الجمعة 6 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

انتقد ناصر رسوماته فى اجتماع مع رؤساء التحرير وقال إن مصر ليست نساء نادى الجزيرة ـ حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة 21

لماذا هاجم عبدالناصر حجازى؟!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

 

 

حجازى رسام الكاريكاتير هو أحد أبرز ملامح «صباح الخير».. فهو يتمتع بعذوبة وصدق وانغماس فى حياة الناس، ونجاح فطرى فى التعبير عنهم، وعن مزاجهم الخاص كمصريين، فهو لا يتفلسف، ولا يتمنظر.

إنه السهل الممتنع.. الذى لا مثيل له، عالم كامل متكامل وحده!

 

 

 

أردد هذا الكلام وأنا أتذكّر حكاية رواها فتحى غانم، بعد سنوات طويلة من وقوعها فى حديث بمناسبة عيد الميلاد الأربعين لـ«صباح الخير» فى يناير 1996.

قال إنه فى اجتماع مع رؤساء تحرير الصحف عقده الرئيس جمال عبد الناصر بعد قليل من صدور قانون تنظيم الصحافة (التأميم) هاجم كاريكاتير حجازى بشدة.. وقال فتحى غانم أنه شعر بأن المتكلّم ليس زعيم الثورة، لكن الصعيدى الذى بداخله، فهو رجل يتحفظ على رسم الفاتنات الجميلات بتفاصيل أجسادهن.. ويعترض على تصوير المرأة خائنة تخفى عشاقها فى الدولاب!

كاد عبد الناصر يصرخ وهو يقول أن هذه ليست مصر.. مصر ليست نساء نادى الجزيرة.. مصر كفر البطيخ!

ويروى فتحى غانم الذى حضر هذا الاجتماع الوحيد مع الرئيس، عندما كان رئيسا لتحرير «صباح الخير» أنه تعامل مع الأمر بهدوء.. ولم يبلغ حجازى بما جرى.. ولا أشار له بأى شكل عما يرسمه، تركه على سجيته.

 

 

 

 وعندما سئل عن سبب تصرفه بهذا الشكل كانت إجابته أن الفنان حرّ فى عمله ولست رقيبا عليه.. رقيبه هو جمهوره، وجمهور حجازى يحبه ويستمتع بأفكاره ورسومه وسخرياته من مختلف الحالات والأشخاص.

وعندما تعرّفت أنا على هذا الفنان الذى لا يتكرر، أصبحنا أصدقاء.. ولا نحتاج إلى كلام كثير.. فهو قليل الكلام، كثير التأمل، يتمتع بموهبة الاستماع إلى الصديق والاندماج فى الصداقة.

 

 

 

 ومن ملامح شخصيته الإجادة والتجويد والتجديد فى عمله.. وهو لا يحب الضجيج أثناء انشغاله برسم أفكاره الكاريكاتيرية، ولهذا فضّل أن يأتى إلى المجلة فى الصباح الباكر، حيث لا أحد غيره وغيرى، فأنا أحضر يوميا فى الصباح.. ثم فى الليل وآخره، وكان حجازى من كائنات الليل فى «صباح الخير» حيث الهدوء والتأمل والابتكار.

 

 

 

أتاح لى هذا النظام الاقتراب أكثر من عالم حجازى، فعرفت حكاياته عن بداياته، وعرفت عن الفقر الشديد الذى نشأ فيه فى طنطا..وعرفت عن دور عمنا حسن فؤاد فى اكتشافه ودعمه وعرفت كيف اختار فن الكاريكاتير موضوعا لحياته وعمله.. حكى لى عن تأثره بالأساتذة الكبار وتفضيله للصبغة السياسية على الاتجاهات الأخرى التى كانت شائعة فى صحافة «أخبار اليوم».. التسلية والترفيه وكأننا بلا مشاكل ولا أهداف للمستقبل!

أدركت أن هذا العبقرى البسيط المظهر يؤمن برسالة الفن، ويرفض الفكرة الشائعة عن أن رسام الكاريكاتير هو مجرد «صنايعى» يتلقى الأفكار من رئيس التحرير أو غيره ويصبها فى «الرسماية».

