استشهد 1967.. وعاد 2024

سجل بطولات العسكرية المصرية لا ينضب، وحكايات الشهادة لا تنتهى، فلو تكلمت رمال سيناء لأخبرتنا عن قصص الشهداء الذين تحتضنهم ورووها بدمائهم الذكية، ولحكت لنا عن الأبطال الذين تضم رفاتهم بين طياتها، وكيف كانوا مقبلين على الموت غير مدبرين، اختاروا التضحية لكى يتحرر الوطن، فضّلوا الموت لكى نعيش نحن.
وها هى قصة بطل شهيد عاد من جديد فى الذكرى الـ51 لنصر أكتوبر المجيد، بعد استشهاده بـ57 عامًا.. إنه الشهيد البطل فوزى محمد عبدالمولى الذى عثر على رفاته فى أرض سيناء بعد استشهاده فى عمليات حرب 1967.. تلك قصة من آلاف قصص البطولة التى روت سيناء، وبفضلها عادت أرضنا وتحررت، فتلك حكايات لن تنسى، ولن تطويها صفحات الزمن.
وفى جنازة عسكرية مهيبة، عظمت القوات المسلحة شهيدها، وكرمته بمشهد يليق به وبشهدائنا الأبرار، وتم دفن الرفات بمدافن أسرته بعد الصلاة عليه بمسجد سنان بمنطقة الدخيلة بالإسكندرية.
كانت البداية عندما تم العثور على إحدى الرفات فى منطقة الحسنة بوسط سيناء، ومعها أوراق رسمية تحمل اسم الجندى فوزى محمد عبدالمولى المولود فى 18 يناير 1945 فى منطقة وادى القمر بالإسكندرية وعدد من الصور العائلية له ولأسرته، فتم نقل رفات الجثمان الطاهر إلى المستشفى العسكرى بالسويس.
وبعد علمهم بالخبر توجهت عائلة «عبدالمولى أبوشوك» إلى قيادة المنطقة الشمالية العسكرية التى وجهتهم إلى مقر الأمانة العامة للقوات المسلحة، وبعد يوم واحد تم الاتصال بهم لإبلاغهم بسرعة التوجه لمستشفى السويس العسكرى للحصول على عينة من أحد الأشقاء، وعمل تحليل «DNA» للتأكد من مطابقته للشهيد، وبالفعل بعد مدة قصيرة تم التأكد من هوية الشهيد فوزى عبدالمولى، وعاد الابن المفقود من 57 عامًا ليلحق الشرف باسم عائلته.
حرب اليمن
حكى عبدالمولى محمد عبدالمولى الشقيق الأصغر للشهيد البطل فوزي: التحق أخى فوزى رحمه الله بالقوات المسلحة كمجند أيام حرب اليمن، وبالفعل ذهب للحرب وعاد سليمًا، وبعد ذلك حصل على إجازة لمدة شهر حتى يستطيع عقد قرانه، وكان الاتفاق مع أهل العروس على إتمام الزواج بعد انتهائه من أداء الخدمة العسكرية، لكنه ذهب وقامت حرب 1967، ولم يعد مرة أخرى.
حزنت أمى كثيرًا، بعد انقطاع الرسائل التى كان يرسلها لنا بشكل دورى، لكننا ظننا أن السبب هو ظروف البلد وعدم استقرارها آنذاك، لكن بعد فترة جاء لنا خبر أنه من ضمن مفقودى الحرب.

