الأحد 6 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أكبر تجربة بلا رقابة فى تاريخ البشرية

«زومبى» الموبايل

ريشة: سامح سمير
ريشة: سامح سمير

ستوكهولم - يمكن أن تتغير العادات بسرعة كبيرة، وخاصة داخل ما يسمى بالدول «المتقدمة»، حيث يتأثر الأطفال بأحداث الحياة المتغيرة بنسق أكثر من البالغين. وكان الأطفال يتجولون بحرية ويبتكرون الألعاب ويتخيلون المغامرات مع أصدقائهم. ويتعلمون التفاعل مع الأطفال الآخرين بعيدا عن رقابة الآباء والسلطات، مع المخاطرة بحل المشاكل بأنفسهم. قد تكون هذه أوقاتاً صعبة وقاسية، لكنها تعليمية ومفيدة وممتعة أيضا.



ثم أصبح وجود البالغين، تدريجيا، أكثر وضوحا فى عوالم الأطفال. وتجذب الألعاب والأدوات الجاهزة الأطفال ولكنهم سرعان ما يهملونها، فى حين يتحكم البالغون فى التعليم والألعاب والأنشطة الرياضية. ويعيق وقت فراغ الأطفال المقرر تطويرهم لأدمغتهم استعدادا لمرحلة البلوغ. ويختفى اللعب الحر غير الخاضع للإشراف، ويطالب البالغون مفرطو الحساسية بعدم تعريض أبنائهم للكلمات والمواضيع والأفكار التى يعتبرونها حزينة أو مسيئة. ويلجأ الناس بشكل متزايد إلى الواقع الافتراضى، حيث يمكنهم العثور على مساحة خاصة بهم من بين الملايين من الخوارزميات التى توفرها جوجل وتيكتوك ويوتيوب وفيسبوك وانستجرام. ويدرّ المحتوى تدفقًا لا ينتهى من الدوبامين عن طريق القصص القصيرة والتقارير والتعليقات والإعلانات التى قد تثير الاهتمام وتوفر الاسترخاء. ويشاهد الأولاد على وسائل التواصل الاجتماعى الأفلام الإباحية، بينما تتغذى الفتيات الصغيرات بمُثل الجمال غير الواقعية ويتعرضن للتنمر والتغزل من أشخاص غير مناسبين لسنهن.

 

الهواتف تعزل الأطفال عن الواقع
الهواتف تعزل الأطفال عن الواقع

 

ويمكن إرجاع الكثير من التغييرات الاجتماعية إلى سنة 2014، مع طرح الآيفون 4. وكان جهازا صغيرا وذكيا ومفيدا متعدد المهام. وزُوّد بكاميرا أمامية ومجموعة كبيرة ومتنوعة من التطبيقات. كما وفر الوصول إلى خدمة دردشة الفيديو فيس تايم التى صممتها آبل. وحقق الآيفون 4 نجاحًا فوريًا، وسجّل 600 ألف طلب مسبق فى غضون 24 ساعة.

وتبرز فوائد الهاتف الذكى لأى مستخدم. وأصبح التقاط الصور والسيلفى وإنشاء مقاطع فيديو قصيرة جزءا من حياتنا اليومية، إضافة إلى قدرتنا على الاتصال بالعائلة والأصدقاء فى جميع أنحاء العالم. كما يمكننا فى لحظة ما العثور على المعلومات الأساسية.

 

ريشة: نسرين بهاء
ريشة: نسرين بهاء

 

وأصبحت الهواتف الذكية مهربًا من الملل، حيث فتحت إمكانية الوصول إلى العديد من العوالم. وهى تعزز كذلك شعورنا بالاندماج والمشاركة فى المجتمع.

لكن الهواتف الذكية قد تسبب الإدمان أيضا.

ونرى فى كل مكان من حولنا زومبى الهواتف الذكية، وهم يتجولون موصولين بأجهزتهم الصغيرة، غافلين عن العالم المحيط بهم، مخاطرين بالحوادث، وهم يؤذون أنفسهم والآخرين. كما قد يؤثر أى جهاز مضاء مثل الهاتف الذكى بشكل خطير على دورات النوم بسبب الخلايا الموجودة فى الجزء الخلفى من أعيننا، فهى تحتوى على بروتين حساس للضوء. وترسل هذه الخلايا الحساسة للضوء إشارات إلى جزء الدماغ الذى ينظم الإيقاعات على مدار 24 ساعة. ويسبب الإفراط فى استخدام الهواتف الذكية الحرمان من النوم، والصداع، والضمور، والتغذية غير المتوازنة.

