قراءة فى رواية عشاق نجمة لسلوى البنا
سر الحياة وخبزها
د. عزة بدر
«نجمة تملك سر الموت والحياة، وترحال الزمن، وأسرار كثيرة، معجونة بتراب هذه الزيتونة التى لاتزال تتنفس منذ ألف سنة أو ألفىّ سنة أو ما يزيد، لكن الجميع متفق على أن عمرها من عمر نجمة».
بهذا الحب الجارف تصف الروائية الفلسطينية «سلوى البنا» ارتباط المواطن العربى بوطنه، التعلق والشغف بالأرض فجعلت لكل بطل من أبطال روايتها قصة حب لا تنتهى فى روايتها: «عشاق نجمة»، الرواية صدرت عن دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان. بين الحقيقة والأسطورة
«أبوالمجد الفلسطينى» و«سامى اللبنانى»، و«لؤى الجزائرى»، لكل منهم نجمة تتربع على عرش فؤاده، تجمعهم زنزانة واحدة، تم اعتقالهم من قبل عصابة أو منظمة إرهابية دولية، يحتفظون بهم فى معتقل، والمعتقل مزنر بالديناميت فيستعصى عليهم الهرب، لكنهم جميعا رفضوا أسر المكان، وأسر الزمان، وقرروا التخطيط للحلم، للوصول إلى نجمة.
«يقولون إن وجه نجمة يفيض بهذه الأطياف والألوان، وأن فى وهجه يكمن سر الحياة كما يختبئ خلفه مفتاح الموت أيضًا».
لكن التعلق بالحلم يصنع الأمل ويدفع إلى المقاومة.
وتضفر الكاتب الأسطورة بالواقع فيصبح الخيال واقعًا، والأسطورة حقيقة فهى ترمز لكل قصة حب، فهذا هو «الزين» مع عروسه الجميلة «نجمة» يتخطران قرب الزيتونة الفتية، لكن الغرباء غرسوا فى صدره عشرات الخناجر فتجلت بطولته فى الوصول إلى الزيتونة وإلى الحبيبة رغم ما أصابه من جراح، ذلك هو المعنى والجوهر الذى يتحقق فى تطور شخصيات الرواية فيتحول كل منهم إلى أسطورة.
«زحف الزين» ووصل للزيتونة الحبيبة، عانقها وأطلق النداء، فخرجت العروس للقائه بكامل زينتها وأناقتها، أما هو فكان يزحف إليها مضرجا بدمائه، هكذا تصف الساردة المشهد الرئيس الذى أصبح حجر الزاوية فى حياة أبطالها.
فتصف هذا التفانى فى الحب، والوصول إلى الهدف، حيث الأرض ورائحتها العطرة التى تتحدى الخطر فتقول: «كانت نجمة تحتضن باقة الزنبق الأبيض متحدية بها سهام الغدر، وخفافيش العتمة، وصلت عروس الزين واتحدت معه بجذع الزيتونة، كان ذلك من ألف سنة أو ألفين أو أكثر، لا أحد يستطيع تحديد التاريخ بالضبط».
يولدون كبارًا
«سلمى» ابنة «إبراهيم اليافاوى» تودع زوجها وحبيبها «فؤاد»، وعندما سأل ابنها أبوالمجد أين ذهب أبوه؟! لم تجب، وعندما عاد «فؤاد» بعد عام، لم يكن الزمن قد شفا جرحه، فقال لسلمى إن ما يشفى جرحه حقيقة هى زيتونة نجمة «قال: «تعرفينها يا سلمى» زيتونتنا التى حفرنا على جذعها اسمينا».
وارتحل ثانية حتى بعد أن تشبثت به «سلمى»، لكنها استسلمت لقراره، فقالت بشفتين مرتعشتين: «رافقتك السلامة يا حبيب نجمة».
وكان الطفل حينها «أبوالمجد» يسأل من هى نجمة التى ترك أبوه العالم كله من أجلها».
استشهد الأب «فؤاد» وتقدمت «سلمى» من طفلها لتسلمه قطعة نحاسية تمثل شعار «العاصفة»، وضعتها فى يد طفلها، وهذا الشعار كان يعلقه الأب على صدره، وتقدمت «نجلا» الجدة من الطفل وأعطته الأمانة التى لا بد أن يصونها برموش عينيه، كانت الأمانة عبارة عن صندوق خشبى به أوراق وخرائط ومفاتيح، قالتا: البركة فيك، البركة فى «مجد».
