«صباح الخير» أخرجت «بن بيللا» من صمته الطويل
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
من دواعى إحساسى بالفخر، أننى تمكنت باسم «صباح الخير» من إخراج الزعيم أحمد بن بيللا قائد ثورة الجزائر من صمته الطويل وانقطاعه عن التواصل مع الصحافة والإعلام، عندما التقيته فى لندن منذ ربع قرن تقريبًا سنة 2000، وكان قد وصل العاصمة البريطانية ضمن جولته فى أنحاء مختلفة من العالم للدفاع عن حق كل شعب فى تقرير مصيره ومساندة قضايا الحرية فى العراق وفلسطين، من خلال مؤتمرات سياسية شعبية، وكان يشاركه فى مؤتمر لندن الزعيم البريطانى «تونى بن» الذى قاد حملة فى البرلمان وفى مظاهرات اجتاحت الشارع البريطانى فى سنة 1956 منددًا ومعارضًا للغزو الثلاثى لمصر.
وعند تقديمه للزعيم الجزائرى قال تونى بن: إننى فخور بأن أعيش فى زمن بن بيللا.
قال لى أحمد بن بيللا إنه ليست لديه رغبة فى التحدث إلى الصحافة، وهو متوقف عن ذلك منذ زمن. ومع ذلك استطعت أن أجعله يفتح لى صدره ويدلى بحديث طويل ونادر ملىء بالأسرار التى يكشفها لأول مرة، وانفردت به «صباح الخير».. فكيف حدث ذلك؟
كان وجود بن بيللا فى لندن فرصة لا تعوض بالنسبة لى، وسعيت للقاء الرجل والاستماع إليه، ومع أنه أكد لى عدم رغبته فى التحدث عن أوضاع الجزائر حتى يتيح للأمور أن تسير فيها إلى ما هو أفضل.. إلا أننى ضربت تلقائيًا على وتر حساس.. بل شديد الحساسية - كما بدا لى فيما بعد- لدى الرجل المهيب القامة والقيمة، فوجدته يستجيب لرغبتى فى الجلوس إليه وتسجيل حديث صحفى معه للنشر فى «صباح الخير»..مع أنه اعتذر أمامى عن عدم التحدث إلى أى من الصحفيين الذين أحاطوا به!
هل أكشف لكم سرى.. وأعلن عن «الوتر شديد الحساسية» الذى عزفت عليه لدى بن بيللا؟! لقد قلت له إننى سعيد بلقائك لأنك تذكرنى برجل نفتقده فى حياتنا العربية الآن..هو جمال عبدالناصر.
قلت لبن بيللا: أنت من رفاق عبدالناصر.. ووجودك بيننا الآن يبعث الأمل.. ونحن سعداء أننا عشنا زمانه وزمانك.
اهتزت مشاعر الرجل العملاق.. مرددًا: أى حديث عن عبدالناصر ألبّيه فورًا.. أسعدنى هذا فطلبت منه أن يتحدث عبر «صباح الخير».. إلى المصريين والعرب، فكان هذا البوح.
ووعدته بألا أخوض فى الأمر السياسى الراهن فى الجزائر تقديرًا لرغبته ونظرته العاطفة على أحوالها..
ومن حسن الحظ أننى أحتفظ فى مكتبتى بعدد «صباح الخير» الذى نشر فيه حديثنا، على خمس صفحات (العدد 2335 فى 3 أكتوبر 2000) ويمكننى هنا التقاط أهم نقاطه من خلال العناوين:
* عشنا معه فترة كنا فيها أمة اكتشفت نفسها
* فى الثورة الجزائرية لم نجد معنا رجلاً إلا جمال عبدالناصر
* خطف الفرنسيون طائرتنا نحن قادة الثورة وكان أول مطالبهم الكثيرة لإطلاقنا هو إسكات إذاعة «صوت العرب»
* أول إيرادات قناة السويس بعد التأميم قدمها لنا جمال عبدالناصر لدعم ثورة الجزائر * قبل خطاب عيد الثورة فى 23 يوليو جاءنى السفير الأمريكى وكنت رئيسًا للجزائر يطلب وساطتى حتى لا يشتمهم جمال فى الخطبة كثيرًا
* لم تأت الأسلحة للثورة الجزائرية إلا من مصر..لا من روسيا ولا من الصين
* طلب الجنرال ديجول وساطتى لدى أخى جمال لإعادة علاقات فرنسا مع مصر
قال لى بن بيللا:
ذكرياتى مع الأخ المرحوم جمال عبدالناصر هى بالنسبة لى ذكريات العمر..هى فترة كانت من أخصب الفترات فى تاريخ العرب حتى الآن، ومنذ قرن من الزمان، وأنا أحكى عنها كفترة وزمن مملوء ومشحون بالخطوات والإنجازات.. احنا كنا طالعين للسما كأمة فى تلك اللحظات، وحتى اليوم تظهر الإشارات التى تؤكد لنا ذلك، كنا وقتها أمة اكتشفت نفسها ونهضت.
