ظاهرة مثيرة.. اسمها «الكاتب الشبح»!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
على مدى سنوات، استوقفتنى ظاهرة مثيرة أسميها «الكاتب الشبح»!
فهناك كتب مهمة أو ذائعة الشهرة لأسباب مختلفة تتبعتها, فإذا بها تحمل اسم مؤلف لم يكتبها، فقط روى محتواها لكاتب محترف فصاغها له ثم وضع صاحب الوقائع اسمه على غلاف الكتاب.. وعذره هو أنه لا يجيد الكتابة بقدر كاف، أو أن مشاغل منصبه لا تتيح له ما يحتاجه وضع الكتاب من وقت وتفرغ. وفيما بعد، عرفت أن «الكاتب الشبح» ظاهرة عالمية، أما فى مصر، فقد اشتهر كتاب «يا ولدى هذا عمك جمال» فى سنوات الثورة الأولى وفيه يتحدث الصاغ أنور السادات أحد أعضاء جماعة الضباط الأحرار.
الكتاب يستعرض فيه كاتبه شخصية وتاريخ زعيم الثورة جمال عبدالناصر، وقد تحقق له رواج كبير لأن الناس كانوا يريدون أن يعرفوا المزيد عن هذا الرجل فى ذلك الوقت، كانوا كثيرين جدا.. بداية من المواطن المصرى والعربى وليس نهاية بمخابرات العالم، وخاصة المخابرات المركزية الأمريكية.
لكن يتبين لنا فيما بعد أن نص هذا الكتاب ليس بقلم أنور السادات، فهو كان يحكى ما يريد أن يشمله كتابه لكاتب محترف هو يوسف إدريس، الذى تولى مهمة «الكاتب الشبح»ّ!
كان أنور السادات يعمل وقتها مديرًا لدار التحرير التى تصدر أول جريدة أنشأها الضباط الأحرار، وهى «الجمهورية» التى صدرت بعد أن تقدّم جمال عبدالناصر بطلب رسمى للترخيص بصدورها.
وكان يوسف إدريس يعمل فى مكتب السادات، ويلقى إعجابه ومن هنا كان تكليفه له بصياغة ما يحكيه وجمع هذا الحكى فى كتاب.
ومعروف أن عددًا من الضباط الأحرار وغيرهم لم يكن راضيًا عن قيام السادات بنشر كتابه هذا.
بل اعتبره البعض نوعًا من التملق للرجل القوى جمال عبدالناصر.
ولنبقى مع زعيم الثورة و«فلسفة الثورة» وهو الكتاب الموجز الذى صدر فى طبعات شعبية عديدة وكان يوزع بما يشبه المجانية على الناس فى كل مكان لشرح أهداف الثورة وفلسفتها، ويحمل على غلافه اسم جمال عبدالناصر.. لكن لم يكن هو كاتبه!.. كان هناك «كاتب شبح» يستمع إلى أفكار وفلسفة جمال ويصوغها فى نصوص واضحة ضمها هذا الكتيب..
من هو الشبح هذه المرة!
إنه الكاتب الصحفى صديق الرئيس والمعبر عن فكره، محمد حسنين هيكل.
كان هذا فى بدايات حكم الضباط الأحرار، لكن بعد نحو عشر سنوات قام هيكل بمهمة مشابهة وخطيرة هذه المرة هى صياغة نصوص «ميثاق العمل الوطنى» الصادر عن مؤتمر العمل الوطنى فى عام 1962 الذى عبر عن التحولات الجوهرية فى سياسات الدولة المصرية وقتها.
وكان هيكل يبدى فخره بهذا الإنجاز ويقول إن كتابة الميثاق هى العمل الذى يعتز به ويفخر دائما رغم عشرات الكتب والمقالات التى كتبها.
ولو عدنا من جديد لظاهرة «الكاتب الشبح» سنجد واقعة أخرى مهمة، هى الكتاب الذى صدر خلال سنوات تولى السادات منصب رئيس الجمهورية بعد الرحيل المفاجئ لجمال عبدالناصر، وكان يشغل قبلها منصبًا اختاره له عبدالناصر فى لحظة خاطفة وعينه نائبًا للرئيس وتمت إجراءات هذا التعيين المفاجئ فى المطار.
أراد السادات أن يحكى عن نفسه، فلم يكن هناك من يتطوع مثله بوضع كتاب بعنوان «يا ولدى هذا عمك أنور»!
فماذا فعل؟
كان معجبًا بكاتب اشتهر بميوله اليمينية ودعوته لفكرة الفن للفن، بينما الفن الحقيقى هو للحياة.
