حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة الرابعة عشرة
رئيس التحرير.. يضطهدنى!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
لم يكن من حظى أن أعمل مع إحسان عبدالقدوس، أو أحمد بهاء الدين، فعندما التحقت بـ«صباح الخير» سنة 1964 كانا قد غادراها فى مهام ومسئوليات أخرى، لكننى التقيت بهما فيما بعد فى مناسبات مختلفة.
وأذكر أن أول من التقيته من المجلة كان فتحى غانم، سنة 1961 فى معرض الصحافة المدرسية الذى أقيم فى مبنى وزارة التربية والتعليم، وأنه استضافنى فى مكتبه وطاف بى ليعرّفنى على إحسان والآخرين.
والحقيقة هى أننى كنت سعيد الحظ بأن تعرّفت على أساتذة كبار فى الصحافة والأدب والفن التشكيلى، بعضهم كان يدرّسنى فى كلية الفنون الجميلة كالأستاذ عبدالسلام الشريف، وبعضهم تتلمذت على كتاباته وعملت تحت رعايته وتعلمت من خبرته.
لكن لم يكن من حظى العمل مع إحسان أو بهاء وهما آباء «صباح الخير» ويضاف إليهما بالطبع، حسن فؤاد أستاذى الذى رعانى وعملت بجانبه لسنوات، وتشرّبت منه روح «صباح الخير» ووثق فى قدراتى حتى إنه صمّم أن أكون بجواره سكرتيرا للتحرير لأقوم بعمل كان يقوم به اثنان من الزملاء.
وقد دفعنى حبى للمهنة وحبى لهؤلاء الأساتذة لأن أقرأ كتاباتهم وأتابع نضالاتهم وإبداعاتهم وإنجازاتهم، وتيسّرت لى لقاءات معهم وأحاديث ومناقشات. كما روى لى من زاملوهم أو تتلمذوا على أيديهم تفاصيل عن شخصياتهم ومواقفهم.
وعندما دخلت «صباح الخير» وكنت فى الوقت نفسه دخلت كلية الفنون الجميلة، كان فتحى غانم قد انتقل لمسئوليات أخرى، أيضا..
وفى سنواتى الأولى فى المجلة لم يكن فيها كتاب من حجم هؤلاء، كان هناك مصطفى محمود، لكن كتاباته تجتذب قراء كثر.. ويبدو أن المتاهة التى يتيه فيها ويسحب معه قراءه كانت لذيذة، تجعلهم ينتشون بأحاسيس غامضة مختلط فيها كل شىء بكل شىء.
وكان من كتاب المجلة محمود السعدنى، «الولد الشقى» وحكاياته التى تجمع بين الطرافة والغرابة والجنون والتشرد والسخرية الساخنة من أوجاع الحياة وخيبات البشر وخيباته الشخصية، وحياة الفشل الذى يؤدى إلى مزيد من الفشل.. والطموحات التى لا تتحقق والنوايا الطيبة بلا سند من العمل الجاد.. وكانت هذه الحكايات تلقى إقبالا كبيرا من قراء يفضلون متابعة هذا النوع من التسالى، كوسيلة للهروب من مصائب كل يوم.
وكان هناك شاعر مدهش هو صلاح جاهين، ملأ قلبه آمال وأحلام فاقت الخيال، وتسيطر عليه روح لا تنتمى لشئ، وتمتلك قدرة عالية على السخرية بطريقة فلسفية من أمور الحياة والوجود.. وتميل إلى العدمية..
عالم الرسامين
كانت هناك كوكبة من رسامى الكاريكاتير الموهوبين يتقدمهم جاهين نفسه ومعه جورج وحجازى وبهجت واللباد وإيهاب والليثى وناجى ورؤوف ودياب.
والحقيقة أن أثر الكاريكاتير على القراء وإقبالهم عليه وإعجابهم به كان يطغى على كتابات الكتاب.. فإذا كان من يكتب يشطح فى فلسفات وعوالم غامضة ومضطربة ومتاهات، فى أغلب الأحوال، فإن الكاريكاتير بمبدعيه فى «صباح الخير» كان يتلاحم مع نبض كل يوم فى حياة الناس، ويعبر بوضوح وبلا فذلكة ولا تنظير، ولا فلسفة.. ولا توهان، عن حياة ومواجع كل يوم، وبفن جميل وسخرية ناصعة ورشاقة رائعة.
وكان لكل رسام عالمه ولمسته وأسلوبه ونظرته، وكان لهذا التنوع والغزارة والصدق والحميمية، مردوده المتمثل فى الإقبال والحب الذى تعيشه المجلة مع قرائها.