وأثار منتقدو الاستخدام المفرط للهواتف الذكية مخاوف بشأن آثارها العقلية، مشيرين إلى أنها تجعلنا نستهلك كمية هائلة من المعلومات الواردة لكن على مستوى سطحى ومحدود، بينما تفصلنا عما يهم حقا.

ولا يتوقف الجهاز العصبى أبدا دون المساحات المفتوحة والراحة العقلية، مما يجعلنا متعبين ومنهكين طوال الوقت. واعتدنا على النظر فى هواتفنا كل دقيقة، فى الصباح، أثناء ساعات العمل، وفى المساء، وخلال عطلات نهاية الأسبوع، والإجازات. يصبح الكثير منا قلقا وسريع الانفعال إذا لم نتمكن من التفاعل مع هواتفنا أو مشاهدتها باستمرار أو التحدث من خلالها أو العبث بتطبيقاتها. ويستخدمها البعض لتجنب التفاعل والتهرب من المحادثات والاتصال بالعين.

وتوجد علاقة مفترضة بين وسائل التواصل الاجتماعى والغضب والكرب والاكتئاب. ويُذكر أنها خلقت مناخا اجتماعيا متغيرا أثر حتى على الأشخاص الذين لا يستخدمون الهواتف الذكية. واستحوذت شبكة الإنترنت على الصحافة وصنع الرأى وأصبح من الأسهل الحد من مصادر معلوماتنا والتحكم فيها والحفاظ عليها. ويهيمن على عالم الهواتف الذكية عدد قليل من الشركات الكبيرة التى تهدف إلى تعزيز الاحتياجات والإدمان، وجمع المعلومات وبيعها، حيث تغزو خصوصيتنا وتكشفها.

وقد يعنى الافتقار إلى الهاتف الذكى التهميش الاجتماعى ويعوض الترويج للكراهية والتعميمات والأحكام المسبقة فى نفس الوقت المراجعات النقدية والمعلومات القائمة على العلم. واتهمت شركات التكنولوجيا باستغلال عيوبنا النفسية وممارسة أكبر تجربة غير خاضعة للمراقبة تعرضت لها البشرية على الإطلاق.

 

ريشة: جون مراد
ريشة: جون مراد

 

منتقدو الاستخدام المفرط للهواتف الذكية يثيرون مخاوف بشأن آثارها العقلية وأنها تجعلنا نستهلك كمية هائلة من المعلومات لكن بمستوى سطحى ومحدود.

إن ما يثير الانشغال خاصة فى هذا المجال هو أن الآباء لا يدركون إلى حد كبير الكيفية التى غيرت بها الهواتف المحمولة حياة أطفالهم إلى درجة أن العديد منهم لم يعوا ما يستوجبه بلوغهم سن النضج والتفكير وتحمل المسئولية اجتماعيا وأن يتمتعوا بالمعرفة والقدرة على الفكر النقدى.

ويُربط الصغار منذ الطفولة المبكرة بشاشة، أو صندوق مستطيل صغير، مع سد آذانهم. ولقد أصبح الكثيرون خلال جزء كبير من حياتهم محرومين من التفاعل وجها لوجه والوجود الفعلى للآخرين، وروائحهم ولغة أجسادهم، وتعبيرات وجوههم.

وتجدهم منغمسين فى عالم ويب مجرّد عديم الرائحة، متجنبين تدخل الواقع المزعج. وكانت مشاركة الآباء فى رفاهية أطفالهم بهذا ذات حدين، حيث تركوا أطفالهم تحت رحمة عالم الويب الذى يخدر العقل، بعيدا عن إرادتهم، فى محاولة لتدليلهم وحمايتهم من مجتمع ضار.

ولا يعرف الكثير من الأطفال كيفية أداء الحركات الرياضية، أو قراءة رواية كاملة، أو التنزه فى الغابة، أو صيد الأسماك، أو استخدام المقص، أو المنشار. ويفتقرون إلى الصبر لمشاهدة فيلم كامل، أو التركيز على مهمة معينة، أو الاستماع إلى معلم.

وسرعان ما يمسكون بهواتفهم الذكية ويتركون العالم الحقيقى وراءهم، ويطلعون على أنشطة عائلة كارداشيان، أو يتبعون لعبة تصوّر دراجة نارية وهى تسير عبر المناظر فى الطبيعة الوعرة.

