السبت 17 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أرواح الدراويش بين السماء والأرض

ريشة: هبة المعداوى
ريشة: هبة المعداوى

«من فات قديمه تاه».. مثل مصرى يلخص كثيرًا مما تتميز به الشخصية المصرية من فنون تراثية متنوعة كانت حلقة الوصل والتلاقى بين الحضارة المصرية وحضارات وثقافات أخرى بعيدة أو مجاورة عبر أزمنة مختلفة.



نجحت الشخصية المصرية فى فرض طابعها على هذه الفنون لتصبغها بطابع مصرى فريد، مزجت فيه بين المدح والذكر والرقص الصوفى ورقص الزار وأشكال أخرى متنوعة. 

 

هذه الفنون التراثية الشعبية عرفت طريقها إلى مسارح دول عديدة حول العالم، فالتراث الثقافى المصرى هو أحد أغنى تراثات العالم فى الوقت المعاصر، يجمع بين عبق التاريخ وجمال الفنون الشعبية التى تعكس روح المجتمع المصرى وتقاليده، ويتلاقى مع التراث العربى والإفريقى فى أشكال عديدة.

ويبقى الطابع المصرى هو الخيط الواصل بين كل هذه الفنون.

فى هذا التحقيق.. تطوف «صباح الخير» مع قرائها فى رحلة مع أشهر فنانى وفرق التراث المصرى الشعبى، الذين فسروا لنا الكثير من أسرار استمرار هذه الفنون حتى الآن. 

«مكان» الزار

يعد «الزار» من الفنون التى حافظت على استمراريتها بصعوبة، وهو من الأشكال الموسيقية التى تحتل فيها المرأة دورا أساسيًا.

وفى مصر بحى السيدة زينب «وتحديدا بجوار ضريح سعد زغلول» ما زال يوجد مكان وحيد يقدم حفلات الزار باعتباره أحد الفنون التى عاشت بعيداً عن عمليات التأثير والتأثر، محتفظا بقوامه وأصوله التى تعود إلى العصور المصرية القديمة. 

وبعيدا عن اعتبار الزار طقسًا شعبيًا يستخدم لطرد الأرواح الشريرة فى الثقافات القديمة، فإن تقديمه بوصفه فنا تراثيا مصريا خالصا. يستقطب الزوار والسائحين من دول العالم المختلفة.

يقول الدكتور أحمد المغربى أستاذ اللغة العربية بجامعة عين شمس: يمثل الزار فى حد ذاته شكلاً من أشكال الفن، على الرغم من اشتراكه فى العديد من العناصر الأصلية التى تشكل جميع الموسيقى والأغانى الشعبية المصرية، فقد جاء «الزار» إلينا من جنوب وادى النيل من شعوب شرق أفريقيا امتدادا من جنوب الصحراء الكبرى، مع شعوب «كانورى وسونجاى والهوسا»، حيث وُلدت هذه الطقوس فى بوتقة انصهار مجموعة متنوعة من التقاليد الأفريقية المختلفة، التى اختلطت بالمعتقدات المحلية، وأخذ «الزار» مجراه وانتشر شمالا وشرقا، وامتد إلى شبه الجزيرة العربية وصولا لإيران، كما امتد غربا إلى بلدان المغرب العربى وغرب أفريقيا، حيث نجد تأثيره فى «موسيقى كناوة». 

لا سحر ولا شعوذة 

يواصل مدير ومؤسس المركز المصرى للثقافة والفنون: يُصنف الزر أحيانًا على أنه شكل من أشكال الموسيقى الروحية، لأنه يرتبط بنوع من الطقوس التى تهدف إلى خلق حالة من المصالحة بين الإنسان ونفسه، وكذلك بين الإنسان والأرواح من مفهوم الثقافات القديمة للتخفيف من حدة الألم والاضطرابات الجسدية.

تاريخيا، فيقول «المغربى»: لا أحد يعرف يقينا متى دخل الزار مصر، ومع ذلك فإن انتشاره بجميع أنحاء البلاد يشير إلى أن جذوره تعود إلى قرون عديدة مضت.

فحتى وقت قريب كان بإمكاننا أن نجد الزار فى النوبة بالجنوب وفى أقصى الشمال حتى مرسى مطروح والإسكندرية وكذلك فى سيناء وصعيد مصر والدلتا.