وكان هناك طبعا فن الكتابة الصحفية الممتعة والجذابة والقريبة إلى القلب والعقل والروح، كتابة متحررة متفتحة، على احتكاك مباشر بالمشاعر والعواطف والمعاناة البشرية، وعلى اتصال بالأحلام والآمال الكبيرة لكل فرد فى هذا المجتمع المتطلع إلى غد أفضل.
تقرأ كتابات صبرى موسى وعبدالله الطوخى وزينب صادق وعلاء الديب فتجد نفسك بينهم، وتجدهم معك، فى البيت والشغل، فى النهار والليل، فى الفرح والألم.. ع الحلوة والمرّة,
فتقول لنفسك: ما أسعدنى بـ«صباح الخير»!
فإذا تابعت التحقيقات الصحفية أعجبك أسلوب رؤوف توفيق الهادئ فى تناول أخطر المسائل.. وراق لك نشاط نجاح عمر وحيويتها وحماسها للقضايا التى تنشغل بها، واستمتعت ببساطة ورقة فاطمة العطار.
أما مفيد فوزى فله طريقة خاصة فى جعل أى شىء يحتل أهمية خاصة.. ويكتب بقلم مثير وصادم أحيانا، ويتعّمد ابتكار أساليب جديدة فى تحرير مادته.. فهو مهووس بالخروج على المعتاد.
وستشعر وأنت تتابع أعداد المجلة أنها بالإضافة لكل ما سبق تعتبر معرضا للفن التشكيلى، فهناك فرقة كاملة من المبدعين فى الرسم يتقدّمهم جمال كامل وهبة عنايت وأبو العينين ويوسف فرنسيس، ومأمون.
ولا تنس أهم أبواب المجلة، اعترفوا لى، ونصف حياتك فى البيت، وحكاية وعصير الكتب، وعروسة، ونادى الرسامين وبوسطجى «صباح الخير».
كنت أقرأ المجلة سطرًا سطرًا ولوحة لوحة وأسأل نفسى: أين سيكون مكانى بين كل هؤلاء؟
وأقرّر أنه لابد لى من إضافة لمستى الخاصةْ، ماهى؟ْ..
أخذ الأمر منى وقتا ليس بالقصير، قبل أن أجد ما كنت أبحث عنه.. الشباب!
فكل من يعملون فى المجلة فى ذلك الوقت، كانوا قد تجاوزوا سن الشباب.. إذن فأنا الشاب الوحيد هنا.. قلت لنفسى، ومنيتها بآمال وأحلام كبيرة، فالفارق بين عمرى وعمر أصغر محرر فى «صباح الخير» فى منتصف الستينيات، كان فارق جيل، فأنا الجيل الجديد.
وأنا الأكثر تواصلا مع جيلى الشاب.. وهذا هو مدخلى.
وبعد ثمانى سنوات من قدومى، ظهر جيل جديد: كريمة كمال، ماجدة الجندى، درية الملطاوى، مدحت السباعى.
وفى السبعينيات، جاء رئيس تحرير جديد، كان قد ترك المجلة وأمضى عدة سنوات فى أمريكا، صعيدى لم يتخل عن لهجته رغم أنه خريج الجامعة الأمريكية فى القاهرة، ومع أنه تجاوز سن الشباب طبعا، لكنه كان فى مظهره وحركته يحاول أن يحاكى الشباب.
جمعنا رئيس التحرير الجديد، وقال إنه يحب أن يتعرّف على الشباب الذين ظهروا فى المجلة خلال غيابه.
كنت فى منتصف العشرينيات من عمرى بينما الزميلات أصغر بثمانى سنوات، طالبات فى السنة الأخيرة فى كلية الآداب.. وجاء بعد ذلك مدحت الطالب فى معهد السينما.
تحدثوا جميعا وقدموا اقتراحاتهم لموضوعات جديدة، وتعمّدت أن أنتظر حتى ينتهوا.. وسألنى رئيس التحرير الجديد: وأنت يا أستاذ منير.. ما اقتراحاتك؟
قلت اقتراحاتى سأقدمها فى اجتماع التحرير، لكن ما أريد أن أقوله، هو كيف أرى المجلة الآن، وماذا أريد لها مستقبلا..أعتقد أنك يا أستاذ ترغب فى الاطلاع على رؤية الشباب.. رحب بلهجة صعيدية قوية مهلللا: طبيعى.. طبيعى.
