سبب معلوم وتضمن قرار عزله أن يلحق بالعمل فى مصلحة الاستعلامات، وهو ما رفض تنفيذه وبقى فى البيت.
وكنت سكرتير التحرير القائم بعمل مدير التحرير.. فإذا بى أكلّف فوق هذا بالقيام بعمل رئيس التحرير من الباطن خلال غيابه لمدة ثلاثة أشهر!
كيف سيجرى ذلك؟.. وماذا نقول لزملائنا الكتاب والمحررين والرسامين وكل من يعمل فى المجلة؟
كنت منذ قبلت بالعمل سكرتيرا للتحرير وبرعاية حسن فؤاد أجهّز كل أسبوع ماكيت هو صورة مصغرة من المجلة يتم خلاله وضع تصوّر عن العدد الجديد ومحتوياته من مقالات وتحقيقات ورسوم وأبواب ثابتة، ويتم هذا التخطيط بإشراف رئيس التحرير ومدير التحرير والمشرف الفنى.
اتبعنا فكرة الماكيت هذه للأعداد الأربعة عشرة التى ستصدر فى غياب رئيس التحرير، وعملت بتكتم وسهرت الليالى أصنع هذه الماكيتات من ورق الدشت وأملأ الصفحات بعناوين الموضوعات وأترك صفحات بلا عناوين لموضوعات سيتم إعدادها فيما بعد بما يتناسب مع تطور الأحداث والمناسبات.
كان عملنا يتم فى سرية وتكتم ولا يشارك فيه سوى المشرف الفنى.
وكان ما يعلمه الباقون- كل أسرة التحرير- من الأستاذ حسن، هو أنه سيغيب أسبوعا أو اثنين للعلاج فى لندن.
لماذا فضّل هذه الطريقة؟
حتى لا يحدث أى خلل أو اضطراب فى دورة العمل.. وجدت نفسى أقوم بكل المهام بهدوء شديد وكلّما سأل أحد عن غياب رئيس التحرير كان ردنا- المشرف الفنى محمد سليم، وأنا- هو أن إجراءات العلاج فى لندن طالت قليلا، وأنه سيعود بعدها فورا.
ومرت الشهور الثلاثة بسلاسة.. فلم تحدث أى مشاكل.
لكن ماذا كان عم حسن يفعل فعلا فى العاصمة البريطانية؟
إضافة إلى العلاج من أزمة الربو، شارك فى تأسيس جريدة «العرب» اليومية، التى لا تزال تصدر حتى الآن، فوضع تصميمها واختار لها بعض الكوادر.
ليس هذا فقط، فقد أطلق أول مشروع كبير لإنتاج أفلام الرسوم المتحركة العربية.
وهاتان مبادرتان كبيرتان فى عالم الصحافة والسينما.. أطلقهما استاذنا الجليل.
وعندما عاد كانت مفاجآته تتواصل، وآخرها تركه الصحافة فى مصر، والانتقال إلى لندن للعمل فى هذه المشروعات.
ولا أريد أن أخوض فى الأوضاع السياسية والمتاعب التى تعرضّت لها الصحافة فى زمن الرئيس الراحل أنور السادات.. ولكنها انعكست على ما جرى لنا فى «صباح الخير» وكل الصحف المصرية، فهذه مسألة تحتاج لكتاب أو ربما مجلد كامل.
ومع ذلك لا أنسى أنه من الضرورى الإشارة إلى حكاية بداية التعارف بين حسن فؤاد والسادات.. ولتكن هذه الحكاية المدهشة موضوع حلقة جديدة تالية.
وفى الأسبوع المقبل نواصل