السبت 26 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بالوثائق والمستندات.. تفاصيل خطة الخداع الاستراتيجى لحرب الكرامة

لم يكن نصر أكتوبر وليد لحظة أو يوم، بل كان نتاج تخطيط استراتيجى لست سنوات من حرب الاستنزاف التى كانت ممرًا لعبور الضفة الشرقية لقناة السويس، واستعادة الأرض والكرامة.



ومن أهم عوامل النصر كان خطة الخداع الاستراتيجى التى باغت بها الجيش المصرى العدو الإسرائيلى، وحقق عنصر المفاجأة، وسقط الجيش الإسرائيلى بعد أن اختل توازنه فى ست ساعات.

وبنيت خطة الخداع الاستراتيجى على عدة محاور؛ المحور الاستراتيجى العسكرى العملياتى الذى اتسم بالذكاء التكتيكى، والمحور الدبلوماسى، وخطط إعلامية ومدنية ساهمت فى حبكة المفاجأة.

فقد سارت خطة الخداع الدبلوماسى والسياسى جنبًا إلى جنب وبالتوازى مع الإعداد لخطة الخداع العسكرى والعملياتى، وكان عامل الزمن واختيار التوقيت من أهم العوامل التى ساهمت فى إنجاح خطة الخداع. 

ومرت خطة العبور والهجوم العسكرى فى يوم السادس من أكتوبر بعدد من التعديلات والمسميات حتى استقر القادة العسكريون فى مصر وسوريا على اسمها النهائى «الخطة بدر» فى سبتمبر 1973.

ونشرت وزارة الدفاع المصرية عددًا من الوثائق الرسمية والخطابات الخاصة بالخطة «جرانيت 2» والتى تعد الشق الثانى من العملية «بدر»، حيث وجهت هذه التعليمات لقادة الأسلحة الرئيسية إبان حرب 73.

فكرنا فى احتفال هذا العام بالذكرى الـ51 للنصر أن نحقق فى تلك الوثائق، وننشر تفاصيل خطة الخداع الاستراتيجى لحرب 6 أكتوبر 1973 .. «بدر» بمرحلتيها؛ عملية «المآذن العالية»، و«جرانيت2»، وحدثنا بطل جهاز المخابرات الحربية الذى شارك فى صنع نصر أكتوبر؛ اللواء أ.ح نصر سالم رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق، عن استراتيجية الخطة التى توجت وطننا بالنصر، فما أخذ بالقوة لم يسترد إلا بالقوة.

العملية بدر

بدأ الإعداد لخطة الخداع الاستراتيجى منذ حرب الاستنزاف التى بدأ فيها الجيش المصرى والقادة العسكريون إعادة بناء القوات المصرية وبناء حائط الصواريخ، والإعداد لمسرح الحرب والتدرب عليه.

وكان ذلك من خلال خطة «المآذن العالية»، وخطة «العملية 41»، ليتم تعديلها بعد ذلك تحت اسم «جرانيت 2»، ثم دمجهما لتصبح خطة الهجوم العسكرى وعبور قناة السويس فى يوم 6 أكتوبر 1973 تحت اسمها النهائى؛ «العملية بدر».

والعملية بدر أو الخطة بدر، هى اسم العملية التى قامت بها القوات العسكرية المصرية، حيث كانت «بدر» هى اسم الشفرة للهجوم المصرى على قناة السويس والاستيلاء على خط بارليف والتحصينات الإسرائيلية فيه، بدءًا من الساعة الثانية ظهرًا يوم 6 أكتوبر 1973، بالتزامن مع هجوم الجبهة السورية.

واشتملت خطط الخداع العسكرى على عدد من العمليات التى مرت بتعديلات ومسميات كثيرة ، بدءًا من الخطة «200» وشقها الهجومى الذى سمى بـالعملية «جرانيت».

لكن تم تعديلها بعد تولى الفريق سعد الدين الشاذلى رئاسة أركان القوات المسلحة فى عام 1971 إلى خطة «المآذن العالية».

