رحلة 10 سنوات لإنقاذ أكباد المصريين
كيف تحولت المحنة إلى منحة؟
تقرير: بسمة مصطفى عمر
نقطة تحول فارقة فى رؤية مصر للتنمية المستدامة، وتعزيز نظامها الصحى الشامل والرقمي، بعد أن استطاعت تحويل أكبر تحدٍ صحى إلى قصة نجاح.
القضاء على الالتهاب الكبدى الوبائى «سي»، كان واحدًا من أكبر التحديات والذى كان بمثابة ثالث أكبر سبب للوفاة فى العالم.
أصبحت مصر نموذجًا يحتذى به فى الصحة العامة عالميًا، وبعد أن كانت أعلى معدلات للإصابة بفيروس سي، مستهدفة مكافحة أمراض أخرى بفاعلية مماثلة، وتعزيز مكانتها كدولة رائدة فى تقديم الرعاية الصحية.
تغلبت مصر على التحدى الأصعب، وبعد أن حصلت على العلاج بنسبة 1% من سعره العالمى عام 2014، نقلت تكنولوجيا صناعة الدواء بعدها، وتوطنت فيها، وعالجت الملايين وتحملت تكلفة العلاج كاملة.
وأشادت المنظمات الصحية الدولية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، بالتجربة المصرية، بعد أن حققت إنجازًا تاريخيًا بعلاج حوالى 4.1 مليون مريض، وفحص أكثر من 60 مليون مواطن فى وقت وجيز، من خلال المبادرة الرئاسية لمسح الأمراض السارية وفيروس سى.
وامتلكت مصر قاعدة بيانات صحية ضخمة عبر هذه المبادرة، مثلت واحدًا من أحجار زوايا فى استراتيجيتها للتحول الرقمى فى القطاع الصحي، حيث تمثل هذه القاعدة أساسًا لتطوير نظام صحى رقمي، أتاح الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة، وتحليل الأنماط الصحية للسكان.
هنا تستعرض «صباح الخير»، كيف تخطط الحكومة ممثلة فى وزارة الصحة للاستفادة من هذه البيانات؟، وخططها لضمان توسيع نطاق النجاح ليشمل أمراضًا أخرى، وكيف يضع هذا التحول الرقمى مصر على خارطة الدول الرائدة فى القطاع الصحي؟.
قصة كفاح
كانت مصر فى عام 2014 الأولى عالميًا، فى معدل الإصابة بفيروس سى، بنسبة 7% بين السكان البالغين وفقًا لتقديرات البنك الدولى.
مما يعنى أنه كان أكثر من 1 بين كل 5 مصريين، تتراوح أعمارهم بين 50 و59 عامًا مصابًا بالفيروس.
وكانت لهذه المعدلات تأثيرات اقتصادية سلبية، أدت إلى انخفاض فى الإنتاجية.
وبعد مراجعة نماذج متعددة من البنك الدولي، اختارت الدولة المصرية القضاء على الفيروس كأفضل خيار اقتصادى وصحي، وعالجت المرضى بالعلاجات الجديدة والمستوردة فى 3 شهور، امتدادًا لرحلة العلاج الأقسى عبر حقن الإنترفيرون التى بدأت قبلها بسنوات، وكان يحقن بها المريض أسبوعيًا ولمدة عام كامل.
وأطلقت المبادرة الرئاسية «100 مليون صحة» عام 2018، التى حققت نجاحًا هائلًا بالقضاء على الفيروس، حيث استهدفت فحص أكثر من 60 مليون مواطن، وعلاج 4.1 مليون مريض بالمجان، بتكلفة إجمالية 530 مليون دولار.
ونفذت الحملة على 3 مراحل، عبر استخدام 6 آلاف موقع فحص ثابت، وأكثر من 8 آلاف فريق متنقل فى جميع المحافظات، وتخصيص 1079 سيارة للوصول إلى 57% من المقيمين بالمناطق الريفية والنائية، إلى جانب إنشاء مركز اتصال للمتابعة والإجابة على استفسارات المواطنين.
