يوميات رسام كاريكاتير فى المهجر 8
نباتى رغماً عن أنفى!
تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
فى عام 1999.. كنت قد سافرت متوجهًا إلى أوروبا مرة أخرى. لكننى غيرت وجهتى واتخذت من مدينة الجن والملائكة باريس مقرًا لإقامتى ومركزًا لتنقلاتى بين العواصم الأوروبية الأخرى بدلاً من العاصمة الهولندية أمستردام. فكنت أعمل رسامًا حرًا بالمجلات الفرنسية، وما أن أوفر بعض المال حتى أنطلق عبر القطار الدولى TGV إلى كل الأماكن التى كنت أحلم بزيارتها. فزرت معظم العواصم والمدن الأوروبية، وتجولت بين معالمها وتصعلكت بين شوارعها، واستمتعت برسم أبنيتها العريقة وتعرفت على طباع أهلها.
وبعد فترة من العمل الجاد، فكرت فى أن أقضى إجازة طويلة أنعم فيها بالراحة برفقة الأصدقاء. فقررت أن ألبى دعوة صديقتى أيرين أوتربول التى كانت قد ألحت فى الدعوة لزيارتها وتمضية بعض الوقت بـ العاصمة الألمانية برلين. فاتصلت بها واتفقنا على الميعاد الذى يناسب بعضنا البعض.
وعن أيرين أوتربول، فهى فتاة ديناميكية.. تعشق التلقائية والحياة البدائية والبوهيمية. وقعت فى غرام الشرق.. فتعلمت اللغة العربية.. وتحفظ بعض النكات المصرية.. كما أن عملها كمخرجة بالتليفزيون الألمانى قد سهل لها زيارة العديد من البلدان العربية. وكمتخصصة فى الأفلام الوثائقية، صورت العديد من هذه الأماكن. إلا أن عشقها لمصر وحفاوة أهلها دعاها إلى أن تزور مصر سنويًا أثناء إجازات أعياد الميلاد بألمانيا.. وعن نفسى فقد تعرفت على أيرين بواحة سيوة أثناء تجهيزها فيلمًا وثائقيًا عن حياة المرأة المصرية فى الواحات.
فور أن نسقت لإجازتى، توجهت على الفور إلى محطة القطار (Gare du Nord) التى تقع فى الدائرة العاشرة من باريس حيث استقللت القطار إلى برلين. استغرقت الرحلة حوالى اثنتى عشرة ساعة. جاور مقعدى ركاب كثيرون.. منهم من فتح معى حوارًا، ومنهم من قرأ كتابًا، ومنهم من نام وأصدر أصواتًا مزعجة, كما أن القطار توقف خلال الرحلة عدة مرات بعدة مدن. وأتذكر أن بين الحدود صعد بعض الضباط وتجولوا بصحبة الكلاب البوليسية المدربة من فصيلة (German Shepherd) فيما بين الركاب، وأظن أن هذا إجراء روتينى لتأمين الحدود والركاب من وجود أى مواد متفجرة أو أى عمل إرهابى.. أو ربما خوفاً من تهريب المخدرات.
ثم واصل القطار رحلته، وكانت الرحلة ممتعة جدًا، رغم طولها لم أشعر خلالها بالملل قط. فلقد توغل القطار بين الغابات الكثيفة والجبال العالية ومر بعدة أنفاق، فكانت المشاهد الطبيعية عبر النافذة أكثر من رائعة وكانت أشبه بسينما العرض المتواصل. وفى تمام الساعة الخامسة مساء تهادى القطار وهو فى طريقه إلى الرصيف المخصص له وأعلن المذياع الداخلى عن الوصول إلى برلين.
برلين العريقة
ما إن نزلت من القطار حتى وجدت أيرين فى انتظارى.. فصافحتنى وعانقتنى بشدة كما لو كانت من أهل الصعيد مستعينة ببعض كلمات الترحيب المتداوله لدينا بـ مصر. واستهلت حوارها وهى ترحب بى بشكل مبالغ: «نورت برلين»... أخذت أضحك ونحن فى طريقنا إلى سيارتها الصغيرة فرنسية الصنع حيث وضعت حقيبتى وانطلقنا نتجول بين شوارع برلين القديمة.. أكبر مدن ألمانيا الاتحادية من حيث عدد السكان وعاصمتها. ومررنا بـ فريدريش شتراسه.. وهو الشارع الأسطورى الذى يضم أهم المبانى المعمارية فى برلين، وعبرنا ساحة باريسر الذى تتوسطه بوابة براندنبورج التى تمثل ما تبقى من سور برلين الذى قسم المدينة عام 1961 إلى جزئين غربى يتبع ألمانيا الغربية والآخر بطبيعة الحال شرقى يتبع ألمانيا الشرقية حيث بقى الحال على هذا النحو حتى سقوط السور عام 1989 وتوحيد الألمانيتين من جديد عام 1990 فى حدث سيظل فى ذاكرة العالم بأسره.
