«أمل دنقل» أقربهم إلىَّ.. عرفته فور وصوله القاهرة قادمًا من قنا عام 1964 أصدقاء شعراء.. وأعداء أيضًا شعراء!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
كم عدد الشعراء الذين عرفتهم خلال عملى الصحفى؟
أسأل نفسى هذا السؤال وأنا أسترجع ذكرياتى معهم، وهم كثر يزيد عددهم على الخمسين شاعرًا وشاعرة.
أولهم وأقربهم لى هو أمل دنقل، الذى عرفته لدى وصوله القاهرة قادمًا من قنا فى سنة 1964 التى وصلت فيها أنا أيضًا القاهرة قادمًا من السويس، وكان ملازمًا لصديقى شاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبدالله، القادم هو الآخر من الأقصر، وشاعر العامية المصرية المجدد عبدالرحمن الأبنودى الذى وصل القاهرة فى العام نفسه مع أمل. وهو الوحيد بينهم الذى قال لى فيما بعد، أنه يعتبر نفسه ابن «صباح الخير».. لماذا؟
لأن صلاح جاهين احتفل به وقدّمه على صفحات المجلة تحت عنوان «شاعر جديد يعجبنى» واعترف لى الأبنودى بأنه تتلمذ على يد أستاذه صلاح جاهين، وأنه لا يستطيع أن ينكر ذلك.. وأن تقديمه فى «صباح الخير» فتح له أبوابًا كثيرة واختصر طريقه إلى المقدمة التى وصل إليها بعد ذلك بتميزه وتفرده وقدرته على التجديد واحتفاظه بالأصالة..
وتميز ثلاثتهم بالعناد والإصرار على اقتحام عالم الأدب بالجديد المختلف عن السائد، وكان السائد وقتها هو شعر صلاح عبدالصبور (أول مدير تحرير لـ«صباح الخير») وأحمد عبدالمعطى حجازى (سكرتير تحرير «روزاليوسف» وقتها وكان محررًا فى «صباح الخير» من قبل)..
وهما اثنان من مجددى الشعر العربى كما نعلم..
وأذكر لحجازى معركته مع عباس محمود العقاد (رئيس لجنة الشعر وقتها) والذى رفض تجديد حجازى للشعر واعتبر أن ما يبدعه فى قصيدته ليس شعرًا.. ويمكن تحويله إلى لجنة النثر أو القصة!
ثار أحمد عبدالمعطى حجازى ووصف العقاد بأنه عقبة فى تطور الشعر والأدب العربى!
أعجبنى موقف حجازى واندهشت من العقاد مع أن له مبادرات قديمة فى تطوير القصيدة العربية ضمن مجموعة «الديوان» وأيضًا الشعراء الذين أطلقوا على أنفسهم اسم جماعة «أبولو» وضمت على ما أذكر الآن، عبدالرحمن شكرى. وأحمد زكى أبوشادى لكن العقاد كمفكر وباحث ونائب برلمانى انشغل بالكتابة النثرية والفكرية ونسى الشعر تمامًا.
ومن ذكرياتى مع حجازى أنه عندما زار لندن مع زوجته نزلا ضيوفًا عليّ.. وقمت بجولة سياحية لهما فى العاصمة البريطانية وخلالها رأيا تمثالاً للشاعر البريطانى وليم شكسبير فى ميدان مهم، فتساءل شاعرنا الكبير بحسرة: ومتى نرى تماثيل لشعراء مصر فى ميادين مصر؟!