وأضاف: هناك اعتقاد خطأ شائع بأن الزار دخل مصر فى القرن الـ19 خلال حملات محمد على فى السودان أو حفر قناة السويس، وغالبًا يتم الاستشهاد به كدليل على أن الزار لم يرد ذكره فى مجلد الموسيقى والأغانى المصرية المعاصرة لوصف نابليون لمصر، ولكن هذا رأى غير مبرر إذا اعتبرنا أن مؤلف هذا المجلد، العالم الفرنسى «فيوتو»، لم تتح له الفرصة لاكتشاف ووصف الكثير من ظلال وأشكال الموسيقى المصرية خلال السنوات الثلاث التى قضاها فى مصر فى منتصف القرن العشرين.

وتابع: من ناحية أخرى، نجد بعض المراجع والرسومات والكتابات عن الموسيقى والموسيقيين التى تركها لنا المصريون القدماء، وتشهد هذه الوثائق على انبهار الشعوب القديمة وحكامها بالفنون الموسيقية والصوتية التى جاءت إليهم من أعماق أفريقيا جنوب وادى النيل، إضافة إلى أنه من الواضح أن الزار ضم العديد من العناصر المختلفة التى تشكل الموسيقى والغناء الشعبى المصرى التى تحمل أبعادًا شرقية وعربية وإفريقية، فالتركيب الإيقاعى وإيقاعات الزار، وبعض النصوص المشتقة من اللهجات واللغات الأفريقية، تشير وتؤكد هذه الروابط القديمة.

 

 

 

غيطانى وسودانى وشادى

حول أنواع الزار قال «المغربى»: يمكن تصنيف الزار إلى 3 فئات رئيسية تختلف فى الآلات الموسيقية التى تستخدمها، وفى تنوع نصوصها وأصلها وإيقاعاتها، وتشمل الاختلافات درجات متفاوتة من الشدة والنعومة والسرعة والبطء والثبات والتغيير المفاجئ بالإضافة إلى التعدد. 

الأول هو زار أبو الغيط أو «الغيطاني»، نسبة إلى أحد أشهر المتصوفة فى محافظة القليوبية، «سيدى أبو الغيط»، وله مقام فى قرية باسمه قرب قليوب، وتأتى النصوص الغيطانية بنفس سياق الكلمات التى تميز الأناشيد الدينية بشكل عام، أى بين الذكر والمديح النبوي، والتغنى بكرامات الأولياء.

أما «الزار السوداني» أو «الزار الطنبورة» فيعتمد على آلة لها 6 أوتار، كما يعتمد على الطبول السودانية أبرزها «الشخاشيخ»، وهى نوع من الماراكاس والمنجور المصنوع من حوافر الماعز، ومن الواضح أن «زار الطنبورة» هو الوسيط بين مصر وجنوبها الأفريقى الممتد من السودان إلى تنزانيا. 

وأكمل: «زنجبار» هو النوع الثالث ويسمونه «شادي» أو «الزار المصري» الذى تؤديه النساء بشكل رئيسي، ويعتمد على آلات الطبل «مظهر وهناء»، بالإضافة إلى «الصنج شورة» و«المراكاس الشخاشيخ».

«مزاهر» هى إحدى الفرق التى تقدم فن الزار، يقول «د. أحمد المغربى» تلعب فيها النساء دورًا قياديًا، وترتبط بأقدم التقاليد التى تمارس فى العديد من البلدان، وهن آخر ممارسى الزار المتبقين فى العالم، والموسيقى التى تقدمها «مزاهر» مستوحاة من الثلاث أنماط المختلفة لموسيقى الزار.

وأضاف: الموسيقى التى تقدمها «مزاهر» طقوس مجتمعية، وتحمل تقاليدها النساء بشكل رئيسى بينما يحتل الرجال الدور الثاني، وتختلف بشكل مميز عن تقاليد الموسيقى المصرية الأخرى، وعدد قليل من الموسيقيين يصنعون الطمبورة أو يعزفونها الآن، ولا يزال رواد فرقة «مزاهر» هم فقط من لديهم معرفة بالتراث الموسيقى للزار.