كانت الخطة تستهدف فى المقام الأول؛ عبور قناة السويس، والهجوم على خط بارليف والاستيلاء عليه، بالإضافة إلى خطة «العملية 41» والتى سميت بعد ذلك بـ«جرانيت2» المعدلة عام 1972 التى تهدف إلى احتلال المضائق الجبلية فى شبه جزيرة سيناء.

وتم دمج الخطتين تحت اسم «خطة بدر» وهو الاسم النهائى الذى استقر عليه القادة العسكريون فى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بحضور قادة الجبهة السورية، قبل شهر واحد من حرب أكتوبر 1973.

وتم كل ذلك فى سرية شديدة، فكان عنصرا المفاجأة والسرية هما مفتاح نصر أكتوبر 1973. ونشر الموقع الرسمى لوزارة الدفاع المصرية عدة وثائق تتحدث عن الخطة «جرانيت2»، جاءت فى خطابات من هيئة عمليات القوات المسلحة وتحتها بند «سرى للغاية»، وتم توجيه تلك الخطابات من فرع التخطيط العام إلى قادة أفرع القوات المسلحة المختلفة، تفاصيل الخطة.

وجاء فى نص وثائق الخطة التى وجهت للقوات الجوية: «تقوم الخطة الدفاعية للعدو على أساس التمسك بالمواقع الحصينة على الضفة الشرقية لقناة السويس لتدمير أى محاولات لعبور القناة مع تدمير القوات التى تنجح فى العبور بالهجمات والضربات المضادة.

ويقدر العدو أن خط المضايق الجبلية هو آخر الخطوط الدفاعية التى يجب عدم التخلى عنها، كما أن حرمانه من دفاعاته شرق القناة سوف يخلق أنسب الظروف أمام قواتنا لتطوير هجومها شرقًا.

لذلك فمن المنتظر أن يركز العدو جهوده الرئيسية للعمل فى العمق التكتيكى بين قناة السويس ومنطقة المضايق الجبلية».

كما نصت الوثائق على مهمة الخطة وهى «تدمير وهزيمة تجمع العدو الرئيسى فى سيناء على مرحلتين والاستيلاء على مناطق ذات أهمية استراتيجية - تعبوية بهدف تهيئة أنسب الظروف العسكرية والسياسية لاستكمال هزيمة العدو وتحرير الأراضى المحتلة».

وتضمنت الوثائق تعليمات موجهة للفريق محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى حينها بأن تقوم الخطة الدفاعية على أساس التمسك بمواقعه الحصينة على الضفة الشرقية لقناة السويس لتدمير أى محاولات عبور لقناة السويس مع تدمير القوات التى تنجح فى العبور بالهجمات والضربات المضادة.

أربعة أضلاع

قال اللواء أ.ح نصر سالم-رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق، وأحد أبطال حرب السادس من أكتوبر 1973شارحاً تفاصيل خطة الخداع الاستراتيجى كانت خطة الخداع الاستراتيجى متكاملة على جميع المستويات بدءًا من رئيس الجمهورية الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وحتى أصغر جندى على خط النار بشكل منسق وكامل.

أولًا؛ ظل الرئيس السادات لمدة عامين 1971، و1972 يقول إن هذا العام هو عام الحسم، ويمر العام ولا يحدث شىء حتى تعودت إسرائيل على ذلك، وقالت إنه يقول ما لا يستطيع فعله، وقد قبل السادات ذلك على نفسه أن يقولوا عليه: «بتاع كلام وبس».

ثانيًا؛ عندما أقوم بعمل خطة خداع ومفاجأة للعدو، هناك أربعة أضلاع فى مربع المفاجأة؛ الوقت الذى سأنفذ فيه هجومى، والمكان، والسلاح الذى سوف أستخدمه، الأسلوب والتكتيك العملياتى، لكن المشكلة فى أن المسافة بيننا وبين العدو كانت 200 متر فقط، بمعنى أن أى خطوة أو تحرك كان العدو سيكشفها، ومن هنا كان الحل فى أن نضلله، فيرى كل الأشياء أمام عينه، لكنه لا يصدق أننا سنحارب، وأن ما نقوم به فى إطار مناورة فقط أو تدريب للقوات فقط.