وأنا أتساءل الآن وأوجِّه حديثى لوزير الثقافة الجديد:
متى يتم تكريم أحمد عبدالمعطى حجازى حيًا؟
ومن الأصدقاء الشعراء لا أنسى نجيب سرور، وإنجازه المهم فى تحويل الموروث الشعبى إلى مسرح شعرى.. كان يكتب المسرحية شعرًا عاميًا، ويمثل فيها ويخرجها، وكان هذا مثار إعجاب كبير، مع أن أمل دنقل كان يشاغبه فى جلسات «ريش» بالقول أن هذا ليس شعرًا! ومن ذكرياتى مع نجيب سرور أنه أسرّ لى بحكاية غرامه فى صباه بفتاة تنتمى إلى عائلة إقطاعية، بينما هو فلاح ابن فلاحين، ما ترتب عليه صراعات طويلة مع عائلتها، انتهت بحرمانه من حبيبته الحسناء التى أصبحت فيما بعد نجمة من نجمات التليفزيون..
جاهين يشجعنى!
هناك شاعر عرفته كرئيس لى فى «صباح الخير» هو صلاح جاهين، الفنان متعدد المواهب.. رائع ورائد قدّم على صفحات المجلة شعراء جُدُدًا أصبحوا نجومًا وهو فنان كاريكاتير متفوق، وكاتب سيناريو سينمائى أكثر من متفوق فى (فيلم «خللى بالك من زوزو»).. وراعى كبير للمواهب، من سعاد حسنى - التى قالت لى أنها تعتبره أباها الروحى - إلى أحمد زكى، الذى تتلمذ على يديه.
ولا أنسى تشجيعه لى للعمل فى السينما معلنًا أننى سيكون لى شأن على الشاشة! لكن ذلك لم يكن هدفى..
وهناك قصة أخرى لا أنساها، فقد عرفت صلاح جاهين وسيد مكاوى عندما كانا يجهزان مشروعهما الفنى الرائع «الليلة الكبيرة».
كنت وقتها طالبًا فى كلية الفنون الجميلة وكان أستاذى الفنان ناجى شاكر يصمم عرائس أوبريت «الليلة الكبيرة» ويستعين بى وزملاء آخرين فى عمليات تجهيز العرائس وتلوينها.. وتركيب مفاصلها، وهكذا أتاحت لى الظروف معايشة هذا العمل الذى يُعتبر من أبرع وأروع ما قدمه مسرح العرائس.. والفضل لأستاذى وهو بالمناسبة شقيق زميلنا القدير فى «صباح الخير» الفنان الراحل إيهاب شاكر.
وأتذكر شاعرًا كبيرًا هو كامل الشناوى، كنت أحضر ندوته فى كافيتريا فندق هيلتون فى صحبة العم عدلى فهيم (فنان الإخراج الصحفى فى «روزاليوسف» و«صباح الخير»).. وكان يحضر هذه الندوات عدد من النجوم أذكر منهم نجاة الصغيرة وسعاد حسنى، وكتّاب وصحفيون.
وكنت أجلس صامتا مستمعًا لحديثه مثل كل الحاضرين، فهو يحب الجلوس إلى الناس والحكى ويتكلّم ويحكى ولا يتوقف عن الحكى، وله طريقة مشوّقة ينسى معها الوقت.. وقد كان شاعرًا مُجددًا على الرغم من أنه لم يبدع إلا ثمانى قصائد فقط، وتخطر على بالى الآن أغنية نجاة الصغيرة «لا تكذبى. إنى رأيتكما معًا» من أشعار كامل الشناوى، وسمعت أنها نتيجة معاناة شخصية عاشها الشاعر حيث ارتبط بعلاقة حب من طرف واحد مع مطربة شابة لكنه شاهدها مع كاتب قصة لامع.. ولا أعلم حقيقة الأمر، الله أعلم.
مكتشف سعاد حسنى
شاعر آخر تعرّفت عليه هو الذى يرجع إليه الفضل فى اكتشاف سعاد حسنى، وتزكيتها للقيام ببطولة فيلم «حسن ونعيمة» سنة 1959 ولم يكن عمرها يزيد على 16 سنة!
وكان قد اختارها لبطولة مسرحية «هاملت» التى ترجمها عن شكسبير، وكلّف اثنين من الممثلين المحترفين بتدريبها على الأداء المسرحى والنطق السليم عندما كانت فى الخامسة عشرة من العمر، هما إنعام سالوسة وإبراهيم سعفان.