   هو نوع آخر.. يفكر بنفسه وله رؤية ورؤيا.. ولا ينتظر من يملى عليه الأفكار.. وهكذا الحال فى مدرسة «صباح الخير» و«روز اليوسف» كما عبّر عنها فتحى غانم، ومن هنا جاءت شجاعة وإبداع وتميز وتفوق فنان مثل حجازى الذى لا مثيل له والذى كان كل من يدخل عالم الكاريكاتير يبدأ بتقليده.

 

 

 

ولا أنسى الإشارة إلى أن موقف فتحى غانم كان امتدادا لمنهج إحسان عبد القدوس الذى كان يفاجأ بمكالمة من الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإعلام تحتج على أحد رسوم الكاريكاتير.. لكن إحسان لم يكن يبالى بانزعاج السلطات، ولم يكن يتدخل فى عمل رسامى الكاريكاتير.. فهو يرى أن الفنان حر ولا يجب التدخل فى عمله، ويندهش لانزعاج السلطات من «رسماية»!  

 كوكب حجازى

ومن عجائب كوكب حجازى.. وهو فعلا كوكب وحده فى دنيا الكاريكاتير، أنه يرسم ويرسم ويرسم متفاعلا مع أحوال البلد وظروفها وعيوبها ومشاكلها وتطلعاتها، ولا يشغل نفسه بما إذا كانت رسومه نشرت كلها أو بعضها!

 

 

 

يقول لي: أنا شغلتى أرسم بحرية، ورئيس التحرير عليه مسئولية وعليه رقابة وعليه ضغوط، فالأمر متروك له فيما يتعلق بالنشر، وكل رؤساء التحرير الذين عملت معهم كانوا يعرفون حدودى وحدودهم.. فلا يطلب منى أحدهم أن أرسم شيئا، فقط يتركون لى ولزملائى حرية التفكير والتعبير، وطبعا هناك رسوم كثيرة لم تنشر، لكن هناك رسومًا أكثر نشرت.

  كنت أقول لحجازى فى جلساتنا الهادئة فى الصباح الباكر أو فى الليالى الطويلة، هو يفكّر ويتأمل ويرسم، وأنا مشغول بعملى لضمان خروج المجلة فى أحسن ثوب.. كنت أقول له أن ملاحظتى تشير إلى أن قراء وقارئات «صباح الخير» يحبونها بسبب الكاريكاتير أولا.. فيشاركنى هذه الملاحظة ويضيف أن الكاريكاتير يعيش مع الناس اللحظة الحاضرة ويواجه المشكلات التى يعيشها المجتمع والناس بشكل مباشر.. وفى ساعتها، والكاريكاتير فن النقد الساخر لحياتنا بهدف إصلاحها، وهو هدف القراء أيضا!

 

 

 

نضحك عندما نطالع رسوما  كاريكاتيرية فى صحف أخرى، لا تستهدف سوى إضحاك القارئ، فيقول لى: بعض الناس فى صحافتنا يعتقدون أن رسام الكاريكاتير مهمته التهريج.. لسنا هنا لتسلية القراء بالنكات، وهذا فى الحقيقة دليل على الجهل من ناحية والاستخفاف بالرسالة الصحفية وأرى أنه أيضا يعكس فى نظرى نوعا من عدم الوطنية وعدم الشعور بالمسئولية.. صحيح أننا نعتمد على السخرية والفكاهة، لكن نستخدم هذه الفنون فى المشاركة فى نهضة المجتمع وليس فى تمييع القضايا.. والتهريج، لسنا مهرجين.

ومن أبرز ملامح شخصية هذا العبقرى البسيط هو صفة الوفاء، فقد حكى لى كيف أن عم حسن فؤاد تبناه منذ لحظة وصوله القاهرة قادما من طنطا ولا يعرف أحدا فى العاصمة الكبيرة الغامضة فى عينيه.

