الخميس 28 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة الخامسة عشرة

سعاد حسنى.. تفتح قلبها!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

 

 

كم مرة ارتفع توزيع «صباح الخير» بشكل ملحوظ؟ْ

أثير هذا السؤال أكثر من مرة أمامى بعد أن ارتفع توزيع المجلة خلال نشر حديثى الطويل مع السندريلا.. سعاد حسنى، بحيث تم استخدام الطاقة الكاملة للمطابع ولم يعد ممكنًا طباعة أعداد أكثر كل أسبوع، طوال الـ 18 أسبوعًا التى تواصل خلالها النشر.

وكانت أرقام لا يليها سوى أرقام توزيع المجلة عندما كانت تنشر مذكرات عبد الحليم حافظ التى أعدها منير آخر هو منير عامر. حيث بلغ توزيع المجلة وقتها 155ألف نسخةْ.

 وكان أول ارتفاع غير عادى لتوزيع «صباح الخير» قد حدث عند نشر دراسة كتبها مصطفى محمود بعنوان «التفسير العلمى للقرآن».. لكن هذا الرقم يأتى فى المرتبة الثالثة.

وأعتقد أن هناك ما يفسّر الرقم المذهل لتوزيع المجلة خلال نشر سلسة «أيام وليالى الضباب فى لندن» فقد نشرت فور وقوع حادث موت سعاد حسنى المفاجئ والغامض وبالطريقة الفظيعة التى جرى بها، ما أحدث أعلى موجة عاطفية حزينة عرفتها مصر والأمة العربية فى ذلك الوقت، ولم تشهدها من قبل سوى فى مناسبة أو اثنتين.

 

 

 

لكن بشاعة وقائع موت السندريلا وغموضها، لم يكن لها مثيل، ومكانة جميلة الجميلات فى قلوب الناس ليس لها مثيل.

فكان المنطقى أن يرتفع التوزيع لأعلى قدرة وطاقة المطابع، ومع ذلك اشتكى القراء من عدم حصولهم على بعض الأعداد وطلبوا نشر كتاب يضم كل الحلقات.. وهو الكتاب الذى يتوالى صدور طبعات جديدة منه حتى الآن.

وقد سئلت عن سر نجاحى فى جعل سعاد حسنى تفتح لى قلبها على اتساعه، وتفضفض بما لم يسبق لها أن كشفت عنه من وقائع ومواقف ومشاعر، وهى التى كانت قد أعلنت لي بوضوح أنها لا تحب الصحافة والصحفيين.

فقلت مرارًا إن الحكاية لم تكن سهلة ويكفى أنها عذّبتنى ستة أشهر، قبل أن تقبل وتستسلم وتتكلم وتفتح قلبها.

أما سرّى، فأستطيع أن أكشفه الآن، وهو أننى حتى أذيب كل جليد وألغى كل فواصل وعوائق تحول بينى وبين الغوص فى عالم السندريلا، لجأت إلى أسلوب تعلمته أو التقطته خلال معايشتى طوال فترات طويلة لعمليات وتكنيكات علم وطب النفس، فى عيادة ومصحة أستاذ كبير فى هذا المجال، هو الدكتور يحيى الرخاوي.

 

 

 

كنت أحكى لها عن نفسى وأكشف أسرارًا لا يمكن أن أفضح نفسى بها لأى أحد، كنت أعرّى نفسى، تمامًا فى حضرتها، ما شجعها على أن تتعرى نفسيًا تمامًا أمامي.

أعتقد أنها شعرت بصدق نواياى وصدق روحى، وأنها كانت فى حاجة إلى هذا النوع من الصدق الإنساني.. وأعتقد أنها صدّقتنى عندما قلت لها أننى سأجعلها تتعرّف على سعاد حسنى التى لا تعرفها.

وأحست بحسن نواياى وإلا لما فضفضت وباحت.

ولا أريد أن أنسى فضل رؤوف توفيق رئيس تحرير «صباح الخير» وقتها، فهو صاحب فكرة أن ألتقيها فى حديث طويل يشبه المذكرات.

وهو الذى وفرّ لى رقم تليفونها فى لندن، وكنت أعلم أنها جاءت العاصمة البريطانية حيث أعيش، دون أن أعرف لها طريق. 

