الثلاثاء 14 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أم الرّجال

دفتر العسكرية المصرية ملىء ببطولات أبنائه، وعلى حب الوطن يجتمع نساؤه قبل رجاله، وها هى بطلتنا السيدة فرحانة « أم داوود» أكبر مناضلة وفدائية سيناوية.



قسمات الزمن محفورة على وجهها، وبطولات الوطن مرسومة على جبينها، فعمرها الذى تخطى الـ105 أعوام يشهد على مهام وبطولات ساعدت بها الجيش المصرى فى حروبه ضد إسرائيل بدءًا من 1967 مرورًا بحرب الاستنزاف، وحتى نصر 1973، فكرمها الرئيس عبدالفتاح السيسى، ووجه بإطلاق اسم السيدة فرحانة سالم على أحد أحياء شمال سيناء وعلى أحد المحاور المرورية ضمن المشروعات التنموية فى القاهرة؛ تقديرًا لدورها البطولى فى خدمة الوطن.

السيدة فرحانة حسين سالم سلامة أو «أم داوود»، كما تحب أن يُطلق عليها، لها تاريخ مشرف فى خدمة الوطن، تنتمى إلى قبيلة الرياشات التى تمتد بين مدينتى الشيخ زويد ورفح بشمال سيناء، وتقطن حاليًا بحى ضاحية السلام بالعريش.

السيدة فرحانة أحد أركان النضال السيناوى المشرف، فهى نموذج للوطنية الخالصة بعد أن خدمت الوطن فى أصعب المواقف، حتى أصبحت رمزًا للنضال بين أبناء سيناء.

حصلت أم داوود على تكريمات عدة؛ أبرزها من رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى عام 2021، خلال تكريم الأمهات المثاليات. كما نالت تكريمًا من المجلس القومى للمرأة الذى أنتج عنها فيلمًا تسجيليًا يستعرض تاريخها المشرف.

تزوجت «أم داوود» من إبراهيم حسين أبورياش، وأنجبت منه 3 أولاد هم: داوود الذى أنجبته فى سن صغيرة، وعبدالرسول، وعبدالمنعم، ولدى السيدة فرحانة 16 حفيدًا من أبنائها الثلاثة.

بعد نكسة عام 1967، اضطرت أم داوود وعائلتها للهجرة من سيناء، مصطحبة معها ست عائلات أخرى، إلى منطقة سمالوط بالمنيا، ثم إلى مديرية التحرير بمحافظة البحيرة، ولكن لم تستسلم لواقع الحرب، بل قررت بدافع حبها العميق للوطن خدمة بلدها، لتكون إحدى السيدات السيناويات اللاتى شاركن فى النضال الوطنى ضد الاحتلال الإسرائيلى.

طلبت أم داوود من أحد مشايخ سيناء التوسط لها للعمل مع المخابرات المصرية. ولأنها تعمل فى تجارة الأقمشة والملبوسات، كانت تتنقل بين القاهرة وسيناء، متخذة من ذلك ستارًا لنقل المعلومات عن تمركزات العدو وتحركاته فى سيناء. وجاءت فكرة تجارتها فى الأقمشة والملابس فى سيناء؛ كنوع من التمويه للعدو من أجل كشف مخططاته ونقل المعلومات للقيادة العامة للقوات المسلحة.

 

 

 

وتمكنت رغم عدم إجادتها للقراءة والكتابة من تسجيل ورصد تفاصيل مهمة، حيث كانت تحفظ الرموز على سيارات العدو وترسمها على الرمال حتى تسلمها لضباط المخابرات.

وخلال رحلاتها التجارية، مرت أم داوود على العديد من النقاط الاستراتيجية فى سيناء، وسجلت بذاكرتها ما شاهدته من تحركات وأعداد الجنود والدبابات، مما كان له أثر كبير فى نقل معلومات دقيقة للمخابرات الحربية المصرية.

وكانت مهمتها أيضًا القيام بنقل المعلومات إلى القيادة من عمق سيناء، لأنها تذهب إلى سيناء بصورة مستمرة، وكانت تسير على الأقدام مسافة أكثر من 50 كيلومترًا تقريبًا لجمع المعلومات، وفى ظروف جوية صعبة، سواء فى حر الصيف أو أمطار الشتاء.

مهمات صعبة

وفى إحدى المهام، تم تكليفها بنقل خرائط ومعلومات سرية من سيناء إلى القاهرة، حيث كانت تقيم عند أحد شيوخ القبائل من المجاهدين بوسط العريش وتستلم منه المعلومات، وكانت الطرق وعرة وخطرة حيث انتشرت الكمائن الإسرائيلية، فاضطرت «أم داوود» أن تقطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، مسترشدة بالنجوم حتى تصل إلى النقاط المتفق عليها.

وفى حادثة أخرى، تلقت خريطة لمطار الجورة فى الشيخ زويد، وأخفتها داخل ثوبها بعد خياطته، ثم تمكنت من إيصالها إلى القاهرة بنجاح. 

لم تكتفِ أم داوود بنقل الخرائط فحسب؛ بل حملت أيضًا أسلحة وصورًا فوتوغرافية لمستعمرات إسرائيلية فى الشيخ زويد، بفضل جسارتها وتخفيها الذكى.

وفى إحدى المرات، أوقفتها نقطة تفتيش مصرية عند القنطرة، حيث تم العثور على فيلم مخبأ فى «الصوفية» وهى الحزام الذى تلف به وسطها وعند اكتشافه، قام الضابط المصرى بتكريمها قبل نقلها إلى القاهرة لاستكمال المهمة. 

ولم تكتف السيدة فرحانة بنقل المعلومات والصور والخرائط، بل كانت «أم داوود» تُرسل رسائل مشفرة عبر الإذاعة إلى المجاهدين فى سيناء؛ عند نجاح مهمتها، فكانت تبعث سلامها عبر الراديو، فيقوم المجاهدون بالاحتفال وتوزيع الحلوى فرحًا بنجاح العملية.

وفى إحدى المرات أثناء إحدى المهام قبض عليها فى كمين إسرائيلى، وتم استجوابها فى منطقة كرم أبوسالم، لكنها لم تتوقف عن النضال؛ حيث تظاهرت بالموافقة على التعاون معهم وطلبوا منها تجنيد أشخاص بالقاهرة، فخدعتهم بكونها عميل مزدوج لكنها عادت وأبلغت المخابرات المصرية بالتفاصيل، وحافظت على سرية مهامها حتى عادت إلى سيناء فى الثمانينيات بعد تحريرها بالكامل.

وحتى الآن تظل أم داوود رمزًا للإنسانية والعطاء، ففى مبادرة كريمة، تبرعت بخاتمها الذهبى الوحيد لصالح بناء مستشفى جديد للأورام بسيناء. وهى ملهمة للعديد من الشخصيات السيناوية.

 

 

 

وقد كرمها الرئيس فى حفل الأمهات المثاليات عام 2021، كما تمت دعوتها لحضور احتفالية اتحاد القبائل العربية والعائلات المصرية بالمدينة الأولمبية بالعاصمة الإدارية الجديدة، والتى حضرها الرئيس عبدالفتاح السيسى بمناسبة الذكرى الـ51 لنصر أكتوبر المجيد، إلا أن ظروفها الصحية لم تسمح لها بالسفر، فوجه الرئيس بإطلاق اسمها على أحد أحياء شمال سيناء، وعلى أحد المحاور المرورية فى القاهرة.

فمثل هذه النماذج لابد أن ترسخ فى ذاكرة الوطن، لتكون مثالا وقدوة تعرفها الأجيال القادمة، فالوطن لا ينسى أبناءه.