حكايات المصرى أفندى
تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
منذ عودتى إلى الوطن وأنا مشغول بدراسة الأيديولوجية المصرية بعد فترة غياب تخطت عقدًا متصلًا من الزمن أمضيتها بالولايات المتحدة الأمريكية. تغيرت خلالها الأمور وتبدلت فيها الأحوال. منها ما هو للأحسن بطبيعة الحال، ومن المؤكد منها ما هو للأسوأ. ووجدتنى أتعرف على أصدقائى وجيرانى من جديد بعد طول غياب. فكل من أعرفه قد تبدلت أحواله. ولا أخفيكم سرًا فى أن ما رأيت فى مصر خلال الفترة الوجيزة عقب وصولى، لمست فيه ازدواجية المعايير فى التعامل مع أمور الحياة. ورأيت المجتمع على حال غير الحال. ولأنى لست بصدد سرد المواقف التى تعرضت لها. فمن المؤكد أنكم أدرى منى بما آلت إليه الأمور. ومن جهة أخرى كنت أعلم أن لكل منا معايير ورؤى مختلفة فى تقييم تلك الأمور.
لكن بالحق أقول إن ما شغلنى أكثر من أى شيء آخر، كان نقطة البداية. حيث نقطة الانطلاق نحو العودة لممارسة عملى كرسام للكاريكاتير بمؤسسة الأهرام العريقة. علمًا بأنى لم أتوقف يومًا عن الرسم الصحفى وأنا بأمريكا. فكنت أنشر وأراسل جريدة الأهرام ويكلى ومجلتى المصور وإيجيبت توداى. وكان هذا بالطبع إلى جانب عملى بالصحف الأمريكية. وتدريسى للفنون والإخراج الصحفى بعدة جامعات هناك. ومع عودتى واستقرارى بمصر من جديد، لم تكن البداية سهلة على الإطلاق.
حيث كانت الأحداث السياسية وأحوال المجتمع حمولًا على عاتق المواطن المصرى. وكانت تلك الحمول بها ما يكفى لإلهام أى رسام كاريكاتير بالأفكار والموضوعات التى سيتناولها بالرسم والنقد والتحليل. لكنى كرسام ذى فكر خاص ومختلف كونته السنوات عبر عمله بالصحافة. وتشكل وعيى وفكرى عبر أسفار متعددة ومدارس مختلفة عملت بها. حيث تعودت ألا أعمل على إبراز عيوب المجتمع ونقد الأشياء من حولى بشكل لازع فى محاولة لجلد الذات وتعرية حال المجتمع. كما أننى لا أسعى لمجاملة أو مواجهة جهات أو أشخاص بعينها سعيًا منى وراء الشهرة أو كسب الود. إنما دائمًا ما أحب أن أدرس المواقف وأعمل على تحليلها وتقييمها. ودائمًا ما كنت أحاول أن أقدم وجهة نظر ومعالجة مختلفة، بحيث تظهر أعمالى الكاريكاتورية بشكل إيجابى وفعَّال فى نهاية الأمر.
وفى أحد الأيام كنت أتطلع إلى بعض الأعمال الكاريكاتورية القديمة الموجودة فى أرشيفى بين جنبات مكتبتى المتواضعة. ووقفت حائرًا متأملًا أمام شخصية كاريكاتورية شهيرة والتى تعد من كلاسيكيات الكاريكاتير المصرى العريق. فهى الشخصية الأشهر على الإطلاق. ألا وهى شخصية «المصرى أفندى». تلك الشخصية التى تعد أول شخصية نمطية كاريكاتورية تظهر للعلن عبر الصحافة المصرية. حيث ظهرت للمرة الأولى على يد الفنان الأرمينى الرائد ألكسندر هاكوب صاروخان (1898-1977)، الذى قام بابتداع شخصية المصرى أفندى عبر مجلة روزاليوسف عام 1932. والتى كان قد ابتكرها بمعاونة روزاليوسف ومحمد التابعى.
حيث إن هناك شخصية كاريكاتورية ظهرت بـ«صحيفة ديلى اكسبريس» البريطانية على يد الرسام الإنجليزى سيدنى كونرد ستروبى (1891-1956). وكانت هذه الشخصية قصيرة وترتدى قبعة أفرنجية ويحمل مظلة فى يده. وقد لفتت هذه الشخصية انتباه الأستاذ محمد التابعى (1896-1976) والسيدة فاطمة اليوسف المعروفة بـ روزاليوسف (1897 - 1958) - صاحبة مجلة روزاليوسف - والتى كانت تسعى بالتعاون مع التابعى لإدخال الكاريكاتير كمادة صحفية لمجاراة صحيفة الكشكول التى كانت تُصدّر رسوم الكاريكاتير لمشاكسة السياسيين وقتها. وكان الرسم يحمل شخصية جحا الذى كان يهاجم حزب الوفد وسعد زغلول خلال عشرينيات القرن الماضى.