وتمت إقامة جنازة له لكن بدون جثمان، واحتسبنا مصابنا الأليم عند الله، وبعد مرور 57 عامًا عرفت خبر العثور على رفاته فى سيناء، فتوجهنا إلى مقر المنطقة الشمالية عندنا بالإسكندرية، وكانوا فى غاية التعاون معنا، فتواصلوا مع أمانة القوات المسلحة بالقاهرة، فذهب إليهم محمد ابن شقيقى محمود، وبعد ساعات اتصلوا بى وطلبوا حضور أحد الأشقاء لإجراء التحاليل والتأكد من النسب، فذهبت إلى السويس فى المستشفى العسكرى، وأخذوا منى العينات.
وبعد مدة قصيرة اتصلوا بنا، وكان الخبر السار بأن الشهيد هو أخى البطل الذى عاد إلينا بعد أكثر من خمسين عامًا، وبالفعل تم إخبارنا بأن القوات المسلحة المصرية قررت عمل جنازة عسكرية لأخى وتسليمه لنا، وبالفعل تسلمنا الجثمان وقمنا بالصلاة عليه بحضور قيادات من المحافظة وعدد كبير من أهالى الإسكندرية الذين حرصوا على وداع أخى البطل وتكريمه، ودفناه فى مدافن العائلة بالدخيلة مع أفراد عائلتى الذين توفاهم الله.
ابنى البكرى
استكملت الحديث الحاجة حياة عبدالمولى- الأخت الكبرى للشهيد فوزى والتى تبلغ من العمر ثمانين عامًا حديثها: وقت الحرب كنت أكبر من شقيقى الشهيد بحوالى 11 سنة، وكنت أحبه كابنى البكرى، وكان يعتبرنى أمه الثانية بعد والدتى رحمها الله، ووقت التحاقه بحرب اليمن كنت خائفة عليه كثيرًا، وعندما عاد سليمًا حمدت الله وتجهزنا جميعًا لكتب كتابه، واتفقنا مع أهل العروس على إتمام زفافه بعد رجوعه الإجازة القادمة، وبالفعل ذهب وتوليت أنا مسئولية تجهيز زفافه، لكنه فطر قلبى ولم يعد. انتظرناه طويلًا وكان قلبى يحدثنى أن مكروهًا أصابه لكنى كنت أخبئ مشاعرى شفقة بوالدتى التى كانت تعيش على أمل رجوعه سالمًا، وللأسف بعد فترة أبلغونا أنه فقد فى الحرب، فأقمنا له جنازة لكنها بدون جثمان.
طوال الخمسين سنة الماضية لم يهدأ قلبى، كنت أريد رؤية أخى والتأكد من استشهاده، حتى والدتى كانت آخر كلماتها قبل وفاتها هى أنها ذاهبة للقاء فوزى.
عندما أخبرنا ابن أخى بخبر العثور على رفات الشهيد، أحسست بأن جبلًا قد أزيل من على قلبى.
وعندما وصلتنا النتيجة فرحت وحزنت فى نفس الوقت، فرحت لأنه سيدفن بجانبى، وحزنت لأن ذكرياتى معه عادت لى مرة أخرى، فأنا من ربيته، لكن الحمد لله صدق حدسى واستلمنا أخى ودفن فى حضن أمى وأبى وأخى الكبير محمود، وسأدفن معه أنا أيضًا عندما يسترد الله وديعته، وأنا على ثقة أن الله سيدخلنا معه الجنة التى وعد بها الشهداء.
كان أخى فوزى مثالاً للأدب والأخلاق، فأحبه الجميع فى حياته، وكان خدومًا مع الصغير قبل الكبير، والدليل أنهم وجدوا معه صورًا لعائلتنا. فكان أحن أخ على، ويسمع كلامى وكلام أخينا الكبير، وهو من ربى أخانا الصغير عادل. وفى آخر زيارة له اشترى لنا جميعًا كل ما نريده، فكان كريمًا مع الأسرة كلها.

حزنت عليها بلدتنا بأكملها عند خبر فقده أيام حرب 1967، والآن بعد كل هذا العمر أراد الله أن تكون له جنازة أخرى بحضور أحفاد أسرته ليظل الشرف الذى زين به فوزى عائلتنا وسامًا على صدورنا، وممتدًا حتى أحفاد الأحفاد، رحم الله أخى حبيبى وجمعنى به فى الجنة مع أمى وأبى وأخوتى.
تلك قصة من قصص شهدائنا التى يعجز التاريخ عن حصرها، فعلى الرغم من مرور 51 عامًا على حرب أكتوبر المجيدة، لا تزال هناك الكثير من قصص أبطالنا التى تستحق أن تروى لأبنائنا ليظلوا يتذكرونها فى الحاضر والمستقبل، ولتظل شاهدة على جيل ضحى بحياته لتبقى الأرض، فإن عدتم عدنا.