تعرّفت عليه فى سنوات السبعينيات التى كنت أذهب فيها فى شهور الصيف إلى الإسكندرية وأوافى «صباح الخير» بالأخبار والتحقيقات والأحاديث من هناك.
هو عبدالرحمن الخميسى، وكنا نلتف حوله فى جلسات ساهرة ويطلق عليه الجميع لقب «القديس» تقديرًا لقدرته الفائقة على تحمل ما عاناه من اعتقالات ونفى وآلام، وحكيت له ذات مرة إننى أعرفه منذ الطفولة لأن أبى كان يقتنى دواوينه الشعرية ويطلب منى قراءة أشعاره بصوت مسموع.
هل أنسى صديقى الشاعر محمد عفيفى مطر، الذى عملت معه فى مجلة «سنابل» وكان هو رئيس التحرير.. وكنت المحرر المختص بالفن التشكيلى بحكم دراستى، وأعتقد أن عفيفى مطر تعرض لمتاعب كثيرة ولم يحصل على التقدير المناسب مع أنه كان متفوقًا على نفسه فى خلق عالمه الشعرى الخاص به.
ومن شعراء الأغنية جمعتنى «صباح الخير» بمحمد حمزة الذى بدأ العمل فى المجلة ثم ظهرت موهبته الشعرية الرائعة فأصبح محررًا فنيًا.. وكان يكتب فى الرياضة أيضًا.. لكن شهرته انطلقت مع نجاح الأغنيات التى كتبها لعبدالحليم حافظ وبلغ عددها 37 أغنية وأولها «سواح»..
حتى لا أنسى فقد كان لى مع صديقى وزميل الدراسة فى كلية الفنون الجميلة والعمل فى «صباح الخير» رسام الكاريكاتير المختلف محسن جابر، دورٌ فى زواج زميلنا حمزة من شابة كانت تتدرب فى المجلة لكنها انتقلت للعمل فى التليفزيون وحققت نجاحًا ملحوظا هى فاطمة مختار.
ولمحمد حمزة فضل علىّ هو أنه حصل لى على العضوية الشرفية للنادى الأهلى بتزكية من المهندس عدلى القيعى (أحد مديرى النادى الآن) الذى كان يشترك وقتها فى تحرير صفحات الرياضة «ملعب صباح الخير» ورصد حماسى وتشجيعى لنجوم الأهلى وكانت المجلة تضعهم على الغلاف.
وحكاية أخرى طريفة.. فذات يوم فوجئت بحمزة يأتى إلى مكتبى ويقدم لى هدية، فافتحها فإذا بها «كرافتة فاخرة»..اندهشت أولاً لأننى لم أكن أرتدى رابطات العنق، وثانيًا لأنه ليست هناك مناسبة تستدعى أن يهدينى صديقى العزيز مثل هذه الهدية الغالية الثمن، فسألته عما وراء الهدية، فقال لى هذه الهدية ليست منّى، لكنها من فريد الأطرش!
أنا عمرى ما قابلت فريد الأطرش!
- هو سمع عنك منّى وطلب منّى أعطيك هديته هذه..
طبعًا أنا من محبى كثير من أغانى فريد الأطرش وأعرف أنه أمير درزى سورى هرب مع أخته ذات الصوت الآسر أسمهان، من البطش الذى عاشته بلاده إلى أحضان مصر التى ازدهر فيها حالهما وأصبحا من نجوم الغناء و-السينما- أيضًا.. وكنت مع نفسى أسميه «شحاذ الغرام» لأنه فى معظم أغانيه وأدواره كان يبدو لى هكذا..
اكتشاف محمد منير
ننتقل إلى صديق آخر من شعراء الأغنية هو عبدالرحيم منصور، الأكثر رهافة ورقة فى أغانيه وفى شخصيته البسيطة الأليفة، وفى عدم ميله للمشاكسة والمشاغبة التى كان يشتهر بها غيره ولا أريد أن أسمّى أسماءً.