وتصف الساردة مشاعر الطفل «أبوالمجد» فى تلك اللحظة، وكيف دفعت به إلى تطور جديد، فى حياته وشخصيته:
«خالطه حينها مزيج من المشاعر، ولم يعرف إن كان عليه أن يزهو ويفرح أن الطفل فى داخله اختفى فجأة، وحل مكانه رجل غير مكتمل الملامح أو الهوية، حاول أن يتماهى معه، فبدا وهو يستحضر ملامح أبيه فؤاد، ويتقمصها عنوة أشبه بطفل يرتدى ملابس والده، ويتبختر بها، أغمض أبوالمجد عينيه على تلك الصورة محاولا ألا تفلت منه، استحضر ملامحها بكثافة عجيبة، تحدى بها ذاكرته المعجونة بالأسى، غافلته ابتسامة بريئة مسكونة بالأمل، فاحتضن الوجه أكثر، لاحق بشغف تعابيره المشعة بالزهو والكبرياء».
ويستعيد أبوالمجد فى زنزانته تلك اللحظات الفارقة فى حياته، وأصداء ذلك فى نفسه: «كبرت قبل الأوان يا مجد، هكذا هم عشاق نجمة يولدون كبارا ويموتون كبارا».
الطريق إلى نجمة
ورغم أن أبا المجد قد اختار طريقا آخر لنصرة نجمته، فقد سافر إلى الخارج، وأصبح من كبار الأثرياء، يساعد بأمواله فى تعليم أبناء وطنه، وتضعنا الساردة أيضا أمام لحظات غيرت حياة «أبى المجد»، فقد اكتشفت بعد تخرجه فى الجامعة وحبه لسعاد التى احتلت أبرز المنابر الإعلامية، وتزوجت من دبلوماسى فلسطينى مرموق، بعد أن رفضت الزواج من أبى المجد، فقال لنفسه مستلهمًا تجربتهما: «مادام هناك طريق آمن إلى نجمة، فلماذا اختار أبوه «فؤاد» طريقا محفوفا بالمخاطر، أمسك بتلك القطعة المعدنية الصغيرة التى تحمل شعار العاصفة، تأملها مطولاً قبل أن يقول بمرارة: «هذا ما بقى من فؤاد، وما بقى من العاصفة، شعار معدنى أكله الصدأ، وإن لم يقو هذا الصدأ على ابتلاع فلسطين».
أوشك «أبوالمجد» أن يقذف بالقطعة المعدنية من النافذة فقبضت «سلمى» على ذراعه، واستعادت الشعار، قالت بحزم: لم تعد أهلاً له.
وبحثت عن تلك الصرة التى قدمتها له «نجلا»، وقالت له بنبرة لاذعة كالسياط: «لم تعد مؤتمنا عليها»، هذا المشهد العاصف لم ينسه «أبوالمجد» أبدا، كان عذابه كله يكمن فى هذا المشهد، دائمًا يحاول ربط الصور والأحداث ويعيد قراءتها من جديد، وهنا تضعنا الساردة أمام الأزمة الحقيقية لبطلها فتقول: «هى تلك الصدمة التى خطفته من ذاته، وقذفت به إلى المجهول، ووضعته فى مواجهة قاسية مع أبيه فؤاد من جديد».
الأمر الذى ظل محفورا فى ذاكرته، ويحكيه لرفاقه سجناء المقاومة فى الزنزانة التى جمعتهم، فيقول له سامى: «اطمئن فنجمة تسكنك، وتحتل أنفاسك، وتتحدانا بك».
الجدة ذاكرة حافظة
تصلصل مفاتيح الجدة «نجلا» فى أذن الجميع، وأولهم «أبوالمجد» الذى حفظ صورها وأشكالها وأحجامها جيدا، فهذا مفتاح شقة العجمى، وهذا مفتاح باب الحديقة الأخضر، وهذا مفتاح منزل خاله «عطية»، العريس الشاب الذى استشهد وعروسه وطفله الذى لم يولد فى مجازر «دير ياسين»، ومن المشاهد المرعبة التى حكتها له الجدة عما جرى لخاله «عطية» فى مجزرة دير ياسين: «فيها قتلت عصابات الصهاينة العريس الشاغب أكثر من مرة، لكن المرة الأولى كانت هى الأبشع والأكثر وجعا حين قيدوه إلى بوابة المنزل، قبل أن يحضروا عروسه من الغرفة، ويبقروا بطنها أمام عينيه، وينتزعوا طفله برأس الحربة المعلقة بالبندقية، ويعلقوه بها، كانوا يرقصون فى مجون، مستمتعين بتخبط الأم فى دمائها، والتى كانت رغم حشرجات الموت تحاول جاهدة الوصول لوليدها المشلوح على رأس الحربة، لكنها سرعان ما لفظت أنفاسها الأخيرة، وإن ظلت يداها مرفوعتين إلى الأعلى، وصرختها معلقة فى الفضاء قبل أن تنغرس الحربة نفسها فى قلب عطية».
