111 دقيقة من الجحيم بين العجوز والشاب
الحيرة الوجودية كما قدمها «الفنار»
د. هانى حجاج
فى قلب المحيط الأسود وعلى ضوء الفنار، نفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على الصلات مع الآخرين وتعزيزها، نتابع الأخبار بقلق، ومع ذلك نمتدح دعاة العدم، نبشِّر بسلوك استعرائى بقدر ما هو عقيم، ونصغى بلا توقف إلى لازمة مضجرة من أفعال البشر الدنيئة.
تلك هى رؤية الفيلم الأمريكى الكندى (الفنار) للإنسان، ولكن ماذا لو دخلنا الفنار نفسه وحاولنا الاقتراب واقتباس شعلة؟ إفرايم وينسلو، يؤدى دوره الممثل روبرت باتنسون ويك، شاب متعلم، فحل لا يخلو من وسامة، يدفعه حب المغامرة، وربما شبح جريمة ماضية، إلى العمل فى الفنار البعيد النائى مقابل أجر أكبر يساعده على ادخاره بعد عدة أعوام لشراء منزل آمن فى البرارى، رفيقه ورئيسه فى الفنار هو توماس، الممثل الكبير وليام دافو، فهو عجوز أرعن سليط اللسان، يشبه قراصنة القصص: غليون ولحية شائبة وساق عرجاء يزعم مرة أنها بسبب حادثة بين راهبات كاثوليكيات ثم ينسى ويدعى أنها بسبب مرض الإسقربوط فى رحلة بحرية قديمة. القصة باختصار هى أن الشاب والعجوز سوف يقضيان فترة طويلة فى الفنار، وحدهما ولا شريك ثالث سوى البحر أو العاصفة أو الشيطان، تلك الأيام التى تزداد قتامة وبرودة وقسوة عندما تهب الرياح وتعصف الأعاصير بالمحيط فلا يحضر من ينوب عنهما فى الميعاد، فتتقطع بهما السبل على الجزيرة النائية، نيو إنجلند، فى مهب الريح أوائل القرن التاسع عشر.
العجوز يستعبد الشاب من اليوم الأول، يفرض عليه طريقة نومه وقضاء حاجته فى طبق تحت الفراش، يجبره على العمل الشاق وأن يأكل الأصناف التى يصنعها من المأكولات البحرية التى لا يستسيغها ويراها مقززة وأن يعاقر الخمر التى تعافها نفسه، وما يثير حنق إفرايم أكثر هو أن توماس يمنعه من الدنو من غرفة كريستالة النور التى يشع منها ضوء الفنار كأنها شمس الليل. على أن برومثيوس العصرى يتلقى عقابه الأسطورى جزاء دنوه من النار المحرمة بأن يسقط من عل وتلتهم النوارس كبده.
أخرج الفيلم روبرت إجرز وكتبه مع شقيقه ماكس إجرز، والمعروف عنه إتقانه الشديد للأفلام التسجيلية والقصيرة، تلك الخبرة التى تجلت هنا من خلال الإيجاز فى التعبير والاقتصاد فى الأدوات، والفنار يفوز بجائزة أفضل مخرج من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الواحد والأربعين. 111 دقيقة بين العجوز والشاب فقط، كل منهما هو جحيم الآخر، سباب وتنمر واضطهاد وتحرش واقتراب مريب ورقص وكوابيس، التصوير تم بكاميرا من نوع عتيق وشريط بالأبيض والأسود وظلال سيريالية تنتمى للمدرسة الألمانية النفسية. طائر النورس المشئوم ينقر الزجاج ويشد بنطال إفرايم وينزف فى حوض الشرب، تتجسد الخواطر وتنطق وتتحقق الكوابيس حتى أن إفرايم يلتقى بضحيته وبرأس مقطوع فى صندوق صيد سرطانات البحر، بل تتخلق تحت عينيه عروس البحر لا يستر جسدها المرمرى سوى طحالب وأعشاب البحر.
علاقتهما بين مد وجزر وتباعد ما انفك يتسع بين ما يجب أن يعيشا عليه (تضامن، عطاء، ديمقراطية) وما يرغبان فى استهلاكه روحيًا وجسديًا (انتهاك، عنف، عزلة، يأس). الإنسان طيِّب وشرير، كانت تقول جورج ساند، لكنه أيضًا شيء آخر إضافى: «الفروق الدقيقة التى تمثّل غاية الفن ومبتغاه.» لا ألوان هنا وكل شيء تجريدى قح، الاستماع إلى لغة البحر، الرقص مع الآخر، الرجل الآخر والعدو، الاشمئزاز من الأنثوى الذى يمثل الوجود الحسى والجسدى والرغبة فى استمرار الحياة بكافة المواءمات الممكنة، لا يمكن فى هذه الأجواء إلا أن تكون فى صورة مجردة ممسوخة لعروس بحر هجين من مريم وحواء، أخطبوطية مغوية، أم ومومس، جمالها نبات شيطانى يستدرج الرجل إلى مصيدتها لتقوده إلى حيث لا يريد. إفرايم يتبع العجوز المتعجرف عبر السلم الحلزونى ليقترب من النار المقدسة فى غرفة نور الفنار حتى لو استدعى الأمر أن يقتله ليعرف السر المحرق: منذ أية لحظة فقدت الصور ألوانها؟ منذ أية لحظة أُفرغ العالم من جوهره، منذ أية لحظة لم تعد العلامات علامات، ومتى وقعت القطيعة التراجيدية بينه وبين ذاته وتُرك لمصيره ولم تعد الآلهة تريده كمتفرج ومشارك، لقد تُرك لنفسه لعزلته لخوفه لبحثه المحموم عن لهب المعرفة الأزلى. كُتل السحاب الرمادية لاهية لا تعبأ بالمأساة تحتها مجسدة اللامبالاة الكونية إزاء الوعى التراجيدى باعتباطية الوجود الإنسانى، وكأن الحياة حلم أو حكاية يرويها أحمق، صاخبة وعنيفة وبلا معنى، نجح مدير التصوير جارين بلاشكى مع موسيقى مارك كورفين فى إبراز الفارق بين حرية تلاطم أمواج البحر وضيق صدر الشاب وأفق العجوز، بين رحابة السماء لطيور النورس والمسار الرأسى الإجبارى فى البناء العمودى للمنارة كأنها برج بابل تتشتت فيه الأفكار والألسنة ولا يمكن الوصول للرب. والدرجات الأفعوانية تعبر عن الحيرة الوجودية للبطل الشاب الغارق فى اتساع لا نهائى لفضاءات تجهله ويجهلها، تصيبه بالذعر وتذهله أن يجد نفسه هنا وليس هناك، لأنه ما من سبب ليكون هنا وليس هناك، لماذا الآن وليس آنذاك؟ قد لا تكون الأرض مركز الكون كما المنارة هى مركز الجزيرة، لكن الإنسان يستحق أن يغدو مركز الكون الذى يعيش فيه. المشاهد من فرط واقعيتها السحرية تكاد تكون رحلة نفسية حافلة بألاعيب العقل البشرى وفانتازيا هلاوس، فى كادر محاط بالسواد من الجهات الأربع لتعميق الشعور بالكلستروفوبيا، جعلت من الفيلم تحفة كلاسيكية فى الحال.