وطبعًا لا أنسى أن عبدالرحيم اختارنى من بين أصدقائه الصحفيين الكثر، ليقدم لى الشاب صاحب الموهبة الغنائية المتميزة، محمد منير لأستمع إليه وأقدمه لأول مرة على صفحات «صباح الخير».. وكان لا يزال طالبًا فى كلية الفنون التطبيقية.
وهناك صديق عزيز هو مجدى نجيب الذى عرفته عند خروجه من معتقل الواحات سنة 1964 وكان شابًا خجولا وشاعرًا يكتب قصائده العامية بعمق وغموض أحيانًا.. وأصدر أول دواوينه فى العام نفسه بعنوان «صهد الشتا».. لكنه برع فى كتابة الأغانى لشادية وغيرها من نجمات ونجوم الغناء.. وكنت أدعوه للمشاركة فى ندوات ونشاطات ثقافية ننظمها فى كلية الفنون، مع الأبنودى وسيد حجاب وعبدالرحيم منصور وسميرعبدالباقى وفرج فودة الذى كان وقتها طالبًا فى كلية الزراعة وشاعر عامية.
ولا أنسى أن مجدى تزوج من زميلة لنا فى كلية الفنون الجميلة تعرّف عليها خلال مشاركته فى ندوات الكلية.
وفيما بعد تكشفت لديه موهبة أخرى هى الرسم.. كان يرسم كالأطفال لوحات مدهشة احتل بعضها أغلفة «صباح الخير».
ولا أنسى أننى وجدت نفسى أقوم بدور المصلح بين صديقين عزيزين اختلفا فى عملهما الفنى هما الشاعر مجدى نجيب والمغنى محمد منير.. وكم كانت سعادتى عندما وفقنى الله إلى عودة المودة والصداقة والتعاون الفنى بين هذين النجمين.
ولى مع مجدى ذكرى أليمة، فقد طلب منّى مدير مجلة أسبوعية خليجية كنت أتعاون فى تحريرها من لندن فى التسعينيات، أن أرشح له مخرجًا صحفيًا لوضع تصميم جديد للمجلة، فرشحت له مجدى نجيب الذى كان قد حقق نجاحًا ملحوظا كمُخرج لمجلة «الكواكب» عندما كان يرأس تحريرها رجاء النقاش.
وتمت الموافقة على اقتراحى وسافر مجدى إلى دبى وقام بوضع التصميم الجديد للمجلة ونال التصميم المبتكر إعجاب مديرى المجلة.. لكننى فوجئت بأن صديقى مجدى نجيب ألغى تمامًا كل الأبواب التى كنت أحررها فى المجلة وتملأ عشر صفحات كل أسبوع وبينها ترجمة لكتاب جديد تنشر على حلقات!
نزار يهرب!
هناك أيضًا شعراء كبار من البلدان العربية مثل عبدالوهاب البياتى الذى تعرّفت عليه فى مقهى «ريش».. وهو ثالث رواد الشعر الحديث بعد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، كان البياتى شاعرًا مميزًا قوى الشكيمة فيما يتعلق بقدراته التجديدية وموقفه الإنسانى المتعاطف مع قضايا الطبقات الشعبية، ما أثار عليه غضب حكام بلاده فوجد نفسه وقد تحوّل إلى شاعر منفى. عاش فى القاهرة فترة وتنقل هنا وهناك فى بلدان مختلفة فى قارات العالم والتقيته فى مدريد فى الثمانينيات فإذا به المستشار الثقافى العراقى.
وترجمت دواوينه إلى اللغة الإسبانية..ثم بعد فترة جاء للإقامة فى لندن.
ولعله أكثر من حوّل المنفى إلى مفهوم شعرى تناوله فى عدد من دواوينه. وكنت أراه شاعرًا مجددًا ثائرًا يتمتع بالأصالة والثقة والتمكن.