يستمع «سامى» إلى حكايا «أبى المجد» فى الزنزانة، وينصت لقلبه وهو يصف حبيبته نجمة فيقول لنفسه: «ثمة خيط خفى ما بين تلك السنديانة العجوز التى اعتاد أن يعانق جذعها، وهو يحفر عليه اسم حبيبته الفلسطينية «جنى»، وبين تلك الزيتونة التى تحتضن نجمة».
كان حزينا لأن حبيبته اضطرت للزواج من ثرى خليجى، أما «سامى» نفسه فقد تعرض لتجربة قاسية، فقد تم استغلاله من قبل جماعة متطرفة يتزعمها شيخ، يقول له المشرف على معسكر التدريب: أنه يستحق التهنئة لأنه مثل طلاب الجنة صابرون مثابرون لا يسألون»! قال له: أبشر يا أخ سامى، حوريات الجنة بانتظارك».
لكن وعى «سامى» كان أكثر فهما وتمردا فكان يسائل نفسه: «ما للحوريات، والعدالة الضائعة فى متاهات التنظير، وزواريب المحسوبيات، وقلاع المتنفذين؟ يجرفه الحنين إلى شوارع بيروت بأضوائها وضجيجها؟
توهج وعى سامى، وأدرك خداع الشيخ ومعاونيه فقرر الهرب من المعسكر المزنر بالحراسات، مستعيدا أكثر من مشهد سينمائى لأبطال حاولوا الفرار من الأسر «جلس خلف البوابة العتيقة التى خردقها رصاص القناصة أو الاشتباك، وربما اصطياد أحد الفارين مثله، زحف على بطنه متحديا الأشواك، وشظايا زجاجات الكولا المتناثرة على الأرض، كتم أنفاسه، وواصل الزحف رغم زخات الرصاص التى مشطت المكان، وأصمت أذنيه، ردد وهو يحمى رأسه بكفيه: «إن قدر لى ونجوت سأكتب هذا المشهد بتفاصيله، أوقف الزحف بعد أن أمسكت يد بظهر قميصه، وشدته إلى أعلى، شاب غريب مقنع يأمر بوضعه فى صندوق!
فيسأل سامى نفسه: من أين نبت هؤلاء المقنعون؟!
ورغم العتمة وعدم وجود هواء داخل الصندوق وشعوره بالرهبة، وبرودة الموت تتسلل إلى أطرافه المقيدة إلى الخلف، «إلا أنه كان سعيدا باسترداده لسامى، وحريصا على احتضانه بقوة، ولآخر نفس تختزنه رئتاه».
.. أدرك «سامى» أنه وقع فى كمين لإحدى العصابات وإن لم يتبين أهدافها أو هويتها ورغم أنه قد يقتل بين لحظة وأخرى إلا أن إحساسه بالولادة من جديد كان أقوى من إحساسه بالموت.
رائحة القدس والخليل
أما لؤى رفيق الزنزانة فقد كان كاتبا صحفيا جزائريا، فى «أعماقه» يسكن «بن بيلا» و«جيفارا» سافر إلى الشام لأنه كان يريد أن يمضى بقية عمره فى بلاد يحتضن ترابها بعضا من رائحة من «القدس» و«الخليل» أطلق بصوته مؤال الميجانا والعتابا الذى لا يزال يحفظه منذ سمعه لأول مرة فى بداية عمله الصحفى حين كان ضيفا على أحد المؤتمرات الأدبية فى سورية، لكنه صدم من المشاهد الدامية التى يراها عبر شاشة التليفزيون لهذا البلد الجميل، وأحس بالغضب، قال: «لبيك يا شام».
.. تسلل إليها مع شخص تطوع بتهريبه فتنقله ليلحق بقافلة برية تتجه إلى الشام.
