حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة الثالثة عشرة
إطلاق سراح صحفى كبير لأسباب «غير صحية»!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
لماذا شاعت تسمية الصحافة «مهنة البحث عن المتاعب»؟!
فى مراحل مختلفة من حياتى فى هذه المهنة التى أحبها حتى من قبل أن أمارسها، كنت أطرح على نفسى هذا السؤال أو أطرحه على أساتذة المهنة، ليس لأنه وصف لا يعجبنى، بقدر ما هى الرغبة فى تأصيل الأمور، ومراجعة تاريخها، وخلخلة ما حولها من أقاويل أو غمغمات أو ما شابه.
فالحقيقة أن الصحافة هى مهنة البحث عن الحقيقة.
وبالضرورة كما نرى وكما يحدثنا تاريخ هذه المهنة الرفيعة، فالبحث عن الحقيقة ومساندة الحق يتلازم دائما مع التعرّض للمتاعب. وعلى جانب آخر فإن مساندة الحق ونشر الحقيقة تسبب المتاعب لأعداء الحق والحقيقة، كما تسبب المتاعب أيضا - فى أحيان كثيرة - للصحفى نفسه، محررًا ومحققًا، أو كاتبًا ناقدًا كاشفًا..
وقد شهدت خلال عملى فى زمن السادات، كيف يتم نقل الصحفى لأعمال غير صحفية وغير لائقة بمكانته وقدراته وتاريخه المهنى، بتعسف غاشم، وبلا حق ولا محاكمة ولا استماع لصوته، ولا رحمة به وبعائلته.
رؤوف توفيق.. وعزله
أحكى عن كتَّاب ومحررين فى «صباح الخير».. رؤوف توفيق مثلا.. الذى فوجئ وبلا مقدمات بقرار عزله ونقله إلى مصلحة الاستعلامات، دون محاكمة ودون حتى إعلان للسبب، إلا ما قررته لجنة النظام تنفيذًا لإرادة الرئيس السادات.
ماذا ارتكب كاتب مهذب ومحترم ومثقف ووطنى وشديد الحساسية والرقة والدقة فى عمله وفى علاقاته، وكتاباته؟.. ورغم أنه يكتب أحيانًا فى قضايا عامة شبه سياسية، فإنه لم يكن متعصبًا لفكرة دوجماتية أيديولوجية، وكان فى كتاباته عاشقًا للإنسانية والفن والجمال والبساطة والحقيقة. وحتى فى كتاباته التى قد تتسم بمسحة انتقاد أو مراجعة لأمور وسياسات، فإنه لم يكن سليط اللسان، غليظ القلب، قاسى العبارة، متعصبًا أو متشددًا.
لماذا حدث هذا؟
لسبب بسيط جدًا يا أخى.. لأنه لم يكتب كما فعل كثيرون غيره سطرًا واحدًا عن الرئيس المؤمن «الذى لا يحاسب» كما أفتى شيخ المشايخ، الذى صفع الشعب كله بإعلأنه أنه سجد لله شاكرًا عندما وقعت الهزيمة فى 1967.. ولا أجد لدىَّ رغبة فى ذكر اسم هذا الشيخ..جزاه الله على قدر أفعاله.
ومع أننى بالطبع لم أحضر وقائع قصة اعتقال إحسان عبدالقدوس مؤسس «صباح الخير» مع أحمد بهاء الدين وحسن فؤاد، برعاية والدته فاطمة اليوسف «روزاليوسف».. إلا أن هذه الوقائع بلغنى أمرها وقرأت عنها وسمعت من بعض من عايشوها.
فقد كان إحسان على صلة بواحد أو أكثر من الضباط الأحرار الذين قاموا بالحركة ضد النظام الملكى، المعروف منهم بصلته بإحسان هو أنور السادات، ومع أنه أيد الحركة التى تحوّلت إلى ثورة يؤيدها الشعب، إلا أنه فى وقت مبكر كتب فى «روزاليوسف» التى يرأس تحريرها، مقالا بعنوان «الجمعية السرية التى تحكم مصر» انتقد فيه أعماًلا ومواقف لمجلس قيادة الثورة وبعض أعضائه.. فما كان من جمال عبدالناصر (الذى كانت قد جمعته بإحسان صداقة وتفاهم مع احتفاظ كل منهما برؤيته للأمور ومنهجه الخاص فى النظر إليها) إلا أن أمر باعتقال الكاتب الصحفى المستقل التفكير. وظل إحسان معتقلا لثلاثة شهور، وعندما أطلق سراحه التقى عبدالناصر الذى قال له إن ما جرى له طوال هذه الشهور مجرد «قرصة ودن» له!
ونحن نعرف أن الكاتب الرائد أحمد بهاء الدين، أول رئيس تحرير لـ«صباح الخير» وأصغر رئيس تحرير فى تاريخ الصحافة المصرية، لم يعتقل طوال حياته لكنه فى مرحلة ما تعرّض للضغط من الرئيس أنور السادات بعد أن وصف فى مقال له الانفتاح الاقتصادى الذى سلكه السادات بأنه «انفتاح سداح مداح».. فتم عزله من «الأهرام».
ولأن أحمد بهاء الدين رجل مبادئ، غير قابل للخضوع، ولأنه لم يجد سبيلا للتعبير الحر فى مصر أيام السادات، فقد استجاب لدعوة الكويت ليتولى رئاسة تحرير «العربي» ويوجه حديثه إلى العرب فى كل مكان.
