سقوط «المرأة الحديدية»
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
منذ وصولي إلى لندن في نهاية عام 1980 وقبل مشاركتي في تأسيس مجلة «سيدتى», تواصلت مع بعض صحف الكويت التي طلبت مني أن أكون مراسلا لها في بريطانيا. واستمر الحال بعد تعييني في المجلة، وطبعا كانت موضوعاتي فيها تختلف عن المقالات والرسائل التي تنشر في الكويت، لكن أحدا- لا أعرف من هو- أطلع رئيسة تحرير «سيدتي» على رسالة لي في صحيفة كويتية، فطلبت مني أن أكف عن الكتابة خارج المجلة.
حاولت إقناعها أن ما أكتبه خارج «سيدتي» لا يمكن نشره فيها وإنه لا يتعارض مع مسئولياتى فى المجلة، لكنها أصرّت، فوافقتها ولجأت لحيلة بسيطة هى نشر ما أكتبه خارج المجلة باسم مستعار!
وأعتقد أن المقال الذى استخدمه من وشى بى هو الذى تضمن تنبؤات بسقوط مارجريت تاتشر، أول امرأة تتولى رئاسة حكومة بريطانيا وكان يطلق عليها «المرأة الحديدية».
ونشر بعد 18 شهرا فقط من توليها المنصب، وكان ذلك فى أوائل سنة 1981, وهنا نص المنشور: إنهم يتنبأون بسقوط تاتشر
هل تتحطم المرأة الحديدية؟
بدأت الغيوم تتكاثف حول مصير مارجريت تاتشر أول سيدة تتولى منصب رئيس الوزراء فى بريطانيا وزعامة حزب المحافظين الحاكم. فزعماء حزب العمال المعارض بدأوا يطلقون التصريحات المتعددة التى تحمل تنبؤاتهم لها بالمصير المشئوم والنهاية السريعة للمرأة التى يطلقون عليها هنا «المرأة الحديدية».
أعلن «هارولد ويلسون» رئيس حزب العمال السابق أنه يتنبأ بأن حزب المحافظين سينهى زعامتها وسيقذف بها إلى زاوية النسيان.
أما «أنتونى بن» زعيم الجناح اليسارى فى حزب العمال فقد تنبأ بأن حزب المحافظين ربما يلجأ تحت ضغط الرأى العام إلى استبعاد تاتشر من زعامته واستبدالها بزعيم آخر.
وتأتى هذه التنبؤات بسبب انتشار البطالة وتصاعد حركة الإضرابات العمالية وسياسة تاتشر التى تكاد تدمر الصناعة البريطانية. وتقول الإحصاءات الرسمية بوضوح أن الإنتاج الصناعى انخفض بنسبة 12 % عن مستوى العام السابق 1979.
ونتيجة اضطراب سياسة «المرأة الحديدية» التى تحكم بريطانيا تزايدت موجة الإضرابات العمالية.. أو التهديد بالإضراب الذى تعلن عنه كافة النقابات العمالية لتحقيق مطالب العمال فى زيادة دخولهم.
ورغم كل التدهور الذى أصاب بريطانيا فى السنوات الأولى لحكم «المرأة الحديدية» فقد استطاعت أن تستمر فى منصبها وتدير أحوال الدولة بنجاح ملحوظ وتتجاوز مخاطر التدهور فى الصناعة وتستمر فى حكم البلاد وتفوز فى الانتخابات فى ثلاث دورات متتالة امتدت 11عاما، إلى أن انقلب عليها كوادر من حزبها وأجبروها على الاستقالة.. وتركت المنصب باكية.
وفى يونيو 1996 وضمن باب «3 حكايات من لندن» الذى كنت أكتبه بانتظام فى «صباح الخير» كتبت حكاية مثيرة عن أن كوافير تاتشر - رئيسة الوزراء التى تحكم بريطانيا – كان يزين شعرها ويملأ رأسها بالأفكار!
وكان ذلك قبل ست سنوات، فى سنة 1990 ووقتها كانت زعيمة قوية مسموعة الكلمة، تتسم بشخصية «كاريزمية» مثيرة وجذابة وإن لم تكن محبوبة دائما.
والحكاية التى رددها وزير مهم فى حكومتها القديمة وأصبحت على كل لسان هى أنها كانت تستقبل حلاقها الخاص فى مقر الحكومة مرتين كل أسبوع، وأنها كانت تمضى معه ساعات أطول من تلك التى تمضيها مع أى وزير فى حكومتها!
والوزير هو «كينيث بيكر» وكان وزيرا للتعليم وكان يعانى وقتها ضيقا شديدا لأن السيدة تاتشر، كانت تعتبر كوافيرها الخاص «بول آلان» مستشارها (السرى) فى شئون التعليم!
وكانت تفاجئ مجلس وزرائها بأن تخرج من حقيبة يدها خلال الاجتماع قصاصة شبه ممزقة كتبت عليها بعض أفكار وملاحظات الحلاق، وتفرض ما تقرأه منها على مجلس الوزراء.
وكانت هذه الأفكار التى حولتها إلى قوانين غيرت بها نظام التعليم، تعبّر أحيانا – فى رأى الوزير السابق – عن حالة «جنون تام»!
والعجيب أن الكوافير اعترف بذلك بعدما لاحقته الصحافة وقال: أنا كوافير أزيّن رؤوس النساء، لكن هناك أفكار فى رأسي.
هكذا تكلم الرجل الذى سلمت له تاتشر رأسها منذ بداية عهدها مع السلطة فى ثمانينيات القرن الماضى، وهو أب لابنتين، ويمتلك مع شريك له محل كوافير فخما فى أحد أحياء لندن الفاخرة.. وكان يقول لزبونته رئيسة الوزراء المرأة التى تحكم بريطانيا، أن هناك شيئا ما خطأ فى نظام التعليم والطريقة التى تتلقى بها ابنتى تعليمهما..وكان يحدثها عن ضرورة العودة إلى النظام القديم الذى يعتبره المدرسون «دقة قديمة».. ويقول «بول» إن المرأة الحديدية وافقته على كلامه عن أنه لا بد من تغيير جذرى لنظام التعليم، وأضافت أن هذا مطلوب من زمان.ويضيف: أحيانا كنت أعرض عليها أمرا ما فى الصباح، وأجدها تذكر هذا الأمر على لسانها فى آخر اليوم!
ومن عجائب أول رئيسة وزراء فى بريطانيا أنها كانت تعانى من ضعف فى إدارة المسائل الاقتصادية ترتب عليه فشلها فيها وتدهور اقتصاد بريطانيا، وخوفا من أن يؤدى ضعفها فى مواجهة تدهور الاقتصاد والصناعة إلى سقوطها، قررت تعيين مستشار اقتصادى يحل لها المشاكل ومنحته راتبا يساوى ضعف راتبها كرئيسة وزراء، ما ترتب عليه المزيد من الانتقادات والمتاعب.
وفى محاولتها اليائسة لإنقاذ حكومتها من الانهيار تحت تأثير الأزمة السياسية الاقتصادية وقع اختيارها على البروفيسور ألان والترز، وكان تعليق حزب العمال المعارض على هذا الاختيار هو: ترى ماذا يفعل البروفيسور الذى اشتهر أستاذه ملتون فريدمان بلقب «المجنون» لأنه ينادى بعدم تدخل الدولة لمواجهة مشكلة البطالة؟
لكن أرقام البطالة استمرت فى التزايد.
وفى الأسبوع المقبل نواصل