وعن الخطوات الأولى للثورة الجزائرية واللقاء مع عبدالناصر يقول:
الالتحام وقع بيننا وبين الأخ جمال ولقائى معه ومع الإخوة المسئولين فى مجلس قيادة الثورة المصرية، كان قبل اندلاع الثورة الجزائرية، ولم أكن إنسانًا معروفًا، كان ذلك فى سنة 1953.. والأخ جمال «شم ريحة طيبة» ولم تكن الثورة قد انطلقت وعرف بما نرتبه من نضال.. وبعدين الثورة الجزائرية كانت الوجه الآخر لعملة الثورة المصرية.. ولذا وقع التلاحم والتعانق والتجانس، وكانت المساندة من مصر.
كان الرجل الذى تجاوز الثمانين من عمره يتحدث بعاطفة قوية وفخر وحماس، كما لوكان فى سن الشباب، وواصل مسترسلاً:
ودعنى أقول لك إنه كمفكر.. وليس فقط على صعيد المكاسب الأرضية.. عشنا معه فترة زمنية كنا فيها أمة اكتشفت نفسها. وأنا أحكى عنها كفترة وزمن مملوء ومشحون بالخطوات والإنجازات.
احنا كنا طالعين للسما كأمة فى تلك اللحظات.. وحتى اليوم تظهر الإشارات التى تؤكد لنا ذلك.. كنا وقتها أمة اكتشفت نفسها ونهضت.
واحنا كجزائريين بالخصوص- وهذا يشهد عليه التاريخ.. فى الثورة الجزائرية - لم نجد معنا رجلاً إلا جمال عبدالناصر.
كانت الفترة العصيبة التى عشناها من الناحية الرسمية، كانت أرذل من الحالة التى نعيشها الآن كعرب.. على المستوى الرسمى العربى كان هناك الملك حسين فى الأردن ونورى السعيد فى العراق والملك إدريس فى ليبيا.. والساحة مظلمة.. وشمعون فى لبنان والنزول الأمريكانى فى بيروت.
يلتقط بن بيللا أنفاسه ويواصل:
إننى أتذكر تلك اللحظات، وكانت الثورة الجزائرية تنطلق ضد استعمار ما بعده استعمار، فيه 150 ألف عسكرى فرنسى، ومليون ونصف مليون من المزارعين الفرنسيين المستوطنين فى الجزائر، وكلهم مسلحون على امتداد 800 كيلومتر وليست 12 ألف كيلومتر كما كان الحال فى فيتنام.
كان هذا هو الوضع.. وأتذكر الأخ جمال.. وأتذكر كل هذه الأشياء.. وكل المواجهات فى اليمن والمواجهات والتكالب ضده وضد الثورة المصرية.
ونجحنا والحمد لله وانتصرنا، وتسلمنا أرضنا الجزائرية وكان هذا النجاح من أعظم الأمور، وأحب أن أوضح وأؤكد أنه لولا جمال لما تحقق لنا كل هذا النجاح.. ولما انتهى نضالنا ضد الاستعمار على خير.. فقد عجلت مساندته لنا بالتحرير، وكانت ترفع رءوسنا.
* سألته: وكيف تقبل الفرنسيون فكرة أن البلاد التى عاشوا فيها وسيطروا عليها طوال العمر واستوطنوها وفرنسوها لمدة طويلة يمكن أن تخرج من سيطرتهم؟
- الحقيقة يا أخى، أن الوضع كان صعبًا بالنسبة لهم، شافوا فى الداخل أن الثورة أخذت مداها، وليست هناك قوة فى العالم تملك القدرة على إيقافها.. إحنا لم نكسب ضدهم معركة فاصلة.. ولكن أتعبناهم.. دوّخناهم، قاتلناهم وقاتلونا.. وقتلوا لنا مليونًا ونصف مليون إنسان.. ما شاء الله!
لكن شافوا إنه مفيش فايدة.. النساء تحارب والأطفال والرجال والشيوخ.. وطبيعة حرب التحرير كانت قاسية عليهم، وبعدين مع وصول ديجول، حاربنا هو أكثر من الآخرين.
لكنه وجد أن فرنسا لا بد أن تخرج من الجزائر.. حاولوا فى فرنسا أن يقتلوه، أو يدبروا انقلابًا عسكريًا ضده.
وقد قيل إنه أعطانا الاستقلال، لكن هذا كلام فارغ، لقد حارب ديجول الثورة الجزائرية أكثر من القيادات الفرنسية الأخرى التى حاربتنا، لكنه نظر للتاريخ.. وشاف إن الثورة الجزائرية ستقضى على مستقبل فرنسا لو استمرت خسائرهم، وهو كقائد عسكرى رجل ذكى وشخصية تاريخية.. أنا أعرفه كويس.