من جانبها تقول مديحة المغنية الرئيسية فى فرقة مزاهر: «أغانينا تحاول أن تساعد على تخفيف التوتر لدى المستمعين.

وتوصف مديحة بأنها «عميدة الزار»، تغنى منذ كانت فى الـ11 من عمرها، وكانت والدتها أيضًا مغنية زار، وبدأت بدورها الغناء مع والدتها عندما كانت طفلة صغيرة فى صعيد مصر. 

رقص الروح 

من «الزار» إلى «المولوية» الصوفية، حيث تخوض الروح رحلة نحو الله، فى محاولة للتقرب والتأمل، كانت فرقة المولوية بقيادة رجل ذى لحية بيضاء ويرتدى الثياب البيضاء أيضا، هو الدكتور عامر التونى الذى يقول: قمنا بدمج هذه الفنون فى منصة واحدة، حيث نستخدم حركة الجسد بشكل رمزى وفلسفى للتعبير عن التأمل الروحى والتوحد مع الأفكار الصوفية بطريقة أسسها مولانا الشيخ جلال الدين الرومى منذ ما يزيد على 800 عام، ويعرفها أصحابها بأنها رحلة روحية بين الأرض والسماء، تسمو فيها النفس لترتقى إلى درجة الصفاء.

وتابع: انتشرت «المولوية» فى عدة دول عربية، كمصر وسوريا، حتى أضحت جزءا من فولكلورها الذى تمارس طقوسه حتى اليوم، وتحديداً فى المناسبات.

حول التأثيرات التاريخية فى الرقص المولوي، قال د. عامر التونى: تأثرت فكرة الرقص المولوى بالتراث المصرى القديم، حيث كانت طقوس «دوران الجسم» معروفة منذ عهد الفراعنة، وكانت تُعرف بالتنورة. هذه الفكرة تطورت فى السياق الصوفى لتصبح تعبيراً عن الانفصال عن الجسد والتأمل فى الذات، كما نجد فى النصوص الصوفية التى تتحدث عن «تطهير الحواس» والتوحد مع الأفكار.

وأضاف: تقوم «رقصة المولوية» على أساس فكرت الدوران حول النفس والتأمل الذى يقوم به من يطلق عليهم «الدراويش»، بهدف الوصول إلى الكمال المنشود، وكبح النفس ورغباتها والدوران حولها، ويعتقد أن الفكرة أتت من مفهوم دوران الكواكب حول الشمس.

وتابع: يعتبر راقصو المولوية أو التنورة أن فى دورانهم تجسيدا للفصول الأربعة، وهى صلة الوصل بين العبد وخالقه، حيث يقوم الراقص برفع يده اليمنى وخفض اليسرى إلى الأسفل، وهذه الحركة نوع من المناجاة للخالق.

وأكمل: ذاع صيت هذه الرقصة فى عهد الدولة العثمانية، وانتقلت إلى سوريا ومصر ومنطقة البلقان وبعض البلدان الأخرى، ولكن جرى التضييق عليها فى عهد «كمال أتاتورك» مؤسس الجمهورية التركية. 

أرواح الدراويش

مازلنا مع «الدكتور التونى» الذى يقول: الحركات الراقصة التى يؤديها المولوية تعبير عن الحالة المعنوية والوجدانية لأرواح الدراويش، قد تكون مرافقة لحالات انفعالية لا إرادية نتيجة التفاعل مع الموقف أو الحدث. يضيف: فى البدايات التاريخية كان الدراويش يرددون لفظ الجلالة، ومع كل ترديدة يقومون بحنى رؤوسهم وأجسادهم ويخطون باتجاه اليمين، فتلف الحلقة كلها بسرعة، وبعد فترة قصيرة يبدأ أحد الدراويش بالدوران حول نفسه وسط الحلقة، ويسرع فى حركته فتنتشر تنورته على شكل مظلة، ثم ينحنى أمام شيخه الجالس، ثم يعود لينضم إلى الدراويش فى صفوفهم.

