قصة مترجمة
ثلـــج أســــود
قصة: أليس مونرو ترجمة: د. هانى حجاج
- 1 -
تهبط أعماق النوم وكأنها تسكن البحر، وأناس من أهل القاع تحييها بحفاوة مبالغ فيها. ما إن ذهب جارفيز بولتر وسمعت باب دارها الأمامى يوصد حتى أسرعت ألميدا ركضًا إلى الحمام. لا، لم تشعر بالراحة تمامًا. هى تعرف السبب فى تورّم بطنها والألم الذى تشعر به بالأسفل؛ بسبب احتباس دم الطمث الذى لم يبدأ فى التحرر. تراود خواطرها كلمات جارفيز بولتر عن الذهاب إلى الكنيسة فتترك له ملحوظة: لست على ما يرام، أحتاج الراحة اليوم. تثبت الورقة فى الإطار الخارجى للطاقة الصغيرة للباب الأمامى. توصد الباب وبالقفل. ترتجف كورقة فى مهب الريح، كأنها فى وجه إعصار داهم أو تعانى من صدمة عصبية. لكنها استطاعت أن تشعل الموقد وتعد لنفسها كوبًا من الشاى. الماء يغلى وهى تضع أوراق الشاى فى الإبريق الكبير، رائحة بخار الشاى تسبب لها الغثيان وتزيد ألمها. هناك على الأرض كان كيس اللبن الرائب ما زال معلقًا بين ظهرى المقعدين، بينما صُبغ القماش المنتفخ بلون عصير العنب الزهرى الداكن. ألقت به فى الحوض فورًا، فلا يمكنها الجلوس ببساطة تتأمل شيئًا كهذا. تشرب كأسها وتعيد البرّاد وزجاجة مُسكِّن المغص إلى حجرة السفرة. انفجر البركان بالخارج بوقع حوافر الخيل الراكضة إلى الكنيسة مثيرة حولها سحبًا من التراب الساخن. يتناهى إلى مسمعيها إذ هى واقفة فى الشرفة صوت الباب يفتح والخطوات الثابتة الراسخة الواثقة لرجل. كأنها تسمع الورقة، ينزعها من إطار النافذة، يفردها، يقرؤها. بل تسمع صوت أفكاره، وإيقاع الكلمات يتردد فى عقله. تأخذ الخطوات طريقًا آخر. تهبط درجات السلم. صوت الباب يُغلق. يستعيد وعيها فجأة صورة شاهد القبر. تضحك بلا سبب، ثم تتخيَّل شواهد قبور تسير فى الشارع. لها أقدام، وللأقدام أحذية؛ ولها أجساد تميل للأمام. كل شاهد قبر على صفحته سحنة قاسية وملامح لعينة عليها علامات استغراق. أجراس الكنيسة تدق.
والساعة فى الصالة تدق. إنها الثانية عشرة. تمر ساعة أخرى، فيتقد المنزل بالصهد. تُضيف قطرات من الدواء المُسكِّن للمغص إلى كوب آخر من الشاي؛ رغم أنها تعرف أن الدواء يسلبها قواها. هو المسئول الأول، رغم حتمية وجوده، عن كسلها العجيب.
أشياؤها فى كل مكان حولها، فى حدود حجرة السفرة، ورق الحائط الأخضر الداكن يغطى الجدران بأكاليل الزهر، الستائر مزدانة بخطوط ملونة بالطول، مفرش من الكروشيه يغطى المائدة، عليها سلطانية تمتليء بفاكهة من البلاستيك، وسجادة رمادية تميل إلى اللون الأرجوانى عليها تداخلات من ورود زرقاء وزهور قرنفلية غامقة، ومفارش صغيرة تملأ الخوان الذى احتشد بأكواب شاى صينية مزخرفة وأطباق وأباريق. أشياء كثيرة تحيط بها. كل هذه الزخارف زاخرة بالحياة وعلى أتم استعداد للحركة والانطلاق والتغيُّر والتدفُق، أو تنفجر! إن ما يشغل ذهن ألميدا وبالها طول النهار هو تأمُّل هذه الزخارف. لا لكى تمنع تغيُّرها بقدر ما كانت ترصد طاقتها وتحاول أن تفهمها وتكون جزءًا منها. لا تحرك ساكنًا مما فى هذه الحجرة حولها.
