هل تتفاقم المشكلات الصحية بسبب التغيُّر المناخى؟

د. إسلام عنان
هل لاحظت مؤخرًا زيادةً فى الأيام الحارة وانحسارًا للشتاء؟ هل شعرتَ بتزايدِ حِدَة الفيضانات والجفاف؟ إذا كانت إجابتكَ «نعم»، فأنتَ لستَ وحدَك. ففى السنوات الأخيرة، برز خطرٌ يهدّدُ صحتَنا وسلامتَنا جميعًا: تغيُّر المناخ.
لم يعد الحديث عن تأثير تغير المناخ على صحة الإنسان ترفًا فكريًا للمهتمين وحسب؛ بل حقيقة واقعة يواجها خبراء الصحة العامة بقلق بالغ. فارتفاع حرارة الأرض بوتيرة تفوق معدلاتها التاريخية لم يعد مجرّد رقم يتصدر عناوين الصحف والتقارير العلمية، بل انعكاسٌ حيوى يُحدث اضطرابًا عميقًا فى النسق البيئى، ويضع أُطر التنبؤ الصحى أمام تحديات استثنائية.

حدث التغير المناخى البشرى المنشأ نتيجة للأنشطة البشرية التى تطلق غازات الاحتباس الحرارى إلى الغلاف الجوى مما يؤدى إلى ارتفاع درجات الحرارة مثل حرق الوقود الأحفورى، كالفحم والنفط والغاز الطبيعى، الذى يطلق ثانى أكسيد الكربون.
وأيضًا قطع الغابات، والأنشطة الصناعية، مثل إنتاج الأسمنت والحديد والصلب، مما أدى لارتفاع درجات الحرارة، وأدى إلى ذوبان الجليد وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حدة الظواهر الجوية القاسية، مثل العواصف والفيضانات والجفاف، وتغير أنماط هطول الأمطار، مما أدى إلى الجفاف والفيضانات فى بعض المناطق وتغيُّر أنظمة بيئية بالكامل.

ورث البشر كوكب الأرض من 300 ألف عام من عمر الأرض الذى يقدر بـ4.5 مليار عام أى أن عمر الإنسان فقط (0.007 %) من عمر الأرض ولكن ما فعله البشر بكوكب الأرض يهدد الحياة كما نعرفها وللأسف قد ينبئ بفناء البشر إذا استمررنا فى سياستنا بعدم احترام موارد الكوكب والتغيير المستمر فى مناخه وسوف يضع كوكبنا فى مرحلةً حرجةً يتصاعد فيها تأثير تغير المناخ على صحة الإنسان بصورةٍ لم يعهدها العالم منذ ما يزيد على 100 ألف عام. فلقد شهد كوكبنا ارتفاعًا ملحوظًا فى درجة حرارته عن المعدل الطبيعى بمقدار 0.8 درجة مئوية بين عامى 1990 و2020 وهو أمر قد يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، ولكنه يحمل فى طياته تبعات خطيرة على صحتنا، فتم تسجيل أعلى درجات حرارة عالمية على الإطلاق فى جميع القارات خلال عام 2022 وزادت المساحة العالمية للأراضى المتضررة بالجفاف الشديد إلى 47 % فى الفترة 2013-2022، مما يعرض الأمن المائى والصحى وإنتاج الغذاء للخطر. وارتبط تزايد موجات الحر والجفاف فى عام 2021 بزيادة 127 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائى الحاد أو الشديد مقارنة بعام 1981-2010، مما يعرض الملايين لخطر سوء التغذية والآثار الصحية التى قد لا يمكن علاجها كتداعيات الأنيميا والتقزم وأمراض سوء التغذية.

هذه الزيادة الصغيرة نسبيًا أحدثت اختلالات كبيرة فى نظامنا المناخى وعواقب وخيمة على صحة الإنسان فعلى سبيل المثال وليس الحصر:
أمراض ووفيات
موجات الحرارة المرتبطة بتغيُّر المناخ تسببت فى 226 ألف حالة وفاة إضافية على مستوى العالم بين عامى 2000 و2019 بسبب انتشار أمراض مثل ضربة الشمس والإرهاق الحر ومشاكل الجهاز التنفسي.