ومنفى آخر شهير هو نزار قبانى، عرفته فى لندن آخر منافيه، وكان تعارفنا لأنه يحب «صباح الخير» ويحب مصر.. وكنت أناكفه بأنه اتهم جمال عبدالناصر وتجرأ عليه فى قصيدته المازوكية بعد هزيمة يونيو، ثم ودّعه عند رحيله بقصيدة تمجيد بالغ!..
شرح لى موقفه فى الحالين ودعانى لزيارته فى بيته اللندنى الأنيق، وهناك التقيت مصادفة الشاعرة الكويتية سعاد الصباح.
ومن ذكرياتى مع نزار قبانى أننى أقنعته - هكذا أظن- بأن أجرى معه حوارًا، فإذا به يماطلنى. ثم استجاب بعد فترة بسبب إلحاحى ربما، لكنه بدلاً من أن يرتب موعد لقائنا فى بيته، اقترح أن يكون ذلك فى حديقة «هايد بارك»!
لم أجد سببًا للممانعة، وافقت واتفقنا أن نلتقى عند مدخل محطة المترو الذى سنذهب به إلى الحديقة..
وفى الموعد انتظرته طويلاً فلم يأتِ - كان ذلك قبل عصر التليفون المحمول- وبعد فترة طويلة فقدت الأمل فى حضوره فغادرت المكان.. وعندما التقيته بعدها، وجدته يعاتبنى بشدة لأنى لطعته - كما قال - على باب المحطة لمدة ساعة ولم أحضر.
بعد فترة عرفت أنه خدعنى بغرض التهرّب من حوار كان يعرف أنه سيكون شبه محاكمة له، مع أنى أحب له كثيرًا من أشعاره، لكن لا يعجبنى تدهور أشعاره أحيانًا وتناقض مواقفه.
ومن الشعراء العرب عرفت من العراقيين بلند الحيدرى وصلاح نيازى وسركون بولس.
وعبداللطيف أطيمش، ونبيل ياسين وشقيقه جبار ياسين وسلام سرحان وغيرهم.
ومن فلسطين محمود درويش الذى بدأت صلتى به بتصادم، فقد لقيته لأول مرة فى القاهرة فى سنة 1969 تقريبًا قادمًا من فلسطين المحتلة.. لم أحادثه وقتها، كنت فقط مندهشًا به وبالإقبال المصرى الشديد على الاحتفال به بعد مقال رجاء النقاش الاحتفالى الشهير بالشاعر الفلسطينى الشاب، وقد ضاق درويش بهذا الحب الزائد، وهرب منه!
وعندما التقيته فى لندن بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات، فى صحبة زميله الشاعر الفلسطينى سميح القاسم، كان قد ذاع صيته وبرز دوره الرائد، وبدا لى فخورًا بنفسه، معجبًا بها، فسألته بشكل صادم على مسمع من زميله سميح الذى لم تبد عليه علامات التعنظز والتعالى:
هل تظن نفسك عبدالحليم حافظ؟!
فأشاح بوجهه عنّى وواصل حديثه مع سميح، وقد بدت عليه علامات ضيق.. فتركتهما ومضيت.
أتذكر هذا الموقف؛ لأننى بعد ذلك تابعت إبداعه وتألقه وصبره على نفسه وارتقاءه بشعره وإخلاصه له بما جعله يصعد إلى مستوى شاعر إنسانى، وليس مجرد صوت فلسطينى. لقد نجح محمود درويش فى الوصول كشاعر عربى إلى آفاق عالمية لم يسبقه إليها أى شاعر عربى آخر.