ونجحت مصر فى التفاوض لشراء مستلزمات الفحص والعلاج بأقل الأسعار، ما مكنها من تقديم العلاج الفعال مجانًا، وبلغت نسبة الشفاء 98.5% باستخدام الأدوية المضادة للفيروسات المصنعة محليًا، وانخفضت تكلفة علاج الشخص الواحد فى مصر إلى 58 دولارًا، مقارنة بنحو 900 دولار فى الدول منخفضة الدخل و100 ألف دولار فى الدول مرتفعة الدخل.
وأخيرًا حصول مصر على «الشهادة الذهبية» من منظمة الصحة العالمية، باعتبارها أول دولة تدخل المربع الذهبي، لجهودها فى القضاء على الالتهاب الكبدى الوبائى المعروف بفيروس سى.
عكس الانخفاض الحاد فى معدلات انتشار فيروس سى، نجاحًا ملموسًا فى تطبيق استراتيجيات مصر للفحص والكشف المبكر، والعلاج المكثف بالمجان، الذى كان من العوامل الحاسمة فى تقليص نسب الإصابة، حيث كانت تكلفة العلاج تصل إلى حوالى 28 ألف دولار للعبوة التى تكفى 28 يومًا، وتتضاعف فى دورة علاجية من 8 إلى 12 أسبوعًا، ومع التركيز على التصنيع المحلى للأدوية، تمكنت مصر من تقليل تكلفة العلاج بشكل ملحوظ حتى وصلت إلى حوالى 1600 جنيه، للعلاج الكامل لمدة 3 أشهر.
ساهم انخفاض سعر العلاج، فى إتاحته لآلاف المرضى بالمجان من منتفعى التأمين الصحي، وعلى نفقة الدولة لغير القادرين، مما عزز الجهود الوطنية فى مكافحة المرض، وتحقق ذلك عبر تعاون مصر مع الشركات الدولية، لتطوير قدرات التصنيع المحلي، والتى مكنت مصر من تقديم العلاج بأسعار تنافسية، فانخفضت تكاليف العلاج بشكل تدريجي، مع ضمان تحقيق معدلات شفاء مرتفعة، مما جعل من تجربة مصر فى مكافحة فيروس سى نموذجًا يحتذى به عالميًا.
ما بعد الإشهاد الدولى
«نحن لا نحتفل بنجاح، بل نؤسس لنظام صحى مستدام، يتماشى مع متطلبات العصر»، بهذه الكلمات أعلن الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان، عن استراتيجية صحية جديدة، تستند إلى النجاحات السابقة فى القضاء على فيروس سي، فلم يكن مكافحة هذا الوباء نهاية الرحلة، بل البداية الحقيقية لإعادة هيكلة النظام الصحى بالكامل.
وخططت وزارة الصحة للحفاظ على استدامة النجاح فى مكافحة فيروس سي، بإطلاق العديد من المبادرات، لاستكمال جهود «100 مليون صحة»، وأهمها الكشف المبكر بين طلاب المدارس، والكشف عن سرطان الكبد، والتى ركزت على الوقاية المبكرة والعلاج الفورى.
ووفقًا لما أعلنته الوزارة فقد استهدفت مبادرة فحص «طلاب المدارس» للمرحلتين الإعدادية والثانوية، ضمان الحماية المبكرة، والحد من احتمالية العدوى.
وأشارت النتائج إلى فحص ما يقرب من 6 ملايين طالب سنويًا، منذ بداية انطلاق المبادرة فى 2019، ليصل العدد الإجمالى إلى حوالى 30 مليون طالب خلال عام 2024.
أما عن مبادرة الكشف عن «سرطان الكبد»، فهدفت للاكتشاف المبكر لحالات السرطان، وخاصة بين الفئات الأكثر عرضة، ومن فوق الـ40 عامًا، إلى جانب مرضى الكبد المزمن، والمتعافين من فيروس سي، وعبر استخدام أحدث الأساليب التقنية، وبلغ عدد المفحوصين أكثر من 2 مليون مواطن حتى عام 2024، بمتوسط 400 ألف شخص سنويًا.
وتم اكتشاف نحو 20 ألف حالة فى مراحل مبكرة، مما زاد من فرص نجاح العلاج، وارتفاع نسب الشفاء، وبالتالى قلت نسب الحالات التى تحتاج إلى تدخلات علاجية مكلفة، مما ساهم فى تقليل العبء الصحى على النظام الطبى.