قلت إننى لا أجد من كتاب وفنانى المجلة من يمكن اعتبارهم شبابا.. وهذه أكبر مشكلة، فالمجلة التى تحمل شعار «للقلوب الشابة والعقول المتحررة» لم يلتحق بها جيل جديد منذ وقت طويل.. ومن يكتبون الآن هم من جيل الخمسينيات.. ولا علاقة لهم بالشباب.. وشئ آخر يزعجنى.. ولا أجد له مبررا، فمع أن نصف المجلة كاتبات ومحررات، إلا أن الباب الوحيد الذى يعبّر عن أفكار المرأة يكتبه رجل متقمصا شخصية «نادية عابد»؟ْ!
بدت ملامح الصدمة ترتسم على وجه رئيس التحرير، ووجدته ينهى الاجتماع فجأة وقد تشكلت على وجهه ابتسامة عصبية، شاكرا لنا أفكارنا على أن يتواصل حديثه معنا فيما بعد.
ما حدث بعد ذلك تجلى فى خلاف شديد بينى وبين رئيس التحرير، أذكر له مثلا أنى تقدمت باقتراح إجراء حديث مع شيخ القضاة محمود الغمرى، فسحبه منى وكلف به مفيد فوزى (الذى لم ينفذه).
وجرت واقعة مثيرة حيث قتل أسد السيرك، مدربه سلطان الحلو، فأجريت تحقيقًا ضمنته لمسة خاصة هى «حديث مع الأسد».. فرفض رئيس التحرير الموضوع كله، ثم تراجع عن ذلك مع شطب الحديث مع الأسد!
بعد يومين فقط من صدور «صباح الخير» دون الحديث مع الأسد، كتب يوسف إدريس صفحة كاملة فى «الأهرام» عبارة عن حديث مع الأسد الذى قتل مدربه!
وكنت قد تلقيت دعوة من شركة مصر للطيران للمشاركة فى رحلة افتتاح خط جديد لإحدى الدول فرفض رئيس التحرير السفر.
الكاتب الذى حذّرنا من الصهاينة
فى كثير من جلسات ندوة نجيب محفوظ التى كنت أحضرها منذ سنة 1964 وحتى سنة 1980 كنت ألاحظ وجود أشخاص لا يبدو على مظهر أى منهم ما يدل على أن له أى علاقة بالثقافة أو الأدب، ولم تكن هذه ملاحظة أنفرد بها وحدى، كان هناك آخرون من الوجوه المألوفة من الأدباء الشبان وغيرهم من يردّد أن هناك مندسون بيننا.
وكان بعض مريدى نجيب محفوظ ينقلون له هذه الملاحظة عندما يلتقونه فى أوقات أخرى، منفردين فبماذا كان يجيبهم محفوظ؟
كان حسب ما ينقلون عنه يطلق ضحكته الممدودة الشهيرة، ويردّد: وهل نحن جمعية سرّية؟ْ!.. نحن نجلس فى مكان عام ونتكلّم فى الأدب والحال العام مثل كل الناس. فلا تنزعجوا.
وأتذكّر الآن أسماء ثلاثة ممن عرفتهم على مقهى «ريش» كانوا أكثر من يردّد ونحن جالسين فى المقهى، تحذيرات مختلفة ويشيرون إلى أشخاص بعينهم، كان أكثرهم توترا على سالم، يليه نجيب سرور، والثالث إبراهيم منصور.
ولم أكن أعرف لماذا كل هذا التوتر؟.. وعلى رأى عمنا نجيب محفوظ: هل نحن جمعية سرية؟.. نحن نجلس فى «ريش».. فى مكان عام. لكنهم يقولون لى: لاتنس أن «ريش» مكان مشبوه منذ زمن بعيد، ولا تنس أن احتجاجات وانتفاضات انطلقت أو تم التحضير لها سرا، فى «ريش».
وخلال بعض المعارك الأدبية بين هذا وذاك من الشعراء والأدباء كانت تتناثر عبارات يتهم فيها أحدهم الآخر بأنه مخبر أو على علاقة بمخبر!
اختلط الوهم بالحقيقة
وذاع انتشار المندسين فى «ريش»ْ واختلط الوهم بالحقيقة إلى أن حدث ذات يوم كما حكى نجيب محفوظ بنفسه أنه بعد ندوة من ندواته، وكان الحاضرون قد انصرفوا بينما بقى هو قليلا لسبب ما، فإذا برجل يقترب منه ويحيطه علما بأنه المخبر الذى كان مكلفا بكتابة تقرير عما دار من مناقشات وآراء وكلام، خلال الندوة، لكنه تعطل عن الحضور لأمر طارئ، وعندما وصل كانت الندوة فى لحظاتها الأخيرة، فلم يتسن له معرفة ما دار حتى يملأ تقريره، واستعطف المخبر كاتبنا الكبير، أن يحكى له ما جرى وماهى الموضوعات التى تحدثتم فيها، ومن قال ماذا؟!