وقد خضع لؤى إلى استجواب قاس أبرز سؤال فيه: ما الذى أتى بك إلى هنا؟ ماذا يفعل كاتب جزائرى فى هذا المكان؟
لم يكن المحقق الغريب يعرف أن والد لؤى أطلق عليه اسم «جيفارا الجزائر» وقد تماهى «لؤى» مع اللقب حد التوحد والانصهار وتصفه الساردة فتقول: وحين اطمأن إلى هذا التماهى بدأ يعرف طريقه إلى الزنازين، وما إن تخرج فى كلية العلوم السياسية حتى عرف وامتلك الخبرة الكافية فى لعبة السلطة وفنونها وخفاياها التى تمنح الامتيازات الخاصة لرجالها فاختار بملء إرادته أن يبقى خارج السلطة عبئا عليها، وليس لها.
عاش لؤى حياة غير مستقرة فقال لزوجته «هيام» أنه لا يريد طفلا فهو لا يخرج من زنزانة إلا ليدخل أخرى، وطلب منها إجهاض طفلهما حتى يجنبها مشقة تربية طفل بمفردها، فرفضت وهجرته إلى الأبد.
ورغم أن علاقة «لؤى» بوالده كانت مسكونة بالصمت والتباعد لكن هذه الجفوة قد زالت بعد تعرض لؤى للاعتقال، وهو نفسه شعر بالارتياح لأن اعتقاله يفجر كل هذه الحميمية، والتواصل بينه وبين والده الذى أصبح يرى فيه نفسه، فوالده مناضل شيوعى واسمه «أكرم السعيد الذى سكنته أفكار الحرية، والعدالة والمساواة وتحرير فلسطين، وأصبحت أفكاره خبزه اليومى.
حارس الزنزانة
وكما رسمت سلوى البنا شخصيات أبطالها بمهارة، أولئك الثوار الذين ضمتهم الزنازين لكنها لم تنس أن ترسم صورة السجّان، هو الآخر كنموذج إنسانى يرزح تحت معاناته.
«الواوى» هو حارس الزنزانة الذى يهدد أبا المجد، و«سامى»، و«لؤى» بالويل والثبور، «الواوى» الذى تم اغتيال طفولته، والاعتداء على خصوصية جسده من أحد أفراد العصابة فامتلأ قلبه غضبا وحزنا وانكسارا، كانت أحاديثه مع نفسه لا تخرج إلى العلن، فهو يشعر بتمزق فى الهوية، فهو فى الأصل اسمه عبدالإله، ابن الشهيد العريف «مظفر النجدى» والشهيدة «حمدة مظفر السعدى».
كان «الواوى» يحمل بين ضلوعه مأساته التى دفعت به هوة تمزق الهوية فهو حارس الزنزانة، خادم العصابة التى لا يتورع بعض أفرادها عن انتهاكه، وهو ابن لذلك الأب الشهيد الذى يشعر الواوى بالنقمة عليه حينا وبالفخر به أحيانا، فهو فى مونولوجه الداخلى يثور عليه، يبعثه من مرقده بخياله ليواجهه بمأساته وبما حدث له:
عشت تفكر، ومت تفكر، والمقابل الوحيد الذى حصدته رصاصة فى الرأس، ووصمة عار، اقتلعت عن كتفك النجمة الوحيدة التى حصلت عليها فى كل سنوات الخدمة فى جهاز أمن الدولة الذى امتص دمك وروحك، وأبقى عينيك مفتوحتين على وسعهما حتى آخر نفس فى حياتك.
ارتجف صوته وهو يقول:
«لو قلت حاضر سيدى، لما كان اليوم اسمى الواوى..
لقد ألقوا بزوجتك وولدك إلى الشارع
يتأمل الواوى - أو جامع الجثث - وحارس الزنزانة أحوال المساجين فى المسلح المزنر بالديناميت، ويفكر بأمرهم الذى يذكره بموقف أبيه فيقول فى نفسه: (لماذا تستعجلون النهاية، لم أر فى حياتى أحدا مثلكم يطلب الموت بهذا الإلحاح، إن كنت تعتقدم ذلك بطولة أو رجولة فأنت مجانين، مجانين وحمقى، أوشك أن يسألهم إن لم يكن هناك من يستحق أن يعيشوا من أجله، طفل مثلا، طفل يشبهه، صار اسمه «الواوى» لأن والده أصر أن يموت بطلا.
