ضليع فى قواعد اللغة العربية؟!

بقلم: تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.

كنت قد خرجت للتو من مترو باريس. وبالأخص محطة مادلان الواقعة فى الدائرة الثامنة بمدينة الجن والملائكة.
وأثناء صعودى للسلالم لفت انتباهى أحد الدكاكين الصغيرة المتلاصقة أعلى المحطة. وكان هذا الدكان على وجه الخصوص يعرض مجموعة لافتة من النظارات الشمسية الملونة التى تشبه تلك التى تميزت بها صيحات الموضة فى سيتينيات القرن الماضى والمواكبة لحركة الهيبيين.
فتوجهت نحو الدكان وأخذت أستعرض النظارات واحدة تلو الأخرى. الصفراء والحمراء والزرقاء والكستنائية والأورجوانية. وما هى إلا لحظات حتى خرج صاحب المحل الذى دخل فى الحوار مباشرة باللغة العربية وبلهجة كشفت عن هويته الجزائرية.
وما أكثر الجزائريين وأبناء المغرب العربى المجنسين والمولدين بفرنسا!
حيث بدأ حواره بابتسامة ساخرة، حيث لقبنى بالشيخ. وللوهلة الأولى استغربت من فكرة أنى أبدو له شيخًا. فأنا كنت فقط فى الرابعة والعشرين من عمرى!. لكنى تداركت السبب سريعًا، فمن المؤكد أن لحيتى الطويلة غير المهذبة هى السبب.
لكن حواره بدا كأنه اتهام صريح موجه إلى شخصى، فاستهل حديثه: أنتم المصريون من أفسدوا اللغة العربية، بل إن شيوخكم لا يجيدون تلاوة القرآن!
هنا أحسست بالضجر، فكيف يجرؤ أى شخص كان أن يوجه هذا الاتهام لأم الدنيا. فبدون أى تكلف هناك مقولة تقول: نزل القرآن الكريم فى مكة، وقُرئ فى مصر، وكُتب فى إسطنبول.
فمدارس التلاوة الأكثر تداولًا وشهرة فى العالم الإسلامى ظهرت فى مصر. وتولت تركيا مدارس تجديد الخطوط العربية، حيث لعب الخطاطون الأتراك فى العصر العثمانى دورًا كبيرًا فى تطوير الخط العربى والوصول به إلى قمة الإبداع.
وهناك دراسة أثرية أخرى تقول: نزل القرآن الكريم فى مكة، وكُتب فى العراق، وقُرئ فى مصر، وحفظ بإفريقيا.
وهو ما يؤكد من خلال المقولتين أن مدارس التلاوة الأكثر عراقة كانت بمصر.
وهناك حناجر ذهبية من دولة التلاوة أذكر منهم: الشيخ المنشاوى، والشيخ الحصرى، والشيخ عبد الباسط، والشيخ البنا، والشيخ محمد رفعت، والشيخ طه الفشنى وغيرهم الكثير والكثير. ولأنى قد زرت الجزائر من قبل، فأنا أعرف جيدًا حال اللغة العربية هناك.
فاللكنة الجزائرية مفرنجة وبها العديد من الكلمات الفرنسية المعربة بلكنة جزائرية دارجة.
وهذا بالرغم من إدراج العربية اللغة كلغة رسمية للبلاد فى أول دستور للجزائر بعد استقلالها عام 1962. إلا أن الاحتلال الفرنسى للجزائر كان له تأثيره الواضح فى كل هذا اللغط.
وعلى الفور تذكرت عندما توجهت لأداء صلاة الجمعة بأحد مساجد العاصمة الجزائر. وعند صعود الإمام إلى المنبر ألقى التحية علينا نحن المصلين. وبدأ الخطبة قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أخذ فى سرد أركان الإسلام الخمسة بالفرنسية وهو يعددهم مشيرًا على أصابع يده اليمنى!

فالموقف بينى وبين صاحب الدكان كان أشبه بالمشهد الشهير الذى جمع سليمان بك نجيب برفقة نجيب الريحانى فى فيلم «غزل البنات» الذى عرض قبل أكثر من سبعين عامًا. عندما أتى مرزوق أفندى – الفنان عبد الوارث عسر بصديقه أستاذ حمام – الفنان نجيب الريحانى ليدرس لابنة الباشا – الفنان سليمان نجيب. ويتلخص المشهد فى أن الريحانى – المدرس ظن أن نجيب – الباشا هو الجناينى وفقًا لمظهره. وسأله الباشا: شايف نفسك تقدر تسد فى الشغلانة دى.. يعنى ضليع فى قواعد اللغة العربية؟.. فى أصول اللغة العربية؟!
أو المشهد الساخر من نفس الفيلم عندما ذكر نجيب أخوات كان واحدة تلو الأخرى، وأضاف لهم ما انحل، ليرد عليه الريحانى بأنها لا من أخوات كان، ولا عمات كان ولا خالات كان ولا تعرف مِلة كان دى خالص. تمامًا كما دار الحوار بينى وبين صاحب الدكان الجزائرى.
وفى هذه اللحظة فقط قررت أن أرد على صاحب الدكان بالحجة وبدون أى حدة أو مزايدة. بعيدًا عن كل المشاهد التى أسترجعتها فى ذاكرتى. وهو ما يحتاج إلى حكمة ورزانة فى التعامل. فتوصيل المعلومة فى حد ذاته وفى هذا الموقف يعد فنًا. فوجدتنى أشرح له بأن القرآن له أحكام تلاوة، إما أن تجيدها أو لا تجيدها. فمن الصعب الحكم على شيوخ مصر بأنهم لا يجيدون التلاوة وهم دولة التلاوة. ويتم دعوتهم فى كل المناسابات حول العالم. بل إن شيوخ العالم الإسلامى يسيرون على درب شيوخ مصر ويقلدونهم فى كل المقامات السبعة، وهو ما سهل طرق الحفظ لكتاب الله.
وأسلوب الخطابة يختلف من ثقافة شعب عن آخر. فلو خطب المهاتما غاندى بأسلوبه المتوازن الهادئ بعد أن شرب لبن معزته فى شعب الجزائر لن يستمع له أحد. وعلى النقيض، لو خطب الزعيم جمال عبدالناصر بأسلوبه الجهورى فى نفس شعب الجزائر سيتابعون خطابه بكل اهتمام، بل سيفهمون كلامه بكل سلاسة. فاللهجة المصرية هى الأكثر فهمًا وتداولًا بين الدول العربية أجمع.
هنا اقتنع صاحب الدكان بكلامى، وقال مبتسمًا: والله غلبتنى يا شيخ. فضحكت أنا الآخر لإصراره على كونى شيخًا. ولأنه اقتنع بردى وبحجتى البيسطة، قرر أن يسجل هذا الموقف والحوار الذى دار بيننا بذكرى لطيفة أبدًا لن أنساها. فأهدانى النظارة التى كنت قد استقررت على شرائها. وكانت زرقاء اللون، وأنا من عشاق اللون الأزرق.
ومن جانبى أخرجت ورقة وبعض الأقلام من جيبى ورسمت له بورتريه كاريكاتورى ساخر، وأهديته إياه وصافحته ورحلت.