 التقاه زائرا لمجلة «التحرير» التى يشرف على إخراجها ورحب به وكلفه ببعض الرسومات الصغيرة.. وكان يحضر يوميا للمجلة دون أن يكون مكلفا بشىء .. وعندما ترك حسن فؤاد المجلة ليقوم مع أحمد بهاء الدين بإصدار «صباح الخير» سنة 1956 طلبه للعمل معه وقدمه لبهاء رئيس التحرير وعرفه على إحسان اللذين قدماه لصاحبة الدار التى تحمل اسمها «روزاليوسف» وقررت تعيينه فى المجلة الجديدة.. وهنا يعترف حجازى بالفضل لعمنا حسن فؤاد.. وكيف أنه شجعه على أن يكون لنفسه شخصية لها رأى تعبر عنه بالكاريكاتير.

 

 

 

من دردشاتنا القصيرة وجدته دائما يشير إلى أن السخرية كفن ليست من ابتكار أى رسام كاريكاتير، فهى فن شعبى اشتهر به المصريون وتميزوا به عن شعوب أخرى كثيرة.. المصرى يستخدم السخرية كسلاح لمواجهة ما يعترضه من مشاكل وعقبات.. ويعرف أنها سلاح فعال ساهم بقدر كبير فى التغيير الاجتماعى والسياسي. 

وتساءل حجازى وقتها: ليه ما حدش درس الموضوع ده دراسة علمية؟!

   كنت مفتونا بطريقة حجازى فى رسم البنات والنساء، وعندما تحدثنا عن المرأة المصرية وجدته يراها غير موجودة!

مقهورة وتُعامل كما لو كانت عبئا أو كمّا زائدا عن الحاجة.. وكثيرا ما ردد أن حالنا مش ح يتعدل إلا لو عدلنا حال المرأة.

   ومعروف إن حجازى لم يدخل كلية الفنون الجميلة التى تخرّج فيها كل من حوله من رسامى الكاريكاتير فى «صباح الخير» ماعدا زعيمهم وأستاذ الموجة الأحدث فى هذا الفن صلاح جاهين.. بينما جورج وبهجت ورجائى وإيهاب واللباد، درسوا فى كلية الفنون الجميلة فى حى الزمالك وشارك حجازى معهم فى تأسيس مدرسة الكاريكاتير المصرى فى «صباح الخير» و«روز اليوسف» .. 

ويبدو أن عدم دراسة حجازى الأكاديمية للفن.. وموهبته الفطرية وطبيعته الميالة إلى البساطة والتعبير عن الشارع والحارة وهى البيئة التى نشأ فيها فى طنطا هى التى شكّلت شخصيته الفنية المتفردة، فهو ابن أرياف بينما بقية الزملاء رسامى الكاريكاتير، جاهين وبهجت وإيهاب واللباد، من أبناء القاهرة.. ومن هنا جاء تميزه وتفرّده بحيث لم يكن له مثيل منذ بداياته فى 1956 وحتى آخر أعماله.

وأجمل ما فيه كما لاحظت من واقع سنوات الزمالة والمتابعة لأعماله المختلفة، هو تواضعه وعدم تعرّض تكوينه الشخصى لمرض النرجسية والتعالى والعنطزة الفارغة.

وكان يستجيب لرغبة أحمد بهاء الدين فينضم إليه عندما يتولى رئاسة دار «أخبار اليوم» أو دار «الهلال».. لكنه سرعان ما يعود إلى بيته «صباح الخير».

ولى معه ذكرى جميلة هى أنه رسام الكاريكاتير الكبير الأول الذى رسمنى ونشر «الرسمة» فى المجلة دون أن أطلب منه ذلك!

والذى لا يعرفه جمهور حجازى من القراء والقارئات وهو جمهور كبير جدا، يستمتع بأعماله وفنه ونبوغه وسخرياته الذكية العميقة، أنه كان يعيش حياة أشبه بالناسك أو الكاهن، منطويا على نفسه مع مجموعة محدودة من الأصدقاء.

وأنه كان شخصية شديدة الخصوصية، شديدة الحزن ولم يكن غريبا أن نراه فى لحظة وهو فى قمة إبداعه، ينطوى على نفسه ويترك العمل الصحفى ورسم الكاريكاتير، ويتجه إلى كتابة ورسم قصص الأطفال.

 وبعدها بسنوات يترك عالم القاهرة المزعج هذا ويعود إلى عالمه الأول فى حوارى طنطا.. إلى أن يرحل صانع البهجة.. حزينا مكتئبا!                                       

  وفى الأسبوع المقبل نواصل