ورؤوف توفيق هو الذى شجعها على هذا الحديث، وهى قالت لى إنها تحترمه وتحبه كما تحب إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وحسن فؤاد، وفاجأتنى بالقول إنها «بنت صباح الخير».

لكنها كانت تخشى لو أننى أجريت معها هذا الحديث الطويل على امتداد حلقات بلا عدد، أن يشعر الناس -جمهورها الكبيرـ أنها اعتزلت الفن، ولهذا تنشر مذكراتها.

أوضحت لها الفكرة، أنا لن أكتب مذكراتك كما كتب منير عامر مذكرات حليم، هى فقط عملية صحفية للتواصل بينك وبين جمهورك الذى يفتقدك بسبب غيابك عنه فى فترة العلاج هذه، تواصل.. حتى تعودين للفن والجمهور.

ولأنى أعرف من دراستى لسعاد حسنى التى قمت بها استعدادًا لمهمتى الصحفية هذه، أن بعض المخرجين الذين عملت معهم كانوا يشكون من «وسوسة سعاد حسني».. فقد وجدت نفسى أتقبّل أسئلتها التى لا نهاية لها حول هذا المشروع الصحفي. 

وحتى عندما صارحتنى بأنها قرأت لى فى أوقات مختلفة، لكنها تريد منى أن أجمع لها بعض كتاباتى فى «صباح الخير» لتطلع عليها معًا دفعة واحدة، مما يساعدها فى الاطمئنان لأسلوبى، لم أجد فى ذلك غضاضة، بالعكس، شعرت بجدية نظرتها للمسألة، وعرفت لماذا كانت متهمة بأنها «موسوسة»!.

وعن سبب كرهها للصحافة والصحفيين، قالت لى إنها قرأت مرّات عديدة أحاديث صحفية معها نشرت فى الصحف والمجلات ونشرت معها أسماء من أجروا هذه الأحاديث، مع أنها لا تعرفهم ولم تلتق بأحد منهم من قبل! 

وفى مرّات وجدت الصحف والمجلات تنسب إليها أخبارًا أو حكايات لم تصرح بها ولم تقلها لأحد.

ويكفى أنها قرأت وشاهدت فى التليفزيون بنفسها خبر موتها.. وأنهت هذا الكلام بالقول: مش انت معاى إنه كان لى حق أكره الصحافة بقى؟! 

كان دفاعى الوحيد هو أنه ليس كل الصحفيين ولا كل الصحف هكذا.. «أليس هناك نوع آخر أمين»؟!

لم تنكر ذلك، فوجدتنى أسألها: ولماذا لم تردين على ما تنشره بعض الصحف من «فبركات» عنك؟

أفحمتنى بردها: أنا متفرغة للفن فقط.. ولو ضيّعت وقتى فى الرد على ده وده، لضاع تركيزى فى فني.

فنى هو كل حياتى، أنا مليش جيش صحفيين يعمل لى دعاية، وما أحبش يكون لى، فنى اللى باحبه، بإخلاص هو حمايتى، وهو دعايتي.. وهو كل حاجه عندي.

وقالت: مش انت صحفى وصاحبى من زمان، عمرك كتبت عني؟.. عمرى طلبت منك؟.. إحنا صحاب يا صاحبى، لوجه الله. 

أتذكر الآن المطاردات التى حدثت لى مع نشر أول حلقة فى مسلسل سعاد حسنى، وكنت أرفض أى حديث للصحافة والفضائيات، حتى أننى تركت تليفونى المحمول فى البيت، هربًا من هذه المطاردات، كنت أقول فى البداية أن ما أريد قوله موجود فى ما أكتبه فى «صباح الخير».. وأننى لست متحدثًا باسمها، وأن عملى منشور لمن يقرأ.. وأننى بطبيعتى لا أحب الظهور فى التليفزيون، أحب مخاطبة قارئ، يقظ، منتبه، يقرأ.. ولا يتفرج.

وأذكر أننى كرّرت هذا الكلام مع سمير صبرى، عندما طلب منى الظهور فى حلقة من مسلسل تحقيقات تليفزيونى كان يقوم به، من إعداد محمود صلاح رئيس تحرير «آخر ساعة» وقتها.