يكمل: «بالفعل قمنا بذلك التدريب سنة 1971، و1972، وفى كل مرة تستدعى إسرائيل الاحتياطى الخاص بها وتتكبد ملايين الدولارات، ثم لا نحارب.

وحدث ذلك عدة مرات، المرة الأولى والثانية، وعندما جاءت الثالثة فلم يتحركوا وخدعوا، لكنها كانت القاضية بالنسبة إلينا.

أضاف: الأمر الآخر كان لابد من التأكد من تيقنه من عدم وجود النية لدينا للحرب، وهنا جاء دور الخداع الدبلوماسى، وهو زيارة المسئولين من الولايات المتحدة الأمريكية فى توقيت الحرب، إضافة إلى إعلان زيارة وزير دفاع رومانيا لمصر يوم 7 أكتوبر، لنوافق ونرحب به.

كما قامت القيادة العامة للقوات المسلحة بتحريك قواتنا من منطقة لأخرى، وهذا ما يسمى فى إدارة الحرب بـ«الفتح الاستراتيجى»، لكنها فى نفس الوقت قامت بخدعة، وهى حجز قطار كامل لهذه القوات لإرجاعها مكانها بعد المناورة، فتتوهم إسرائيل بأنه مجرد تدريب لأن القوات ستعود مرة أخرى.

وفى الوقت نفسه قامت القيادة بتسريح عدد من ضباط الاحتياط على أساس فك الاستدعاء وانتهاء المناورة، وكل ذلك حدث ليلة الهجوم والحرب.

يكمل اللواء نصر: «وفى نفس التوقيت نعلن عن عمرة رمضان للضباط وصف الضباط، وبالفعل يتقدم الضباط وتدفع التكلفة، وتكمل الإجراءات، مما يلغى نية الحرب تمامًا».

 ويعود اللواء أ.ح نصر سالم إلى الإشارة إلى التوقيتات التى تم تحديدها للعملية بدر، وعبورنا القناة لم تكن معلومة سوى للقادة فقط، فكل جندى وضابط جاءت له التعليمات قبل الحرب بست ساعات، لإخفاء النوايا تمامًا.

 

 

 

قال: «كانت هناك مشكلة أخرى، وهى تحريك معدات العبور، لكن إذا تم تحريكها فتكشف نية الهجوم، فالحل كان فى تحريك معدات العبور كمواقع هيكلية مثل معدات الدفاع الجوى، ومن يراها يظن أنها هيكلية فقط، لكن الحقيقة أنه كان بداخلها معدات العبور كالكبارى وغيرها».

«كانت أيضًا مشكلة المضخات والطرمبات اللازمة لفتح الثغرات فى خط بارليف، التى ستلفت النظر لأنها ذات أعماق وأحجام كبيرة، وكان الحل هو أن تقوم وزارة الرى باستيرادها على أساس أنها ستستخدمها فى آبار، والأمر نفسه بالنسبة للخراطيم التى سندفع بها المياه لإسقاط الساتر الترابى، فتقوم وزارة الداخلية باستيرادها لجهاز المطافئ والدفاع المدنى. وسار الأمر كذلك حتى أقنعنا العدو باستحالة الحرب».

حسب اللواء نصر سالم: لكننا فى حقيقة الأمر أضفنا لمربع المفاجأة ضلعًا خامسًا وهو نيتنا وعزمنا على القيام بالحرب.

ويؤكد: إن خطة الخداع نفذت بمنتهى الإحكام، فقد اتبعنا كل ما يلزمها من سرية وتضليل ومفاجأة، ولذلك كان الأثر على الجانب الإسرائيلى فى منتهى القوة، جعلتنا نمتلك زمام الأمور لأن العدو لو كان قد اكتشف نيتنا فى العبور، أو أننا نعد للحرب، كان من الممكن أن يستدعى الاحتياط أو يوجه لنا ضربة استباقية، إنما مفاجأتنا حرمته من كل ذلك.