أعلنته رأيى هذا فى جلسة جمعتنا مع نخبة من المثقفين والنقاد والصحفيين، فوجدته يشكرنى بتواضع.. وأصبحنا أصدقاء.. وتحوّل هو فعلا إلى الشاعر العربى الذى يعرفه العالم. وفى زحام المشاهير لا أريد أن أنسى الشعراء الأقل شهرة، فكان لى دور متواضع فى التعريف ببعضهم مثل بهيج إسماعيل ومحمد يوسف وعصام الغازى وزكى عمر.
وآخرين تعرّفت عليهم والتقيتهم فى ظروف مختلفة محمد سيف ونجيب شهاب الدين، ومن سوريا نورى الجراح ولينا الطيبى وندى منزلجى ومن الأردن أمجد ناصر ومن العراق جمال حيدر، وهاشم شفيق وفوزى كريم وصلاح فائق ومن مصر بدر توفيق وزين العابدين فؤاد وعبدالمنعم رمضان وأحمد الشهاوى.وأحمد عز الدين وطلعت شاهين وسعدنى السلامونى ومن سَلطنة عُمَان سيف الرحبى ومن البحرين قاسم حداد.
هل نسيت فؤاد حداد أستاذ صلاح جاهين الذى عمل معنا فى «صباح الخير» ودخلها عام 1964 بعد الإفراج عنه من معتقل الواحات؟
وهل أنسى سيد حجاب الذى صحبنى فى رحلة فى بحيرة المنزلة خلال زيارتى لبلده؟
وجمال بخيت ومحمد بغدادى وشوقى حجاب الذى كرّس شعره للأطفال..لا أنسى أحدًا منهم، لكن حكاياتى مع الشعراء تملأ صفحات كتاب.
ولا بُدَّ لى من أن أعترف بأن مخالطة الشعراء أكسبتنى الكثير الذى لا يحصى، موسيقى اللغة، تكثيف العبارة، الرسم بالكلمات، تنوع المعانى فى العبارات والكلمات.. وغير ذلك مما لا حصر له.
وقد يسألنى سائل: وهل كنت تكتب الشعر؟ فأجيبه بالنفى!.. لم يحدث هذا أبدًا فى أى مرحلة من حياتى..
لكن ذات مرة وأنا أكتب إحدى رواياتى وهى «سبع جنات» التى نشرت مسلسلة فى «صباح الخير».. ثم صدرت ضمن سلسلة «روايات الهلال».. كانت هناك شخصية شاعرة شابة مضطربة المشاعر اسمها «سماء» وفى أحد المواقف نجدها تكتب قصيدة، من الشعر المنثور، وكان عليّ أن أكتب القصيدة... فكتبتها وهى بذلك تعتبر أول وآخر قصيدة لى، وهذا نصها:
العالم ضيق
ووقتنا فيه ضيق
عالم وحشى
يفاجئك كل لحظة بلطمة
فهل خلقنا
مصدات للطمات؟!
ورق الشجر يتساقط
الخريف جاء فى الربيع
النهر توقف مجراه
وفؤادى يقطر دمًا
جف نهر الحب
ونهر الخوف يفيض
وأنا لا أعرف أيننى
جف النهر
فسبحت فى رمال متحركة
***
وبالمناسبة؛ فقد ضمت هذه الرواية قصيدتين، ما يعكس حبى للشعر؛ الأولى فصحى لجبران خليل جبران «أعطنى الناى وغنّى» والثانية عامية كتبها أحمد رامى وهى «أحب عيشة الحرية».
تعلمت من أصدقائى الشعراء؛ كبارًا وصغارًا، النظر إلى الأمور بطريقتهم التى تتجاوز ما نراه إلى ما لا نراه، وهى الملكة التى يتميز بها الشاعر والكاتب والمثقف الحقيقى، والتى تمنحه القدرة على النقد والثورة والرفض والتغيير..والتجديد، بجانب القدرة على تذوق الجمال وابتكاره!
حلاوة الحياة هى أنها تتيح للإنسان أن يتعلّم كل جديد، فى كل لحظة.. لوشاء.
..وفى الأسبوع المقبل نواصل.