ويعاود الزعيم الجزائرى حديث الذكريات فيقول:
إننى أتذكر مثلا يوم العيد.. عيد الثورة فى مصر.. قبل ذلك بأسبوع جاءنى السفير الأمريكى وأنا رئيس الجزائر ليقول لى: من فضلك نحن نعرف أن أخاك جمال فى مصر.. ونرجوك أن تكلمه حتى لا يشتمنا كثيرًا.
يضحك بن بيللا وهو يستعيد ذكريات تلك المواقف ويعلق: كان لنا وزن كبير.. وكانت لنا كلمة.
ثم ينتقل إلى كشف سر لم يكن معروفًا من قبل:
يوم تأميم قناة السويس مثلاً.. ما أتذكره هو أن أول يوم فى رجوع القناة لمصر، أعلن لنا جمال عبدالناصر وكان قد التقى بنا ومعى الأخ فرحات عباس - وهذا أمر غير معروف من قبل - وقال لنا إن أول إيرادات قناة السويس بعد استعادتها ستكون لتمويل الثورة الجزائرية كرمز قومى ومساندة.. كان يمدنا بالمال والسلاح. وحتى الأموال التى جاءتنا من السعودية مثلاً، جاءت بضغط من الأخ جمال عبدالناصر، ومصر كانت لها مكانة كبرى فى ذلك الوقت.
وينتقل إلى الحديث عن الثورة الجزائرية:
لسنين وسنين.. استمرت الثورة.. لمدة 7 سنوات ونصف السنة وكانت الانطلاقة الأولى هى الأساس.. ثم حدثت عملية خطف الطائرة التى كنت أستقلها.. أول «سطوة» (عملية خطف ضد الطائرات حدثت من جانب الدولة الفرنسية ضد طائرتنا التى كنت أستقلها مع بعض زملائى من أعضاء قيادة الثورة الجزائرية).. كنت عند الملك محمد الخامس فى المغرب وكان رجلاً محترمًا والله، وكنا نتجه بالطائرة إلى تونس.. وكنا عائدين من محادثات مع الأخ جمال عبدالناصر فى مصر.
وكان أول ما طلبه الفرنسيون منا.. أول شرط لهم.. ضمن شروط كثيرة فى القائمة، كان.. (تمتلئ عينا الرجل بشعور يصعب وصفه من الزهو والسعادة).. كان أول طلباتهم إسكات إذاعة «صوت العرب» المصرية.
يضحك أحمد بن بيللا بصوت عال وسخرية بالغة من حال الفرنسيين فى ذلك الوقت ويضيف:
يعنى معناها أن «صوت العرب» كانت أكبر من جيش.. واحنا كنا نفضل استمرار «صوت العرب» لو لم تستمر الثورة الجزائرية لأن قوتها أكبر من أى جيش. وكانت السلطات الفرنسية بعد ذلك تطلب منا التوسط بينها وبين الثورة المصرية.
* هل قوى هذا الاتصال بين الثورة المصرية والجزائرية فكرة العروبة فى الجزائر مثلاً أو عند المصريين فى ذلك الوقت؟
- طبعًا.. فى رأيى أن هذا الذى حدث بين الثورتين نقل وترجم رسالة العروبة من مجرد كلام فقط إلى أن أصبحت فعلاً..جانبًا أساسيًا فى أفكارنا ونضالنا وبرنامج عملنا.
ومصر هى قلب العروبة يا أخى.
(كنت أود نشر نص هذا البوح بالكامل لقارئ هذه الأيام، لكن الحيز المتاح هنا لا يسمح فالحديث المثير استغرق خمس صفحات من «صباح الخير»).
وفوجئت بالزعيم الجزائرى يطلب التقاط صورة لى معه.. وقد وجدت نفسى أستجيب لذلك مع أننى لا أميل إلى التقاط صور لى (لا أعرف تفسيرًا دقيقًا لهذا، إلا ربما عدم ميلى لأن أكون مشهورًا، نتيجة معايشتى لمشاهير كثر، وملاحظتى لما يتعرّضون له من متاعب بسبب شهرتهم).
ومضى الرجل فى حديث الذكريات والأسرار، فسألته: هل سبق له نشر تفاصيل كهذه من قبل، فقال إن لديه وثائق وتفاصيل تملأ مجلدًا، فتساءلت:
وهل يمكننى رصد كل هذا فى كتاب؟
قال: تعال إلى جنيف وستكون ضيفى لإتمام هذا الكتاب.. وعرّفنى بزوجته: هذه زهرة زوجتى وقدمنى لها، فلما قلت لهما إن زوجتى اسمها زهرة أيضًا، قال: إذن تعالا معًا!
فوعدته أن أرتب أمورى للتفرغ لمشروع هذا الكتاب.. لكن ظروفى لم تسمح، للأسف.
وما عرفته بعد ذلك هو أن الزعيم الجزائرى انفتح - بعد حديثنا هذا - على الحديث مع الصحافة والتليفزيون.
وفى الأسبوع المقبل نواصل