اختلال توازن العدو

يوضح اللواء أ.ح نصر أننا عندما قمنا بالعملية بدر يوم السادس من أكتوبر حرمنا العدو من أن يتحكم فى الأمر، ففى العسكرية عندما تبدأ بالهجوم تفرض على خصمك الطريقة التى تدير بها الحرب، وهذه هى عظمة خطة الخداع.

وأضاف: زاد من تأثير العملية هو تنفيذ كل مبادئ وتعامل الخطة، لاسيما أن هناك عددًا محدودًا من القادة الذين تم إعلامهم بتفاصيلها، فقط من خطط لها هو من كان يعلم بها، وعندما حانت اللحظة كشف تفاصيل العملية، وجه إلى كل ضابط وجندى تعليمات مهمته فقط، دون إطلاعه على أى مهام أخرى، لأن ما تقوم به القوات بدءًا من موقف القيادة العامة للقوات المسلحة إلى قائد الجيش إلى قائد اللواء إلى الجندى يسير فى اتجاه واحد وهو عدم وجود نية للحرب، أو القيام بأى عمليات عسكرية.

وأيضًا كان غير مسموح بالارتجال، فلا يوجد أى مقاتل يتصرف خارج التعليمات الموجهة له، وهذا ما حافظ على دقة العملية، وسيطرتها.

سألت اللواء أ.ح نصر سالم: وماذا عن الشق الآخر من المرحلة بدر «جرانيت2»، وما تداول أنه كان من المفترض أن يتطور الهجوم بعد نجاح المرحلة الأولى من الخطة بدر واقتحام خط بارليف والسيطرة عليه؟ فلماذا تم الانتقال للمرحلة الثانية؛ أى العملية جرانيت المعدلة، واحتلال مضايق سيناء قبل 14 أكتوبر قبل حدوث الثغرة؟

 

 

 

أجاب موضحًا: «لابد أن نأخذ فى الاعتبار أن ليس شرطًا أبدًا أن كل ما يخطط للمستقبل ينفذ على أرض الواقع بشكل كامل، ففى أوقات كثيرة عند تنفيذ تلك الخطط نفاجأ على أرض الواقع بمتغيرات ومعطيات مختلفة، وهذا ما يسمى بإدارة المعركة نفسها، ومبدأ المرونة فى الفكر وهى تنفيذ نفس الهدف المحدد، ولكن طبقًا للمتغيرات الطارئة على الأرض، وقتها من غير المجدى الإصرار على تنفيذ الخطة بحذافيرها، بمعنى إذا كلفت بضرب هدف وكانت الخطة أن أذهب إليه من جهة اليمين، وفوجئت فى أرض المعركة أن جهة اليسار هى الأنسب، سأذهب إليه منها، المهم هو تحقيق الهدف المحدد والمعنى وإن اختلفت السبل».

قال اللواء نصر: «التغيير يحدث طبقًا لتغير موقف العدو، وهذا ما حدث بعد أن تغير الموقف الأمريكى، وموقف الجبهة السورية، فقد كنا نسير طبقًا لتخطيط العملية كما وضعت، لكن ما حدث على الجبهة السورية استدعى من الرئيس السادات أن يدفع بالاحتياطى لتخفيف الضغط عن سوريا، وهذا الموقف كان فى توقيت ضيق للغاية، فاضطررنا إلى تعجيل الخطة «جرانيت2»، وعندما سأل القادة الرئيس السادات عن ذلك، فأجابهم أنه لا يستطيع أن يضحى بالجبهة السورية ويخسرها فى الحرب، فكان لزامًا عليه أن يبادر بالمرحلة الثانية من العملية بدر، وهذا ما يسمى بـ«المخاطرة المحسوبة» وهو أن نخاطر لكن إلى حد معين وبحسابات مدروسة من أجل تحقيق الهدف المحدد، وحتى أتجنب خسارة أكبر وهى خسارة سوريا آنذاك.

 

 

 

 وهذا هو الصحيح وقت الحرب؛ المرونة فى تنفيذ الخطط الموضوعة وإدارة الحرب وعدم التشبث برأى من الممكن أن يحقق خسائر. نعم أصر على تحقيق الهدف، ولكن لا أصر على طريقة تنفيذه طبقًا للمتغير الواقعى فى أرض المعركة.