تقدر منظمة الصحة العالمية أن 7 ملايين حالة وفاة مبكرة على مستوى العالم فى عام 2019 كانت ناتجة عن تلوث الهواء المحيط بسبب زيادة مشاكل الجهاز التنفسى مثل الربو ومرض الانسداد الرئوى المزمن.
زيادة خطر الإصابة بأمراض منقولة بالماء مثل الإسهال والكوليرا والتيفوئيد بسبب الفيضانات المتزايدة والأحداث المناخية القاسية المرتبطة بتغير المناخ التى أدت إلى تلوث مصادر المياه وتعطل أنظمة الصرف.
زيادة الإصابة بالأمراض المرتبطة بالنواقل مثل الناموس الذى يهاجر إلى أماكن أصبحت مناسبة لمعيشته لم تكن كذلك فى الماضى بسبب الاحتباس الحرارى فزادت معدلات حمى الضنك حتى أصبح نصف سكان كوكب الأرض معرضًا للإصابة به وارتفع هذا المعدل بنسبة 28 % مقارنة بعقود الخمسينيات. وأيضًا يحدث هجرة للناموس الناقل للملاريا لأماكن جديدة حيث ارتفعت مساحة الأراضى المناسبة لانتقال طفيلى الملاريا بنسبة تصل لـ17 % بين عامى 1951 و2022.
يؤثر تغير المناخ على المحاصيل الزراعية والأمن الغذائى، خاصة فى المناطق المعرضة للخطر. ويمكن أن يؤدى ذلك إلى سوء التغذية ونقص التغذية، مما يعرض الجهاز المناعى للضعف ويجعل الأفراد أكثر عرضة للإصابة بالعدوى.
إن ارتفاع درجات الحرارة يرتبط بزيادة حالات الانتحار بمعدل 1.7 % أعلى لكل درجة مئوية واحدة زيادة فى متوسط درجة الحرارة اليومية، وزيادة معدلات الذهاب إلى المستشفى لعلاج الأمراض العقلية بنسبة 9.7 % أعلى خلال موجة الحر.
لا تؤثر هذه التداعيات الصحية المباشرة وحدها، بل تتفاقم الخسائر الاقتصادية المرتبطة بالاحتباس الحرارى فقد زادت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الظواهر الجوية القاسية بنسبة 23 % لتصل إلى 264 مليار دولار فى عام 2022 وحده، بينما أدى التعرض للحرارة إلى خسائر عالمية فى الدخل تبلغ 863 مليار دولار. وللأسف أن هذه التأثيرات غير متوزعة بالتساوى، حيث تتحمل الفئات السكانية الضعيفة، مثل الأطفال وكبار السن والمجتمعات فى البلدان النامية، العبء الأكبر رغم أن الدول الصناعية الكبرى تتصدر قائمة الانبعاثات الكربونية.
للأسف نحن مستمرون فى العد التنازلى لتداعيات التغير المناخى فلم يتبدل الوضع بعد جائحة كوفيد-19 كما هو واضح فماذا لو زادت درجة حرارة الأرض درجة واحدة أخرى فوق المعدل؟

يتوقع العلماء إن لم نتوصل لحل جذرى سوف يصبح الكوكب مختلفًا كلياُ بعد ثلاثين عامًا أخرى فبسبب الاحتباس الحرارى العالمي:
- تتزايد احتمالية تضاعف حالات الملاريا وحمى الضنك فى إفريقيا بحلول عام 2050، وتصبح ثلاثة أضعاف بحلول عام 2080، وفقًا لأحدث تقرير مناخى للأمم المتحدة. كما يتوقع التقرير نفسه زيادة مقلقة تصل إلى 134 مليون شخص معرضين لخطر الإصابة بالملاريا فى جنوب آسيا بحلول عام 2030، قد يتعرض 8.4 مليار شخص، أى ما يقرب من 90% من سكان العالم المتوقعين، للملاريا أو حمى الضنك بحلول عام 2080. وتتنبأ الدراسة كذلك بإمكانية حدوث «تحول شمالى» لمناطق انتشار الملاريا وحمى الضنك، مما يعرض حتى أمريكا الشمالية للخطر التى ليست حاليًا بيئة صالحة للناموس الناقل لهذه الفيروسات.
