د عزة بدر
ثقافة الجمال
«إذا كانت القاهرة عاصمة مصر، فالأوبرا عاصمة القاهرة»..
هكذا وصف الشاعر عبدالرحمن صدقى الدورَ الذى تلعبه الأوبرا كمَركز ثقافى حيوى فى الحياة المصرية، وهذا الدور التاريخى بدأ بعرض أوبرا «ريجوليتو» لفيردى فى افتتاح الأوبرا المصرية عام 1869، و«ريجوليتو» التى لحنها «فيردى» مأخوذة عن مسرحية لفيكتور هوجو تحرِّض الشعوب المستعمرة على التحرُّر، وهو الهدف الذى اتفقت عليه إرادة المثقفين المصريين حينذاك مثل محمود سامى البارودى، ومحمد عبده، وعبدالله النديم، وأديب إسحق، ويعقوب صنوع، وهذا التأريخ المهم لدور الأوبرا، وتوثيقه يطالعنا به الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى فى كتابه الجديد «فى معبد الفنون»- الصادر حديثًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- فيتتبع أعمال «فيردى» فيراه رجلاً يشبهنا، وقد استطاع بتلحينه لأوبرا «عايدة» بموضوعها الفرعونى الجذاب أن يفتح لها آفاق الدنيا، فعُرضت مئات المَرَّات فى أوبرات العالم.
ويصف تأثير هذه الأوبرا بعبارات بليغة: (لم يكن بطلها «راداميس» وحده يغنى للحب، وكانت «عايدة» تغنى لإيطاليا وبُحيراتها، وهى تغنى للنيل، فالشخصيات فى كل فن عظيم أقنعة لوجه واحد هو وجه الإنسان).
وقد كانت أوبرا «عايدة» بداية طريقنا إلى المسرح الغنائى فقدَّم حسن رشيد أشعار شوقى فى «مصرع كليوباترا»، ثم قدَّم عزيز الشوان أوبرا «أنس الوجود»، وكتب كامل الرمالى أوبرا «حسن البصرى»، ووضع أبوبكر خيرت أول كنشرتو مصرى، وألف يوسف جريس أول قصيد سيمفونى وكان عنوانه «مصر».
ومن فن الأوبرا يمضى بنا «حجازى» فى كتابه إلى الموسيقى العربية فيصور تأثيرَها، وقدرتها على التعبير والتفكير، مؤكدًا على نجاح العديد من مؤلفينا وملحنينا فى أن يرتفعوا بالأساليب الموسيقية العربية الموروثة إلى مستوى عالٍ من التركيب المتقن والحساسية المرهفة قد لا يتحقق للكثيرين فى الأشكال الغربية المتطورة.
ومن الموسيقى إلى مجال الفنون التشكيلية فيمزج بين لغة الفن ولغة الأدب، فيصف فن البورتريه عند حسن فؤاد، وعبدالغنى أبوالعينين، وهما من فنانى «روزاليوسف» المؤسِّسين فيلمح التشابه بين أسلوب حسن فؤاد وهو يرسم لنفسه صورة ذاتية، وبين جيمس جويس عندما كتب سيرته الذاتية، فهو يهتم بالوقائع الحقيقية فلها المكان الأول، أمَّا الفنان «أبوالعينين» فقد رسم صورة وجهه بأسلوب يشبه أسلوب الكاتب الأرجنتينى بورخيس، فوضع الخيال فوق الحقيقة، أو هو لا يُفرِّق بين الحقيقة والخيال.
وكان حسن فؤاد، وأبوالعينين متأثرَيْن ببول جوجان، أمَّا جوجان نفسه فقد استلهم الفن المصرى القديم، فأخذ عن المصريين طريقتهم فى رسم الشخوص.
هذه الانتقالات الرشيقة التى تذيب الحدود الفاصلة بين الفنون بل تؤكد تواصُلَها، وهذه النظرة الفاحصة التى تجعل الثقافة الرفيعة أبنية عقلية، تتجاوب مع الإنسان فى كل مكان وزمان، هى ثقافة الجَمال التى إذا تحلى بها المرءُ، أشرقت إنسانيته، وتعرَّف على الوجود وقضاياه بشكل أكثر عمقاً وصدقاً.