د. رانيا يحيي
الشيخ دراز.. الرجل العاقل
الأفلام التسجيلية والوثائقية نوع مهم جدًا من الأفلام التى قد لا ينتبه إليها الكثيرون، رغم دورها فى التأكيد على المعلومة الصحيحة والمدققة التى تسترعى الانتباه وتشغل العقل وتداعب الذهن ليكون تأثيرها الإيجابى ذا أثر فعال، متضمنًا رسالة إنسانية وفنية وإبداعية تتحقق فيها المتعة الحسية بجانب التفكير العقلى.
وفى الواقع فيلم «رسائل الشيخ دراز» من هذا النوع من الأفلام التسجيلية وإن كانت المخرجة «ماجى مرجان» قدمته كفيلم تسجيلى بطريقة شيقة بمشاركة أفراد عائلة الدكتور محمد عبدالله دراز فى هذه البطولة «التى تجسد رحلة هذا العالم الجليل» من خلال ما تركه من وثائق يومية تحمل تفصيلات حياته، وتشير لتدرجه العلمى والوظيفى بجانب علاقاته الإنسانية والاجتماعية واحتوائه لأسرته التى تضم 10 أطفال، فى تقاسم عددى بين البنات والذكور، لنتعرف عبر هذه الرحلة على جوانب عدة تؤكد سماحة الدين الإسلامى عند علماء الأزهر الشريف، دين الوسطية والمحبة، وليس التشدد والتشنج والتعصب، انطلاقًا من قول الله تعالى: «لكم دينكم ولى دين»، وأيضًا قوله عز وجل «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
لقد تخصص الشيخ دراز ابن قرية دياى فى علم الأديان وحصل على بعثة فؤاد الأول الأزهرية وسافر إلى فرنسا عام 1936، ناقش الدكتوراه فى باريس عام 1948 وكان موضوع رسالته عن «الأخلاق فى القرآن»، وكان خطابه الإسلامى يتناول العدالة والمساواة فى النوع، وهو خطاب حداثى فى حينها، كذلك كان شديد التفاهم مع هذه الحضارة والثقافة المغايرة، متفتحًا ومتعايشًا مع ثقافة المجتمع الذى لحق به مبعوثا دراسيًا، يزور المسرح والسينما ويسمع الموسيقى، وكانت كتاباته سهلة تخاطب العقل والفكر دون أى صدام، أسلوبه سلس وعميق، يتعامل بالنظرة الشمولية لمخاطبة الوعى والضمير.
لقد طرح الشيخ دراز منظومة أخلاقية فى القرآن وعمل على محاولة إحياء الإنسانية، منطلقًا دائمًا من قاعدة حرية العقيدة، وعاش محافظًا على قيمه السامية ومبادئه التى لم يجانبها، فظل حرًا نزيهًا، مؤمنًا بدوره العلمى، رافضًا بقوة أى منصب أو محاولة قد تحيده عن حر قراراته وآرائه، فبكل شجاعة أدبية اعتذر عن منصب شيخ الأزهر الشريف احترامًا لقناعاته. كذلك كان آخر عهده فى الإذاعة المصرية عام 54 بعد التدخل فى المحتوى المقدم أكثر من مرة، فقال أعتذر أفضل إذا لم أستطع أن أقول كلامى كاملًا. هكذا عاش بكبرياء العالم، وشموخ الفقيه.
وبعد عقود من رحيله نستطيع أن نقف بكل تقدير أمام منتجه الثقافى والدينى باعتباره إرثًا حقيقيًا، وأيضًا الإرث الأخلاقى الذى ورّثه لأبنائه وأحفاده بكل ما يحمله من قيم إنسانية نبيلة.
الشيخ دراز أطلق عليه الرجل العاقل، ووصفه الدكتور أسامة الأزهرى بأننا «أمام عقل علمى فريد». مثل هذه الأفلام نستنير بها، وتفتح آفاق العقل للبحث والاستفاضة والمعرفة، تحية لكل من تحمس لهذا المشروع التنويرى فهو ليس مجرد فيلم، وإنما واجب وطنى لنتعرف على رموزنا وعلمائنا الأجلاء ممن قدموا للعلم والإنسانية ما يستحق أن نذكرهم ونقتدى بهم.