وأين لألميدا بمكان تفر إليه من الكلمات؟ يراودها الخاطر فى بعض الأوقات أنها قادرة على ذلك، ولكن هذا لا يحدث. مجرد فكرة. حتى ذلك التوهُّج لا يلبث أن يدفع بالكلمات فى رأسها للتحرر. قصائد. أجل، قصائد مرة أخرى، ومن جديد تتضاءل أمامها جميع القصائد التى كتبتها فى السابق. تنكمش وتتقزّم وتصبح مجرد محاولة وخطأ، أسمالا بالية مهلهلة. الأنجم والطير والأشجار وملائكة الثلج والأطفال الذين ماتوا فى الغسق. كل هذا لا داعى لوصفه مرة أخرى. صار مكررا مبتذلا! الآن عليك بالركض والصخب الماجن فى شارع بيرل، ومقدم الحذاء اللامع الذى يرتديه جارفيز بولتر، ألميدا الآن على مسافة واحدة، مسافة بعيدة، من العواطف البشرية أو المخاوف أو اعتبارات الأسرة الحميمة. لا يشغل ذهنها ما يمكن أن تساعد به تلك المرأة، أو حفظ عشاء جارفيز بولتر ساخنا، أو نشر ملابسه على حبل الغسيل. طفح عصير العنب وسال على أرض المطبخ يلطخ الألواح الخشبية ببقع لعينة لن تزول.
عليها أن تفكر فى عدة أشياء معا. الشرائط المعدنية التى تفصل بين النقوش، الـهنود العراة كما ولدتهم أمهاتهم، والملح الساكن أعماق الأرض، والمال الذى يجلبه الملح، والسعى لجمع المال الذى تتقنه رؤوس مثل رأس جارفيز بولتر، والعواصف القاسية فى الشتاء، والنزق الطائش فى شارع بيرل. أمور كثيرة يجب أن تفكر فيها وفى وقت واحد. وعندما تفكر فى تقلبات الطقس العنيفة فلا سلام حتى بين النجوم. ما لم؟ نعم! يمكن احتمال كل هذه الأشياء إذا نظمناها فى قصيدة. ونظمناها هى الكلمة الأدق هنا. لأن القصيدة سيكون عنوانها، أو هو عنوانها فى الواقع : «نهر أحمر صغير». اسم القصيدة هو اسم النهر. كلا، إنها النهر نفسه: نهر أحمر صغير. ذلك هو اسم القصيدة، بكل تجاويفه المتداخلة وحفره العميقة وأحواضه الـهادئة تحت أشجار الصيف الحارة وكتل الثلج المتخلفة المرمية عقب الشتاء، تحدث صريرا أثناء كنسها، وفيضاناته الربيعية الكئيبة. ألميدا تمعن النظر فى قاع نهر عقلـها الأحمر. وعلى مفرش المائدة زهور الكروشيه السابحة فى فضاء النسيج، تبدو ناتئة بلـهاء مبتهجة، تبعث على السخرية. الورود التى نسجتها أمها يوما لا تبدو مثل الورود الحقيقية. ولكن الحقيقة أن الجمال يسكن فى الجهد المبذول، واستقلالـها الزائف، والرضا بالنفس البسيطة الساذجة. علامة تثير التفاؤل. نهر أحمر صغير.
تلزم ألميدا الحجرة حتى الغسق عندما تذهب إلى الحمام وتكتشف أنها تنزف. الدم يسيل وبدأ يتدفق. تناولت فوطة، تنطقت بها وشدتها حول بطنها كحزام. لم يحدث من قبل، أيام صحتها، أن قضت الليل فى ثياب النوم. لا تحس بقلق خاص بسبب ذلك. فى طريقها إلى المطبخ عبر عصير العنب المسكوب اللزج الداكن. تعرف أنه سيكون عليها أن تزيل البقع الصعبة. ولكن ليس بعد. ترتقى الدرج إلى الطابق الثانى مخلفة آثار أقدام وردية. تشم رائحة دمها الـهارب وعرق جسدها الذى مكث طوال اليوم حتى الغروب فى الحجرة المغلقة المتقدة بالصهد.
لا داعى للقلق لأنها لم تظن أن زهور الكروشيه الطافية يمكن أن تطير بعيدا، وأن شواهد القبور يمكن أن تمرح فى الشوارع. لم تحسب أن ذلك كان الحقيقة، وأن أى شىء آخر كان المجاز، وبذلك كانت تعرف أن عقلـها بخير. وأنه لا داعى للقلق.
- 2 -
فى بيتها يوم الثلاثاء الماضى بين الثالثة والرابعة بعد الظهر رحلت عن دنيانا سيدة موهوبة فعلا وعلى خلق. أثرى قلمها على أيامها أدبنا الإقليمى بسفر من الشعر النادر الأصيل. وإنها لبلية كبيرة أن يصبح عقل هذه السيدة المهذبة موضع ريبة فى السنوات الأخيرة، وسلوكها، يا لعمق المُصاب، نتيجة لذلك مندفعا خارجا عن المألوف حتى نال من تصرّفها وعنايتها بتهذيب شخصها ومسلكها فأصبحت فى نظر الغافلين الذين لا يعرفون قيمتها الحقّة وأناقتها السابقة، غريبة الأطوار أو موضع تهكُّم بشكل مثير للغم. ولكن هذه الـهفوات قد نسيت الآن ولا يذكر لـها غير قصائدها الممتازة وخدماتها الجليلة فى مدرسة الأحد، ونشاطها الخيرى وعقيدتها الدينية الراسخة. من رحمة العلى القدير كان مرضها الأخير قصير المدى. أصيبت بالبرد بعد أن أغرقها الماء خلال جولة لها فى شارع بيرل. (قيل إن بعض الصبية الأبالسة طاردوها فى المياه، وهذه نتيجة وقاحة وقسوة بعض شبابنا غير المهذَّب، واضطهادهم المتعمد لتلك السيدة لدرجة أن السامع لا يمكن أن يكذب الحكاية برمتها) وتطور دور البرد إلى التهاب فى الرئة توفيت على أثره تحت سمع وبصر إحدى جاراتها، السيدة بيرت فرايلز (آنى) التى شهدت نهايتها الـهادئة المثيرة للشجن.