ورغم الصراع الدائر طوال الوقت بين الواوى والسجناء الثلاثة إلا أن شيئا من داخله كان يصرخ ضد وضعه، ضد جمع الجثث، ورائحة الموت، ضد ما يتعرض له من انتهاك، فيتحول قلبه رلى الوقوف بجانب السجناء، يصطحب «أبوالمجد» إلى خارج الزنزانة، وهو يضمر أمرا، يظنه السجناء شرا، لكن أبا «المجد» عاد بملفات ثلاثة و«لؤى» و«سامى» وكل ما يخصهم من أوراق، كما عاد بملفه أيضا.
وهنا تدب الأسئلة الحائرة فى نفوس السجناء، ويعتقدون أن هناك فخا منصوبا لهم، وأن «أبا المجد» قد باعهم لكن معرفتهم به، وتوحدهم مع نجمة دفعهم للتفكير فى الأمر من جديد.
نصحهم «الواوى بالهرب من النفق باتجاه حقل الذرة ومن هناك يجدون طريقهم بعيدا عن الديناميت الذى يزنر المكان.
لقد عرف «الواوى» أن «أبا المجد» من البلاد المقدسة، سمعهم يقولون ذلك، فيصارحه بذلك فيقول له باعتزاز: «فلسطين اسمها فلسطين».
فيقول الواوى: (أعرف أنها «فلسطين» حدثنى أبى عنها قبل أن يقتلوه، تابع بمرارة: صحيح أننى كنت صغيرا جدا لكنى أدركت أنها تعنى له الكثير.
ثم يسأله «الواوى»: سمعت أحدهم يقول لرفيقه: إن هذا العجوز صيد ثمين، أريد أن أفهم».
ضحك أبوالمجد وسأله مداعباً: حتى لو كلفك السؤال حياتك؟!
فردّ «الواوى» بحزم: حتى لو كلفنى حياتى، وتابع بشيء من الغضب «يدهشك أن يحاول شخص مثلى أن يفهم».
ويفصح المونولوج الداخلى للواوى عن حيرته: منذ متى كان الفهم قضية تشغل رأسه وتقلقه؟، ولماذا الآن ومع هذا العجوز تحديدا؟
تساءل وهو يتأمل خطوط الوجع الزرقاء المحفورة تحت عينيه: لا يمكن أن تكون هذه الملامح الطيبة لإرهابى خطير!، ولكن ماذا يعنى ذلك؟
لعلها المرة الأولى التى يسمع فيها هذا المصطلح الذى أربك الجميع وخيّرهم، يقتلوه أو لا يقتلوه، يسلمونه أو يتحفظون عليه، ويرفعون السعر؟
ارتفع صوته بالسؤال: لماذا أنت مشكلة لا حل لها؟ هذا ما أريد أن أفهمه؟
شمس وحرية وحياة
أشعل «أبوالمجد» النار فى الملفات الثلاثة فاطمأن «سامى» و«لؤى» وزالت شكوكهما، نصحهما «الواوى» بأن يسرعا بالهرب، وأوصاهما إن كتبت لهم الحياة أن يتذكروه باسمه «عبدالإله» وأن يكتبوا فوق قبره.. هنا يرقد عاشق نجمة، «عبدالإله ابن مظفر النجدى»، وأن يزرع إلى جانب غصن من زيتونة نجمة، ويؤتى به من هناك، من «فسطين» التى أعادت له اسمه، وهويته».
أما «أبوالمجد» فقد أشار لهم إلى البوابة ليخرجوا منها بعد أن تمكن هو و«الواوى» من الهجوم على «موسى» الذى كان يريد أن يقبض ثمن تسليم «أبوالمجد» حيا، فأطلق «الواوى» على «موسى» الرصاص، وتحرر «لؤى» و«سامى» وقال لهم «أبوالمجد»:
«خلف هذه البوابة شمس وحرية وحياة».
وعلا نداؤه: أنا هنا يا يافا، أنا مجد ابن فؤاد ابن الحاج زكريا ابن الحاج خليل.
وحلّق بعيدا، حيث زيتونة نجمة، شدّه نداؤها ففتح لها ذراعيه، وتماهى مع جذعها الضارب فى حضن الزمن».
.. إنهم جميعا عشّاق نجمة «فلسطين» الوطن والعودة، موال الميجانا والعابا،.. «يا روح الروح سَلّم على أحبابنا»، على الزيتونة التى تتنفس فى قلوبنا من ألف عام أو ألفى سنة أو ما يزيد، وفيها يكمن سر الحياة وخبزها.