يكمل: ويرجع سبب اعتماد راقصى التنورة على حركات دائرية إلى الحس الإسلامى الصوفي، حيث تعتبر الطريقة المولوية أن الحركة فى الكون تبدأ بنقطة معيّنة وتنتهى عند النقطة ذاتها، هذا الأداء الحركى يوازيه جانب روحى يعنى التسامى والصعود من خلال الحركة الدائرية للجسد إلى الأعلى، حيث السماء والمحبوب الأكبر عودة إليه وذوباناً فيه.

 

 

 

يضيف: عندما يدور راقص التنورة حول نفسه، فيكون كالشمس التى يلتف حولها الراقصون ويطلق عليهم «الحناتية»، كأنهم مجموعة الكواكب، ويرمز ذلك الدوران المتعاقب عكس عقارب الساعة، لتعاقب الفصول الأربعة على مدار العام.

وحينما يحرك الراقص اليد اليسرى إلى أسفل، فهو دليل على انعقاد الصلة ما بين الأرض والسماء، وأن الدوران حول الذات تخفف من كل شيء بقصد التحليق فى السماء وفك الرباط المربوط حول الجذع، يرمز لرباط الحياة ليتحلل من كل ما يقيد حركته.

يكمل عامر التونى: وقد طور المصريون رقصة التنورة، فأضافوا إلى حركاتها وطقوسها الدفوف والفانوس، وجعلوها فناً استعراضياً مُتكاملاً، حتى أصبحت التنورة قاسماً مُشتركاً فى مُعظم الأفراح المصرية، وكثير من الأسر تحرص على وجود راقص التنورة ليضفى على الفرح جوا استعراضياً شائقاً.

 من جانب آخر تظل الحضرة واحدة من أبرز أشكال التعبير الروحى تجمع بين الموسيقى والكلمات.

من الأزهر بارك.. للعالمية

ومثلما حققت فرقة «المولوية» شهرة عالميا، تضاهيها فى شهرتها فرقة «الحضرة»، حتى أصبحت الفرقتان موضوعا للدراسات والأبحاث الأكاديمية.

يقول نور ناجح على مؤسس فرقة الحضرة:  ينقسم عرض «الحضرة» قسمين، الأول «إنشاد ديني» لمدائح نبوية وقصائد فى الحب الإلهي.

والثاني، مجلس للذكر الجماعي، يذكر فيه المجموعة الله جهرًا بأسمائه الحسنى المفردة، وكذلك بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فى هيئة خاشعة، فى استنساخ كامل للطقس الدينى الذى يمارسه المتصوفة فى الساحات والمساجد.

أما عمر مسعد أحد منشدى فرقة الحضرة فقال: بدأت الفرقة نشاطها بإحياء حفل عيد الموسيقى، التابع للجمهورية الفرنسية، بحديقة الأزهر عام 2015، ثم سعت للوصول لأكبر قدر من الجماهير، وأقامت حفلات عديدة فيما بعد.

وحول الفرق بين الحضرة والإنشاد قال عمر مسعد: الحضرة ممارسة دينية تشمل الذكر الجماعى والتجمع لأداء طقوس معينة، مثل ترديد الأذكار بصوت جماعي، وقد تتضمن إنشاد قصائد دينية ومدائح تتعلق بالحب الإلهى وحب النبى صلى الله عليه وسلم.

يضيف: أما الإنشاد، فهو أداء غنائى يتميز بترديد القصائد الدينية، وقد لا يتضمن الذكر الجماعي.

يمكن أن يتم الإنشاد فى سياقات مختلفة، ويكون عادةً فرديًا دون الالتزام بالطقوس المحددة للحضرة. والفرق الرئيسى هو أن الحضرة تركز على ترديد الأذكار بطريقة جماعية وصوت جهرى، بينما الإنشاد قد يكون بمفرده دون أن يتضمن الذكر الجماعي.

وعن العلاقة بين فنون التراث والهوية المصرية قال: الفنون التراثية تعكس جزءًا عميقًا من الهوية المصرية، فالفنون الشعبية تعبر عن الروح الجماعية والتاريخ المشترك، وتُظهر كيف يعبر المصريون عن محبتهم وتقديرهم من خلال الطقوس الفنية، كما أن الفنون تعكس التنوع الثقافى للمناطق المختلفة فى مصر، حيث تضيف كل منطقة طابعها الخاص إلى الممارسة الفنية، مما يُثرى الهوية الوطنية.