- بين عامى 2030 و2050، يتوقع أن يتسبب تغير المناخ فى حدوث حوالى 250 ألف حالة وفاة إضافية سنويًا، وذلك بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحرارى فحسب.
- كما تُقدّر التكاليف المباشرة للضرر الصحى الناتج من التغير المناخى بمبلغ يتراوح بين 2 و4 مليار دولار أمريكى سنويًا بحلول عام 2030.
وقف الضرر
إذن هل يمكن وقف أو تقليل العد التنازلى لهذا الضرر؟
الإجابة نعم فنحن لم نصل بعد لنقطة اللا رجعة، ولكننا نقترب منها بوتيرة سريعة فبعد اتفاق باريس للمناخ عام 2015 باتفاق 193 دولة بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبى إلى الحد من زيادة درجة الحرارة العالمية فى هذا القرن إلى درجتين مئويتين مع السعى إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة مما يتطلب الوصول إلى ذروة انبعاثات غازات الدفيئة فى قبل 2025 وتقل إلى النصف فى 2050، ولكن للأسف تجاوز متوسط درجة الحرارة العالمية مؤقتًا عتبة 1.5 درجة مئوية فى شهر يوليو 2023 وكان أكثر الشهور سخونة على الإطلاق ومنتظر أن تشهد 2024 أرقامًا قياسية فى ارتفاع درجات الحرارة فكما وصف تقرير «متحدون فى العلوم» لعام 2021، أنه «لا توجد أى علامة على أن العالم سيصبح أكثر اخضرارا».
يبدو جليًا أن التغير المناخى يؤثر على كافة نواحى الحياة الصحية أولًا واقتصاديًا وسياسيًا ثانيًا... هذا العد التنازلى يجب أن يقف أو على الأقل يتم وضع سياسات لتقليل وتيرته واتخاذ إجراءات عاجلة وهذا ما تم طرحه فى مؤتمر المناخ كوب 27 عام 2022 فى جمهورية مصر العربية الذى اعتمد فى توصياته على أربعة محاور أساسية وهى تمويل العمل المناخى، التكيف مع تغير المناخ، الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، ورفع الوعى بتغير المناخ. وأعقبها فى 2023 مؤتمر المناخ كوب 28 فى الإمارات العربية المتحدة بتوصيات مشابهة تربط بين الصحة والمناخ ومنها وضع استجابة شاملة للآثار النفسية والاجتماعية لتغير المناخ، مكافحة عدم المساواة وتعزيز أهداف التنمية المستدامة، تقليل انبعاثات والهدر فى قطاع الصحة، تعزيز البحث والتعاون متعدد القطاعات ومتابعة التقدم، تعزيز الاستثمارات فى المناخ والصحة، تعزيز التمويل من خلال التعاون والاستفادة من الخبرات، تحسين جهود الرصد والشفافية وتقييم تمويل المناخ.

إذا أردنا أن نضع حدًا لخفض تأثير تغير المناخ على الصحة فيجب أن نضع خطة عمل متكاملة على المستويين الدولى والمحلي:
على المستوى الدولى:
التعاون والتنسيق: تعزيز التعاون الدولى بين المنظمات الصحية والحكومات والمجتمع المدنى لمشاركة المعرفة ووضع سياسات منسقة للصحة وتغير المناخ.
الدعم المالى: تدفق التمويل من الدول المتقدمة للدول النامية لبناء أنظمة صحية مرنة قادرة على التكيف مع آثار تغير المناخ.
البحث والتطوير: تشجيع الأبحاث المشتركة لتطوير تقنيات جديدة للوقاية من الأمراض المتعلقة بتغير المناخ وعلاجها، مع التركيز على الحلول الملائمة للبلدان النامية وعمل مسابقات سنوية للمشاريع التى تحسن من الوضع البيئي.
نقل المعرفة: إقامة برامج لتدريب العاملين الصحيين فى البلدان النامية على التعامل مع الأمراض والتحديات الصحية الناجمة عن تغير المناخ.