يناير من العام التالى. صباح الاثنين الماضى. رحل فجأة عن دنيانا أحد مشيَّدى مجتمعنا، أحد صناع نهضة مدينتنا وباعثى حضارتها، بينما كان يعكف على قراءة بريده فى مكتبه بالشركة. السيد جارفيز بولتر الذى كان يتمتع بموهبة تجارية قوية ونشاط ملحوظ مما مكنه من إنشاء عدة مشاريع تجارية محلية جلبت فوائد الصناعة والإنتاجية والتوظيف لشبابنا.
بحثت عن ألميدا روث فى المقابر. وجدت شواهد القبر الخاصة بالأسرة. لم يكن هناك غير اسم واحد مكتوب عليه روث. ثم تنبهت لوجود شاهدين على الأرض، على مسافة بضعة أقدام أو ستة أقدام من الشاهد القائم كتب على أحدهما كلمة «بابا» وعلى الآخر كلمة «ماما». وعلى مسافة من هذين الشاهدين وجدت شاهدين آخرين على الأرض أيضا. عليهما أسماء وليام وكاثرين، وكان عليٌ أن أزيح ما تراكم عليهما من حشائش شيطانية واتساخ لأرى الاسم الكامل لكاثرين. لا وجود لتواريخ ميلاد أو وفاة. لا وجود لعبارات ثناء أو رثاء. لون فريد من إحياء الذكرى لا يأبه بهذا العالم. لا وجود لورود ولا وجود حتى لعلامات على شجيرات ورود ربما اقتلعت، اقتلعها الحارس لأنه لا يحب هذه الأشياء، أو مصدر ضيق قاطع العشب، لم يجد من يعترضه فاقتلعها.
اعتقدت أن ألميدا دفنت فى مكان آخر. عندما ابتاعوا هذه البقعة وصارت فى حوزتهم، عند موت الطفلين، كان يعتقد أنها سوف تعيش وتتزوج وترقد فى النهاية بجوار زوجها. لم يعملوا حسابها فى مكان بينهم. ثم لاحظت أن الشواهد التى كانت ملقاة على الأرض إنما سقطت من الشاهد القائم. شاهدان للأبوين وشاهدان للصبيين، ولكن الشاهدين الآخرين وضعا بطريقة تسمح لثالث بينهما لتكملة المروحة. خطوت من شاهد قبر كاثرين عدد الخطوات نفسه حتى أصل من كاثرين إلى وليام . وعند تلك البقعة رحت أجذب العشب وأزيل التراب والاتساخ بيدى العاريتين وأظافرى. وسرعان ما شعرت بالشاهد وأدركت أنى كنت على حق. اجتهدت فى الوصول إلى الشاهد كلـه نظيفا وقرأت الاسم : «ميدا». كان مع الآخرين يتطلع للسماء. تأكدت من وصولى إلى نهاية الحجر. كان ذلك كل ما كتبته من الاسم؛ ميدا. إذن كان اسمها ميدا فى الأسرة، وليس فى أبيات الشعر فقط. أو لعلـها هى التى اختارت اسمها من القصيدة ليكتب على ضريحها.
خطر لى فيما مضى أن أحدا لا يعلم ذلك غيرى من بين الأحياء جميعا، وأن أحدا لن يستطيع الوصول لـهذا التسلسل فى الأحداث. ولكن الأمر ليس كذلك. فالناس مجبولون على حب المعرفة. أو قل قلة منهم. سيجدون الدوافع دائما لاكتشاف الأشياء. حتى الأشياء التافهة. سوف يضعون الشىء جنب الشىء. ويعرفون أنهم ربما أخطئوا فى البداية. ألا تراهم يتجوَّلون يحملون كراسات ويزيلون الأتربة من فوق شواهد القبور، ويقرأون مشاهد الأفلام، لا هم لـهم غير وضوح الرؤية بين التفاصيل العديدة، والعثور على الأسباب وربطها بالنتائج، وإنقاذ شىء، ولو شىء واحد فحسب، من أنقاض الذكريات.