وأبلغنى محمود أنه لن يتمكن من الحضور إلى لندن، ورجانى أن أساعد سمير، لكن سمير تصور أننى جئت لأظهر فى التليفزيون، وأتكلّم، وطلب منى أن أحكى ما أكتبه، وكانت الحلقات تنشر، وكانت معه نسخة من المجلة، ولما أوضحت له أننى لا أتحدث فى التليفزيون، أصيب بصدمة، ولم يكن مصدقًا أن هناك إنسانًا لا يحب الظهور فى التليفزيون.. لكننى ذكّرته بواقعة حدثت له معى فى سنة 1967عندما كنت عضوًا فى اللجنة الوطنية التى شكلتها الفنانة نادية لطفى لرعاية ضحايا الحرب.. كنت أصغر الأعضاء الستة عشر، وجاء المذيع سمير صبرى وسجل أحاديث تليفزيونية سريعة مع أعضاء اللجنة وعندما وصل عندى، عبرت له عن عدم رغبتى فى التحدث.

 

 

 

لم يصدّق سمير صبرى أننى أعنى ما أقول، فبعث إلى أكثر من شخص ممن سجل معهم لقاءآت ضمن برنامجه ممن أعرفهم ليستميلونى حتى أسجل أنا أيضًا.. وشرحت لهم أن المسألة بالنسبة لى عمل صحفى أكتبه وتنشره المجلة كل أسبوع، ولا أحب أن أشتهر بأننى كاتب مذكرات سعاد حسنى، كما كان يتردد، كما أننى أشك فى العمل التليفزيونى الذى يمكن من خلال المونتاج أن يجعلك تقول عكس ما أردت!

من المطاردات والملاحقات، كانت أيضًا عملية قام بها مخرج تليفزيونى كان يعمل وقتها لحساب فضائية «إيه. آر. تي» وتمكن بطريقة ما وبمعاونة من شاركوه فى إعداد برنامجه، من التوصل إلى حديقة ملحقة بأحد المحال، أجلس فيها فى فترات راحة.

فإذا به يقتحم المكان حاملًا الكاميرا وهى تدور ويتجه نحوى ويحاصرنى بالأسئلة، فما كان منى إلا أن هددته بأننا فى بريطانيا ويمكننى مقاضاته لاعتدائه على خصوصياتى واقتحامه مجلسى، وتم تسجيل هذا الكلام فقد كانت الكاميرا تدور.

وفشل صاحبنا فى محاولته فرض الأمر الواقع علىّ.

آخر ما تعرضت له من مطاردات، كان من رئيس تحرير إحدى المجلات السعودية، أبلغنى أنه محتاج للقائى للضرورة، وعندما التقينا قال إنه يرغب فى إجراء حديث معى عن سلسلة سعاد حسنى التى تنشرها «صباح الخير».

- قلت: لا أظن أن هذا ممكن 

 لماذا؟ 

- لأننى صحفى، وما أريد قوله أكتبه 

 لكنك كتبت مذكرات النجمة الراحلة  

- هذه ليست مذكرات.. هى مشروع صحفى عبارة عن حديث طويل معها.. ولا أحب أن أكون متحدثًا باسم أحد.

 لكن كصحفى أنت تعرف أهمية الشخصية والواقعة وكنت على علاقة بها، والناس تحتاج لمعرفة المزيد منك.

- قلت: هل توافق على نشر ما أقوله مع عدم نشر اسمى وصورتي؟

فوجئت وقد وضعت هذين الشرطين لجعله يتراجع أنه يوافق!

- قلت: وأشترط أن أراجع النص قبل النشر وأوافق عليه.

- قال: موافق

وكان لى ما أردت، وله ما أراد، وظهر الحديث مع عنوان كبير على غلاف «المجلة» دون صورتى، ودون اسمي!

وقبلها طلب رئيس التحرير السعودى أن يتاح له نشر الحلقات المسلسلة التى تنشرها «صباح الخير» فى الوقت نفسه مع نشرها فى «صباح الخير» وعرض مكافآت مجزية، لكننى رفضت لأن هذا كما قلت له مشروع صحفى يخص «صباح الخير» فقط. 

وفى الأسبوع المقبل نواصل