وساعدت نتائج المبادرات، فى توجيه الخطط الصحية المستقبلية، وتعزيز المرافق الطبية المخصصة لعلاج الكبد، وتطوير برامج الدعم للمصابين، حيث تم إنشاء وحدات صحية إضافية وتجهيزها بأحدث التقنيات لمتابعة المرضى، مما عزز قدرة مصر على التعامل مع مثل هذه الحالات بفعالية، وكذلك القدرة على الوقاية من أمراض الكبد، ومكافحة الأمراض المتعلقة به.
وتسعى وزارة الصحة إلى استثمار هذا النجاح لوضع خطط جديدة، للتقليل من عبء الرعاية الصحية، من خلال دمج قاعدة البيانات فى أنظمة الرعاية الأولية، لتمكين الأطباء من اتخاذ قرارات علاجية أفضل ومبتكرة، وتوسيع نطاق الفحص الدوري، وتعد قاعدة البيانات التى أنشأت من خلال المبادرة الرئاسية «100 مليون صحة»، أحد الركائز الرئيسية فى تعزيز النظام، وبعد أن وجهت الجهود الهائلة للقضاء على فيروس سي، لوضع أساس متين للكشف المبكر عن أمراض أخرى وخاصة المزمنة.
نقل التجربة المصرية
إشادة منظمة الصحة العالمية بنجاح مصر فى القضاء على فيروس سي، وضع التجربة المصرية نموذجًا، ومصدر إلهام لدول أخرى تواجه تحديات مماثلة، مما يدل على دقة التجربة ودراستها بشكل جيد.
وهذا ما يجعل مصر الآن تشارك فى نقل تجربتها الناجحة لحوالى 14 دولة، لتقديم الدعم الفني، والطبي، ومن هذه الدول، غانا، وبالفعل أمدتها مصر بأدوية فيروس سي، حيث تم توقيع اتفاقية لتقديم العلاج لنحو 50 ألف مريض غانى مجانًا، وتجرى محادثات بين مصر وغينيا، لنقل التجربة المصرية، وتدريب الأطباء الغينيين على أحدث بروتوكولات العلاج المصرية، إلى جانب إرسال الأدوية، وهناك مبادرة أيضًا مع جنوب السودان لتبادل الخبرات والعلاجات، وتعتبر تنزانيا وكينيا وملاوي، جزءًا من هذه المبادرة.
وفى الإطار تهدف الدولة المصرية إلى بناء منظومة صحية رقمية أكثر شمولًا، تعتمد على تحليل البيانات الصحية، واستخدام التقنيات الحديثة فى الكشف الدورى المبكر للوقاية من الأمراض، وتوعية المجتمع من خلال الحملات التثقيفية لتعزيز السلوكيات الصحية، وكذلك تعزيز البنية التحتية الصحية، والمختبرات الطبية، وتوسيع برامج التدريب الطبى.
وهذا ما جعل الدولة تخطط لتوسيع استخدام التكنولوجيا فى تقديم الخدمات الطبية، مثل التطبيب عن بعد، وأرشفة الملفات الصحية إلكترونيًا، وتقديم خدمات صحية مخصصة اعتمادًا على التحليلات الذكية للبيانات بالتعاون المصرى مع شركات تقنية عالمية، لتعزيز قدرتها على تصميم منصات وبناء أنظمة صحية رقمية شاملة، لرفع كفاءة تقديم الخدمات الطبية بأقل التكاليف.
وأثار نجاح مصر فى القضاء على فيروس «سي»، الاهتمام الدولى فى مجال الصحة الرقمية، حيث بدأت مصر بالفعل فى استخدام ما لديها من قاعدة بيانات صحية، لتحسين الرعاية الطبية، وهى الآن تسعى لتعزيز ذلك عبر تبنى تقنيات أكثر دقة فى تقديم الخدمات، وتحليل الحالة الصحية للمرضى فى أسرع وقت.
وأوضح تحليل الأرقام المرتبطة بالقضاء فيروس سي، قدرة مصر على استثمار البيانات الصحية فى بناء قاعدة مركزية، وتطوير برامج فحص شاملة، وعلاج مجاني، استطاعت من خلاله تقليص نسب الإصابة، فى إحدى نقاط الانطلاق نحو التحول الرقمي، والتعاون الدولي، لتصبح مصر دولة رائدة فى تقديم الرعاية الصحية الرقمية.