وقد تم تمصير هذه الشخصية الإنجليزية على يد روزاليوسف والتابعى، حيث تم استبدال القبعة بالطربوش. والمظلة بالمسبحة. وتم إضافة النظارة لها. وبهذا الشكل تواءمت الشخصية مع ملامح وشكل المواطن المصرى المعاصر فى هذا الوقت. وفى النهاية رسمها صاروخان بشكل بديع ومنمق. وبالطبع كانت ابتداع شخصية المصرى أفندى فكرة ألمعية وذكية لجذب القراء وبالتالى زيادة المبيعات. ومن هنا كانت اللبنة الأساسية لفكرة ابتداع شخصية المصرى أفندى.
من المعروف أن التابعى كان قارئًا ومتابعًا جيدًا للصحف الأجنبية. وكان ينقل كل ما يراه لامعًا وناجحًا من أفكار ومواد صحفية فى تلك الصحف إلى الصحافة المصرية. وذلك بعد التمصير وإضافة بعض التوابل الحارة، وبالأخص فى المواد الكاريكاتورية. وهو أول من قدم مدرسة المفكر الذى يضع الفكرة اللاذعة لمادة الكاريكاتير، وترك مسئولية إبداع الرسم للرسام. وهى المدرسة التى تبنتها مؤسسة أخبار اليوم وسارت على نهجها واشتهرت بها. ولمع من خلالها الكاتب أحمد رجب والفنان مصطفى حسين كثنائى يمثلان المفكر والرسام.
وسرعان ما تضافرت شخصية المصرى أفندى مع نبض الشارع المصرى، والتحمت مع الحركة السياسية فى مصر. ولاقت إقبالًا ورواجًا كبيرًا. وظهر على إثرها بعض المتاجر والعلامات التجارية التى تحمل الاسم نفسه. لكن فى الوقت نفسه، أشعلت تلك الشخصية عدة أزمات كانت كفيلة بإنهاء مسيرة صاروخان الكاريكاتورية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، رسم صاروخان شخصية المصرى أفندى وهو فوق اللهب ويحترق بها فى حالة شىّ على يد حكومة إسماعيل باشا صدقى (1875-1950) - صاحب استصدار دستور 1930 - فى إشارة رمزية على سوء الإدارة وغياب العدالة الاجتماعية. وهو الأمر الذى استشاط غضب الحكومة وقتها. فاستصدرت أمرًا بالقبض على صاروخان واستدعائه للتحقيق.
وأمام جهات التحقيق تحايل صاروخان واستطاع أن يخرج من هذا الموقف بذكاء شديد. وذلك بعد أن أوحى للمحققين أنهم أساءوا فهم فكرة الكاريكاتير. وأنه يقصد أن حكومة إسماعيل باشا صدقى تخمد النار التى ينكوى بها المصرى أفندى لا العكس. وأقحم وقتها اسم السيدة روزاليوسف، مؤكدًا بأنها المالكة وصاحبة شخصية المصرى أفندى.
وفى عام 1934، أسس محمد التابعى - الملقب بـ أمير الصحافة - مجلة آخر ساعة. وذلك بعد خلاف مع روزاليوسف. وبطبيعة الحال استقدم الفنان صاروخان معه ليكون رسام الكاريكاتير بالمجلة. وقد واجه صاروخان صعوبة فى رسم المصرى أفندى من جديد فى آخر ساعة. وذلك لأنه يعلم أن روزاليوسف تملك حقوق هذه الشخصية.