على مستوى الدول:
السياسات والاستراتيجيات: وضع سياسات وطنية واستراتيجيات صحية تأخذ بعين الاعتبار مخاطر تغير المناخ وتضمن تأهب قطاع الصحة لمواجهتها وتقدم حوافز للمشاريع الصديقة للبيئة سواء بتسهيلات فى الإنشاء أو الإعفاء الضريبى الجزئى على سبيل المثال تجربة جمهورية مصر العربية، فعلى الرغم من أن انبعاثات مصر تمثل 0.6% فقط من الانبعاثات العالمية فإنها وضعت إطار استراتيجية تنمية منخفضة الانبعاثات حتى 2030 ووضعت استراتيجية الطاقة المستدامة 2025 وإصدار السندات الخضراء بقيمة 750 مليون دولار وهى سياسيات واستراتيجيات تهدف لإدماج البعد البيئى بنسب معينة فى مشروعات الدولة فى فترة 4 سنوات.
بنية تحتية مرنة: الاستثمار فى بنية تحتية صحية قادرة على تحمل الظروف المناخية القاسية مثل الفيضانات والعواصف الشديدة.
نظام الإنذار المبكر: تطوير نظام إنذار مبكر بالأمراض والتحديات الصحية المرتبطة بتغير المناخ لضمان الاستجابة السريعة والفعالة. مثل مراقبة هجرة وتحرك الناموس الناقل للأمراض وفحص المجارى المائية باستمرار.
التعليم والتوعية: نشر الوعى بين العامة حول العلاقة بين تغير المناخ والصحة وتعزيز السلوكيات الصحية الصديقة للبيئة ودعم المناهج الدراسية لإنشاء جيل قادر على الحفاظ على كوكب الأرض بطريقة أفضل منّا ومن أسلافنا.
برامج تحسين نوعية الهواء: تنفيذ برامج لخفض تلوث الهواء فى المدن الكبرى، حيث يرتبط تلوث الهواء بالأمراض التنفسية وأمراض القلب والسكتة الدماغية.
مشاريع تأمين مصادر المياه النقية: الاستثمار فى مشاريع تأمين مصادر مياه صالحة للشرب وتحسين إدارة مصادر المياه لمواجهة خطر تلوث المياه والجفاف الذى يؤدى لأمراض سارية وغير سارية.
برامج التغذية الصحية المستدامة: دعم الزراعة المستدامة وتشجيع إنتاج واستهلاك الأغذية الصحية التى تقلل من انبعاثات غازات الدفيئة وتضمن الأمن الغذائي.
برامج الوقاية من الأمراض: تعزيز برامج الوقاية من الأمراض المعدية التى قد تنتشر بسبب ارتفاع درجة الحرارة وتغير أنماط الطقس.
تشجيع إقامة المستشفيات الخضراء ووضع خطة لإحلال جميع أماكن تقديم الخدمة الصحية بآخرى صديقة للبيئة عن طريق:
استخدام الطاقة المتجددة: زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتقليل الانبعاثات الكربونية من المستشفيات.
كفاءة استخدام الطاقة: تحسين كفاءة استخدام الطاقة فى المبانى الطبية من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة وعزل المبانى جيدًا.
إدارة النفايات الطبية: اعتماد ممارسات مستدامة لإدارة النفايات الطبية مثل إعادة التدوير والتخلص الآمن منها لتقليل تلوث البيئة.
التصميم البيئي: تصميم المستشفيات الجديدة بما يتوافق مع مبادئ العمارة المستدامة وتقليل أثرها البيئى.
التخطيط العمرانى: التخطيط للمدن بطريقة مراعية للبيئة للحد من الآثار الصحية السلبية لتغير المناخ مثل موجات الحر والفيضانات.
دعم الابتكار: تشجيع وتطوير حلول مبتكرة للتحديات الصحية المتعلقة بتغير المناخ، مثل استخدام الذكاء الاصطناعى فى التشخيص والعلاج.
إشراك المجتمعات المحلية فى وضع وتنفيذ الاستراتيجيات والحلول الخاصة بالصحة وتغير المناخ لضمان نجاحها واستدامتها.