وتقرّب الدكتور رشاد رشدى من الرئيس فاختاره ليروى له قصة حياته وذلك فى كتاب غريب بعنوان أغرب: «البحث عن الذات»!
ولا أريد أن أعلق على هذا الكتاب الذى يمجد فيه ذاته، ويقدم لنا صورة مثالية عن نفسه.. هل كان مضطرًا لذلك بعد إحساسه بعدم ارتياح كثيرين له ولسلوكه وهو يتقلد موقع الرئيس؟
المهم أن الدكتور رشاد رشدى قام بمهمة «الكاتب الشبح» لهذا الكتاب، وتقلد منصب رئيس أكاديمية الفنون.
وطبعا لم يكلف السادات وقتها يوسف إدريس لوضع هذا الكتاب لسبب بسيط هو أنه أصبح فى صراع معه حتى أنه يقال إن الرئيس السادات فى ذروة هذا الصراع أصدر قرارًا بسحب الجنسية المصرية منه!
ولم تكن ظاهرة «الكاتب الشيح» منتشرة فى مصر فقط فقد عرفها زعماء عرب آخرون، والغريب أنهم لم ينشغلوا بسير حياتهم بقدر الاهتمام بتقديم أنفسهم كمفكرين أو حتى كتاب روايات وقصص قصيرة، مع أنهم زعماء!
فمثلا معمر القذافى فى ليبيا أصدر ما سماه «الكتاب الأخضر» وكتب له نصوصه عدة أشخاص لا نعرفهم.
وتردد أن كتابًا وأدباء ليبيين أرغموا على كتابة قصص أوحى لهم بموضوعاتها وأجوائها وشخصياتها العقيد القذافى بنفسه، وربما كان بعضهم ينافقه خوفا من بطشه، وصدرت قصص قصيرة تحمل اسم العقيد: أولها مجموعة بعنوان عجيب «القرية القرية..الأرض الأرض.. وانتحار رائد فضاء وقصص أخرى»!
وأخرى «تحيا دولة الحقراء»!
ونسبت كتابة هذه القصص لكاتب روائى ليبى متميز باعتباره «الكاتب الشبح» هو صديقى الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه.
وهو يحمل درجة الدكتوراه فى الأدب من إحدى جامعات بريطانيا وله روايات وقصص قصيرة وقدمت له مسرحية باللغة الإنجليزية على مسارح لندن، وهو كاتب أطول رواية عربية استغرقت 12 مجلدا..
ويعود الاعتقاد بأنه من كتب قصص القذافى، لأن المجموعة الأولى اختتمت بمقال قصير له يتناول هذه القصص.. على الرغم من أن صديقنا الفقيه عندما سئل عن ذلك لم يجب لا بالإيجاب ولا بالنفى..
وطبعًا لم تلق هذه القصص ترحيب النقاد وعلّق بعضهم عليها وعلى رغبة العقيد فى أن يضفى على نفسه صفة الأديب، لكن تهلل لها ورحب بها واعتبرها عملا عبقريا، عدد من الكتاب والنقاد سعيًا للفوز بمال الزعيم الليبى الغزير، ومنهم للأسف كتاب ونقاد مصريون مشهورون، ولا داعى لذكر الأسماء فليس هذا هدفنا.. لكن للأسف قدّم اتحاد كتاب مصر للعقيد أعلى دروعه.
القذافى يزور «صباح الخير»
أتذكر الآن المرة الأولى والوحيدة التى رأيت فيها العقيد القذافى، كان ذلك فى عام 1969 وبعد قيامه بالثورة.
حيث جاء إلى مصر وزارنا فى «صباح الخير» و«روز اليوسف» وكنا مبهورين به وقتها، وأدهشنى أنه وصل القاهرة وهو يقود سيارته الفولكس!
وهناك حكايات مشابهة عن الرئيس العراقى صدام حسين وروايات تحمل اسمه وأولها رواية بعنوان «زبيبة والملك» ولوحظ وقتها أنها نشرت دون اسم المؤلف وتردد أن صدام حسين أراد ألا يصدم القراء بأنه المؤلف!
لكن طبعة مترجمة إلى اللغة الإنجليزية ظهرت فيما بعد وعليها اسم المؤلف: صدام حسين.
ورواية أخرى عليها اسمه بالعربية هذه المرة «اخرج أيها الملعون».. وثالثة «القلعة الحصينة».
وكان السؤال: من هو «الكاتب الشبح» لروايات صدام؟!..وكانت الإجابة كما تردد وقتها - ولا نعلم الحقيقة - أن من كتبها روائى مصرى، هو صديقى جمال الغيطانى، لكن جمال أنكر ذلك تماما!