واستمرت روز اليوسف بالدفع بـ المصرى أفندى فى الكاريكاتير الذى كان تنشره فى المجلة. حيث ظلت شخصية المصرى أفندى قائمة عبر صفحات مجلة روزاليوسف وإصداراتها لأكثر من ثلاثة عقود متتالية. وبالأخص حتى عام 1958. ولا أدرى ما هى الأسباب الحقيقية التى أدت إلى توقف تلك الشخصية عن الظهور واختفائها للأبد عقب هذا التاريخ. حيث كانت هناك مجموعة من رسامى الكاريكاتير تستند إلى شخصية المصرى أفندى فى رسومهم الكاريكاتورية عبر مجلة روزاليوسف. ومنهم الفنان عبدالله عبدالسميع والفنان زهدى العدوى والفنان أحمد ثابت طوغان. ومن قبلهم الفنان محمد عبدالمنعم رخا، الذى زامل صاروخان فيما بعد بأخبار اليوم. وكان ذلك بتكليف من الكاتب إحسان عبدالقدوس. وهذا ما رواه لى الفنان طوغان بنفسه عندما سألته وحاورته عن شخصية المصرى أفندى.
يذكر أن صاروخان كان قد حصل على الجنسية المصرية عام ١٩٥٥ إبان حكم الرئيس جمال عبدالناصر. كما أنه صنف ضمن أهم وأقوى ١٠٠ رسام على مستوى العالم فى القرن العشرين، وذلك بتصنيف مجلة ستوديو الإيطالية عام ١٩٥٧. علمًا بأن ألكسندر صاروخان قد رحل عن دنيانا فى الأول من شهر يناير عام 1977.
ومن المعروف أن هناك فيلمًا سينمائيًا يحمل اسم «المصرى أفندى» من إنتاج عام 1949. وقد استلهم مؤلفا الفيلم حسين صدقى ومحمد كامل حسن المحامى هذا الاسم تيمنًا بشهرة شخصية المصرى أفندى النمطية الكاريكاتورية الجارفة. الفيلم بطولة حسين صدقى ومديحة يسرى وإسماعيل ياسين ولولا صدقى وجمالات زايد وكيتى وآخرين. وإخراج حسين صدقى.
عمومًا كان المصرى أفندى يمثل عموم الناس فى الشارع المصرى كشخصية مصرية صميمة جاءت من قلب وكينونة المجتمع ليعبر عنهم. ولهذا أصبح رمزًا وأيقونةً وعلامةً مصريةً مسجلة. تمامًا كما مثلت شخصية البول دوج عن إنجتلرا. وكذلك شخصية أنكل سام التى مثلت أمريكا كأيقونات. علمًا بأن صاروخان قد رسخ رسومه الكاريكاتورية مستعينًا بشخصيات أخرى كان قد أبدعها عبر مسيرته، ومنها: إشاعة هانم، ومخضوض باشا الفرعنجى، والعم سام.
ظل المصرى أفندى هو نبض الشارع المصرى، معبرًا عن أحلامه وآلامه. وظل مستمرًا مع الأحداث. بل وتطور وفقًا لكل المستجدات. فإبان إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام ١٩٥٨. وتوقيع الرئيس المصرى جمال عبدالناصر والرئيس السورى شكرى القوتلى ميثاق الجمهورية العربية المتحدة. تغير اسم وشكل المصرى أفندى. فصار العربى أفندى وارتدى الزى العربى المتمثل فى الجلباب والعقال والدشداشة. ويبدو أنها كانت آخر تجليات المصرى أفندى عبر الكاريكاتير. لأنه اختفى ولم يظهر من بعده أى بديل ليخلف مكانه بالرغم من ظهور أسماء رنانة فى عالم الكاريكاتير!.
وبعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على ظهور المصرى أفندى. وفى ظل التنوع الأيديولوجى للمجتمع المصرى. وتغير شكل الشارع ووسائل النقل والمواصلات. وظهور الهواتف النقالة، وشبكة الإنترنت، ومنصات الأفلام والمسلسلات والعروض الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعى. وتدخل الذكاء الصناعى فى شتى مجالات حياتنا. أتصور الآن شكل المصرى أفندى لو كان استمر حتى زمننا الحالى ودخل القرن الواحد والعشرين. كيف سيرسمه رسامو الكاريكاتير المعاصرون. هل سيخضع لعملية النشوء والارتقاء والتطور.
وكيف سيكون شكله ومظهره؟ ماذا سيرتدى من ملابس؟ ما شكل نظارته؟ وهل سيستعين بالعدسات بدلًا منها؟ أم أنه سوف يخضع لعملية تصحيح للبصر؟ وهل سيخضع لعملية تكميم للمعدة ليخسر بعض الوزن؟ وهل سيحمل مسبحة إلكترونية ذات عداد؟ أم أنه سيستعين بهاتف نقال فى يده بدلًا من المسبحة؟ كلها أسئلة أطرحها على رسامى الكاريكاتير والصحفيين والمثقفين والمهتمين المعاصرين.