ومع أننى لست من مريدى أحد.. ولا تعجبنى مدرسة «أخبار اليوم» الصحفية قديما التى اعتمدت الإثارة ونشر الفضائح والخزعبلات «تحضير الأرواح» وغيرهاـ ولا أميل إلى تمجيد مصطفى أمين أو محمد حسنين هيكل، وإن كنت أقدّر جهدهما فى تطوير الصحافة كمهنة، إلا أننى لا أرى سببًا لإهانة تعرّض لها كاتب صحفى هو مصطفى أمين من الرئيس السادات، الذى أطلق سراحه بدعوى حالته الصحية وكان محكومًا بالسجن فى قضية أمن قومى.. وظن السادات أنه بفعلته هذه استجابة لطلب هنرى كيسنجر، يكون قد كسب مصطفى أمين مؤيدًا له، نكاية فى هيكل الذى سانده ضد الناصريين ثم اختلف معه فى بقية المشوار.
لكن لم يمر وقت طويل قبل أن يضيق الرئيس السادات بمصطفى أمين، ويمنعه من الكتابة ويعزله من المنصب الذى وفره له!
والحكاية هى أن الكاتب الصحفى سخر من المنافقين الذين تركوا حزب السادات القديم لينضموا لحزب جديد شكّله الرئيس كسابقه، وهو فى الحكم، ووصفهم مصطفى أمين بـ«المهرولين».
الرجل الذى فقد عقله
مع أننى لا أتفق مع مذهب مصطفى أمين السياسى والصحفى، إلا أننى لا أنكر دوره بالطبع، والشيء نفسه ينطبق على محمد حسنين هيكل، الذى أرى أن قضيته طوال الوقت كانت «هيكل» نفسه.. وأن كل طموحاته وإنجازاته كانت تصب فى مصلحته الشخصية وليذهب الكل إلى الجحيم، وقد نجح فتحى غانم فى رسم ملامح هذه الشخصية فى روايته الشهيرة «الرجل الذى فقد ظله» والتى شاع أنه قصد بهذه الشخصية هيكل، لكن فتحى غانم أنكر ذلك، أما هيكل وفى أول لقاء له مع غانم، فقد هتف فى وجهه: أهلا بالرجل الذى فقد عقله!
لا يعنى ذلك إنكار كفاءة وموهبة وأستاذية محمد حسنين هيكل، ودوره فى تحديث الصحافة المصرية، لكن على الجانب الآخر يجب علينا ألا ننسى ظاهرة «هيكل» والأضرار التى أصابت الصحافة بسببها.
وأتذكر الآن أننا عندما كنا من شباب الصحفيين كانت لنا اجتماعات فى النقابة تناقش أفعال هيكل وخطاياه فى حق الصحافة، وكنا نعترض على احتكاره للأخبار، واحتكاره بالتالى للإعلانات، وتحويله «الأهرام» إلى دولة داخل الدولة.
ولم يكن هذا شعور شباب الصحفيين فقط، كان يشاركنا فيه كتاب ومعلمون كبار فى المهنة، وكان أحمد بهاء الدين نقيبًا للصحفيين وقتها ويؤيدنا لكنه يشترط علينا ألا نستخدم لغة التعريض الشخصى والسباب.
وأتذكر الآن واقعة عجيبة، فقد بلغ التنافس بين صحف «أخبار اليوم» التى نشأ فيها هيكل أصلا، وبين «أهرام هيكل». حدًا غير مسبوق.
كان هيكل بحكم علاقته الخاصة بالرئيس عبدالناصر، ينفرد بالأخبار والتوقعات والتحليلات، والمعلومات، التى لا تتاح بالطبع لغيره من قيادات المؤسسات الصحفية الأخرى، ما يعنى أن تتمتع «الأهرام» بالرواج والنجاح بينما تعانى بقية الصحف.
وبلغ الضيق بهذا الحال أن قرر رئيس تحرير «الأخبار» موسى صبرى، أن يكلّف أحد المحررين بمهمة «فدائية» عجيبة هى أن يذهب ويتسلق أسوار مطابع «الأهرام»ْ ليلا متخفيا، للحصول على «مانشيت» اليوم التالى، حتى تتمكن «الأخبار» من نشره بالتوازى مع «الأهرام»!
كانت عملية مجنونة وغير أخلاقية وغير مهنية، وطبعا فشلت فشلًا ذريعًا، ونال مرتكب هذه الجريمة علقة ساحنة حيث ضبط داخل أسوار «الأهرام» وتم تكسير عظامه بحيث أصبح يسير وهو الشاب الطويل العريض فارع الجسد، على عكازين لفترة طويلة من الزمن.
ومع أننى أعرفه وكان صديقًا، إلا أننى أفضّل الاحتفاظ باسمه لنفسى، فيا لها من فضيحة تعكس فى الصورة العامة أزمة الصحافة وقتها.
وكان لى زملاء تقدموا للعمل فى «الأهرام» طمعًا فى المزايا العديدة التى تتاح لهم هناك، فها هم يركبون سيارات نصر، ويتقاضون ضعف مرتباتنا ويكلفون بمهام غير صحفية، فقد كان المطلوب من كل واحد منهم أن يسلم نوعين من التقارير والأخبار، واحد للنشر، فى الجريدة، والثانى «للعلم» يطلع عليه هيكل ومعاونوه وما أشبه هذا بعمل أجهزة الأمن، وكنا نعتبر «الأهرام» دولة داخل الدولة لأن الملك حسين مثلا، يزور مصر، ثم ينشر «الأهرام» أنه قام بزيارة هيكل، فى «الأهرام»!
وكان هذا فى واقع الأمر يمثل إهانة ليس لواحد من الكتاب والصحفيين، لكن للكل.
فى الأسبوع المقبل نواصل