ونحن نعرف أن جمال عبدالناصر ألف رواية متأثرًا برواية توفيق الحكيم الشهيرة «عودة الروح» وطبعا كتب عبدالناصر الرواية التى لم يكملها دون الاستعانة بـ«كاتب شبح».. كتبها بنفسه بعنوان «فى سبيل الحرية» وكما نرى فهو عنوان غير أدبى.. فقد كان فى شبابه ولم يكن قد أصبح زعيمًا.. وخلال توليه الرئاسة قام أحد الأدباء المشهورين وهو يوسف السباعى باستكمال الرواية وذلك بمبادرة شخصية ودون أن يطلب منه أحد ذلك.
فى «صباح الخير».. «كاتب شبح»!
حتى لا أنسى، أقول إن ما دفعنى للحديث عن ظاهرة «الكاتب الشبح» هذه هو أحد زملائنا فى «صباح الخير» الذى يعتبر الوحيد بيننا الذى قام بهذا النوع من العمل من الباطن، هو منير عامر، وهذه حكاية مثيرة.
فقد انفردت «صباح الخير» بنشر مذكرات عبدالحليم حافظ مسلسلة فى سنة 1977 تحت عنوان «أسرار حياتى.. بقلم: عبدالحليم حافظ» وحققت نجاحًا كبيرًا وانتشارًا للمجلة ارتفع معه رقم التوزيع إلى ثلاثة أضعاف وأكثر (155 ألف نسخة كل أسبوع) وهو ثانى أعلى رقم توزيع تحققه المجلة فى تاريخها.
ومع أن عبدالحليم كان له فى «صباح الخير» ثلاثة أصدقاء مقرّبين، عدا غيرهم ممن عرفهم الفنان من أسرة المجلة، فقد كان يتردد منذ بداياته الأولى على إحسان عبدالقدوس، كما كان يجالس لويس جريس عندما يكون إحسان مشغولا..
كان أول الأصدقاء الثلاثة مفيد فوزى الذى نشر فيما بعد أكثر من كتاب عن حليم، وكان للفنان فضل رعاية مفيد فوزى خلال السنة التى تم فيها فصله من العمل فى «صباح الخير» بدعوى أنه قام بتحريض المدرسين ضد الحكومة خلال أزمتهم، وتمت عملية الفصل بشكل تعسفى غير محترم.. بمكالمة تليفونية لرئيس التحرير!
المهم فى النهاية أن عبدالحليم حافظ نجح فى التوسط لمفيد فوزى وتوضيح الأمر لأكبر المسئولين فأعيد لعمله من جديد.
ومن هنا كان سيل الحب الطاغى من مفيد لحليم.
أما الصديق الثانى فكان الشاعر الغنائى محمد حمزة، الذى أصبح مقربًا جدًا من حليم الذى يصحبه معه فى كل رحلاته إلى لندن وغيرها من البلاد.
وكان حمزة يروى لنا من وقت لآخر حكايات وطرائف من رحلاته هذه. وأطرفها حكاية الرعب الذى أصاب عبدالحليم حافظ عندما زار مسرح «رويال البرت هال» الدائرى الضخم الذى كان سيقيم حفله الغنائى الأول فى العاصمة البريطانية عليه.
فالمسرح الذى سيقف عليه دائرى والجمهور يلتف حوله من كل جهة والقاعة واسعة شاسعة، ما أثار مخاوف نجم الغناء العربى الأول.. وفكّر فى أن يتراجع عن إقامة الحفل، فكيف له أن يواجه جمهورًا يحيط به من كل الجهات؟
وهذا المسرح المدهش حضرت فيه فيما بعد حفلًا غنائيًا رائعًا لفيروز.
لكن حمزة حكى لى أنه ومن رافقوا العندليب فى هذه الرحلة طمأنوه وأقنعوه أن المسألة ليست بهذه الخطورة وأن أم كلثوم غنت هنا من قبل، فطاوعهم ونجح الحفل.
وثالث الأصدقاء، هو منير عامر، الذى اختاره عبدالحليم حافظ ليروى له قصة حياته وأسراره لتنشر مسلسلة فى «صباح الخير»، وكان منير عامر فى حالة انشراح وتفاخر خلال التحضير لهذا المشروع الصحفى الكبير، إلى أن تدخّل «لويس جريس» فى الأمر وقبل منير فكرة نشر المذكرات باسم عبدالحليم حافظ.
وفى الأسبوع المقبل نواصل