وصدق أو لا تصدق، ما كان من نجيب محفوظ الذى صعب عليه حال هذا المخبر الغلبان، فلم يحك له ما جرى، بل إنه أخذ الورق والقلم وراح يكتب له بنفسه التقرير؟!
وحكايات هؤلاء كثيرة، بعضها حقيقى ومعظمها من وحى الخيال، أو مختلق.
والحقيقة أن الزملاء والزميلات الآخرين، كانوا مثلى يتندرون بهذا الشغف الذى يعتبرونه نوعا من عقدة النقص.
ومع ذلك فقد تبيّن فى أوقات تالية أن زميلنا هذا كان فعلا يعرف الرجل الثانى فى جهاز خطير، لكن متى عرفه؟.. عندما ترك الجهاز وظهر فى المشهد العام مكلفا بالإشراف على مجلة حكومية واسعة الانتشار، ليس لقيمتها الصحفية، لكن لأنها مجلة الإذاعة والتليفزيون التى تضم خرائط وجداول البرامج.. ومن هنا كان رواجها فى زمن لم يكن قد عرف بعد الإنترنت.
احذروا الجواسيس
أما هوس على سالم، فكان متهوسا من وجود جواسيس صهاينة يهود مدسوسين بيننا كان ذلك قبل اتفاقية السادات مع إسرائيل، بعشر سنوات تقريبا..وكانت تجمعنى بعلى سالم صداقة لإعجابى بمسرحياته (ليس منها «مدرسة المشاغبين» فهى ليست من تأليفه، بل مقتبسة عن الأصل الأمريكي) والطريف أن له فيلم من تأليفه ووضع له السيناريو وأخرجه غالب شعث، على ما أذكر هو «أغنية على الممر» عن الحرب المصرية ضد إسرائيل، لكن بعد معاهدة السلام وزيارة السادات لإسرائيل تحوّل على سالم إلى داعية ليس للسلام ولكن لإسرائيل وذهب إليها بنفسه وتلقى فيها الترحيب والتكريم.. ومن وقتها قطعت علاقتى به.. وأصبحت لا أعترف بوجوده. مع أننى عايشت لحظة بلحظة كتابته لمسرحية «بكالوريوس فى حكم الشعوب» التى كان يسخر فيها من السادات والتى عرضت على مسرح الغرفة التجارية فى باب اللوق فى أوائل حكم السادات، وأخرجها نور الشريف وكان أبطالها من الوجوه الجديدة وقتها، يحيى الفخرانى وليلى علوى وممدوح متولى وأحمد بدير(الذى كان يقلد شكل وصوت السادات)..
لكن العجيب فى أمر على سالم الذى بدأ حياته العملية بالعمل فى مسرح العرايس، فى وظيفة «محرّك عرايس».. ثم قام بتمصير مسرحية كوميدية هى «مدرسة المشاغبين» التى لمع فيها عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبى وحسن مصطفى وأحمد زكى، وطبعا سهير البابلى، وبعدها بدأ يكتب نصوصا مسرحية من تأليفه، أذكر منها «أنت اللى قتلت الوحش»..و«عفاريت مصر الجديدة».. وكان دائما ما يتوجّس كما قلت، وجود جواسيس من اليهود الصهاينة فى جلساتنا فى مقهى «ريش».. العجيب أنه أصبح هو نفسه أكثر تصهينا من الصهاينة.
وتفسيرى لهذا الانقلاب فى حياته وأنا أدّعى أننى أعرف على سالم، هو أن نبع الإبداع عنده قد نضب. وتصوّر هو أن انطلاقه نحو إسرائيل سيجعل نظام السادات ومن بعده مبارك، يضع على سالم على رأس قائمة رجاله فى أوساط الثقافة والفن والمسرح.. لكن شيئا من هذا لم يحدث، واعتقادى الشخصى هو أن على سالم وبعد أن وجد نفسه بعيدًا إلا من بعض المطبعين الذين لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة، فكّر فى أن يتراجع عن غيه هذا.. لكن حتى التراجع كان قد فات وقته!
فى الأسبوع المقبل نواصل