وقد ينظر إلى ما سبق على أنه حديث رجل عجوز معاد للتغيير يطلق صرخة تحذير ضد التكنولوجيا وملوثة بالحنين ضد إدمان الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعى السامة. ويمكن الإشارة بحق إلى أن التاريخ شهد تحذير الناس من السفر بالقطار، وقراءة المجلات المصورة، والهواتف، والاستماع إلى الراديو، ومشاهدة التليفزيون.

لكن من الحقائق التى لا يمكن إنكارها أن أبناء ما يسمى بالجيل زد، أى أولئك الذين ولدوا بعد 1995، فى جزء كبير من العالم قد نشأوا مع الهواتف الذكية وانجذبوا إلى عالم بديل مثير للاهتمام. وخلق هذا بالنسبة للكثيرين منهم تبعية ثبت كونها فى الكثير من الأحيان غير مناسبة للبالغين والأطفال.

ومن المحتمل جدا أن تكون الهواتف الذكية سببًا فى زيادة مقلقة فى الأمراض العقلية بين الشباب (اضطرابات القلق والاكتئاب وفقدان الشهية وإيذاء النفس وحتى الانتحار).

وربما تكون الهواتف الذكية قد خلقت وعيا مكثفا بالمظهر الخارجى، والمقارنات مع الآخرين، بينما عوّضت العلاقات السطحية الصداقات الصادقة، وسادت مشاعر الوحدة، والسعى للبحث عن المكانة، وترويج الشائعات، ومطالب الاهتمام المستمر، والمطاردة، والتنمر، ومجموعة من الظواهر الضارة الأخرى.

ويؤثّر الوقت المقضى فى عالم من الأخبار الكاذبة على أدمغة الأطفال والمراهقين المجهدة التى لم تبلغ درجة النضج، حيث تنتشر على نطاق واسع الآراء المسقطة والأخطاء والمضايقات وتتحول مستقبلا إلى عبء ثقيل.

ووجدت بعض الخبرات الطبية منذ عشرين عاما أن زيادة مشاهدة الأطفال للشاشة تقوض قدرتهم على التركيز، مما قد يسبب اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، وهو مرض فى النمو العصبى يتجلى فى عدم الانتباه وفرط النشاط والاندفاع وعدم التوازن العاطفى، مما يضعف قدرة الأطفال على التعامل مع المواقف الصعبة.

وتشهد السويد جدلاً مستمرًا حول ما إذا كان يجب حظر الهواتف الذكية من المدارس والجامعات. ويشير مؤيدو القانون الذى يجعل هذا إلزاميا إلى عدة حقائق أهمها المخاوف من أن الهواتف الذكية قد تؤثر على نمو الطفل. ويتطور الدماغ البشرى باستمرار، خاصة خلال مرحلة الطفولة والمراهقة، مما يخلق روابط عصبية ذات دور حيوى فى الأداء المعرفى والعاطفى والاجتماعى وثبت إحصائيا أن للأطفال الذين يقضون أكثر من ساعتين يوميا فى استخدام الأجهزة الإلكترونية، بما فى ذلك الهواتف الذكية، درجات معرفية ولغوية أقل من الأطفال الذين يقضون وقتا أقل على الأجهزة الإلكترونية. ويمكن أن يؤدى استخدام الهواتف الذكية المفرط إلى تغييرات فى كيمياء الدماغ، بما فى ذلك انخفاض حجم المادة الرمادية فى مناطق معينة من الدماغ، المرتبطة بالتحكم المعرفى والتنظيم العاطفى واتخاذ القرار.

ولا يمكن بالطبع حظر استخدام الهواتف الذكية. ولكن التذكير بالمخاطر المرتبطة باستخدامها المفرط لا يضر. فعندما تمكن الأطفال من الوصول إلى الهواتف الذكية، تركوا وراءهم هواتفهم المحمولة القديمة «الغبية» وزاد وقتهم على الإنترنت بشكل كبير. وكنا نفتقر فى تلك الأوقات غير البعيدة إلى المعرفة بكيفية حماية أطفالنا من الشركات التى صممت منتجاتها لخلق ما يمكن أن يكون تبعية خطيرة.

ويبقى العديد من الآباء الساعين لحماية أطفالهم من تأثيرات العالم الحقيقى الضارة غافلين عن الواقع الافتراضى.

وقال عالم النفس الاجتماعى الأمريكى جوناثان هايدت إن «الانتقال من الطفولة القائمة على اللعب إلى الطفولة القائمة على الهاتف المحمول كان خطأ كارثيًا… دعونا نرجع أطفالنا إلينا».

 

نقلا عن: العرب اللندنية