كان الطريق إلى بيت أيرين له مذاق خاص وترك فى النفس بهجة وسعادة. وكنت شديد الانبهار بما رأيت من حولى. فلا شك أن برلين كانت أحد أهم المدن التى كنت أخطط لزيارتها.
وما إن وصلنا حتى صعدنا إلى شقتها القابعة فى عقار قديم جدًا.. بنى عام 1901.. كانت له أسقف عالية بها زخارف شعبية قديمة مرسومة باليد، كما أن له سلالم خشبية عريضة مدهونة بلون خشب الجوز التركى، تضطرك إلى استخدام أطرافها تجنبًا لصوتها المزعج أثناء الصعود.
وجدتها تحيا داخل هذه الشقة كما لو أنها فى الواحات! فكل ما فى المكان يذكرك بـ مصر.. الأثاث البسيط.. المفروشات الشرقية.. الستائر.. اللوحات.. المقتنيات.. حتى براد الشاى.. وعندما سألتها عن السر، أجابتنى بهدوئها المعهود بأنها تحاول أن تحتفظ بجزء بسيط من دفء مصر!
فتحت حقائبى وأخذت أخرج بعض الهدايا التى كنت أحضرتها لها، وكان أهم ما أسعدها من بين كل هذه الأشياء هى عبوة شاى «العروسة».. التى قد طلبتها منى بالاسم من قبل.
نباتى حتى أستغيث
كانت أيرين طباخة ماهرة تجيد إعداد بعض الأصناف التى تعتمد على الخضروات والفاكهة. ولا عجب فى ذلك فلقد كانت نباتية لا تقرب اللحوم ولا الدواجن قط. وكانت لها معتقد ونهج إنسانى فى هذا الشأن. ودائمًا ما كانت تدعونى إلى عدم الالتزام بالنظام النباتى والبقاء على حريتى، إلا أننى وجدتها فرصة لخوض تجربة جديدة والدخول إلى عالم النباتيين.
فى البداية.. وجدت التجربة ممتعة وجديدة. بها من الإرادة ما يشبه الإقلاع عن التدخين. لكننى وبعد فترة بدأ لدى إحساس متناقض كونى خفيف الحركة كمن يرقص رقصًا إيقاعيًا يصاحبه إحساس آخر بالتعب والإرهاق الذى دب فى جسدى فصرت خاملاً حتى عن الحديث كمن يوفر طاقته. فأنا لم أعتد العيش بدون البروتين الحيوانى. كما أن العيش كنباتى أصبح مسألة تحدٍ تماماً مثل المكوث تحت الماء دون تنفس لأطول فترة ممكنة.
كانت أيرين تحاول أن توجهنى لبعض المطاعم العربية والتركية التى تعد لفائف الشاورما مستخدمة لحومًا مذبوحة على الشريعة الإسلامية، لكنى كنت أتناول لفائف الفلافل بدلًا منها تضامنًا معها.. حيث كان لدى هاجس بأن تناول اللحوم أمام شخص نباتى هو تمامًا كمن يتناول الشراب والطعام أمام شخص صائم.
ومرت الأيام وأنا صامد. أقاوم كل المغريات من روائح المشويات الشهية أثناء مرورى بأسواق ومطاعم برلين، حيث أننى لم أحاول أكل أى لحوم قط حتى ولو خلسة.. وكنت وفيًا جدًا فى هذا الشأن كمن أخذ على نفسه عهدًا والتزم به.
وبعد مرور ما يقرب من الشهر قررت السفر إلى مدينة شتوتجارت حيث كان لدى لقاء عمل مع السيدة مارلين بول رسامة الكاريكاتير الألمانية، وكانت أرجنتينية الأصل تجيد اللغة الفرنسية، وكانت تشغل فى هذا الوقت نائب رئيس اتحاد منظمات رسامى الكاريكاتير (فيكو). ولا أخفيكم سرًا أنى وجدت فى هذه الرحلة فرصة للتخلص من هذ النظام الغذائى المعقد الذى أقحمت نفسى به عنوة.
شتوتجارت فى المساء
سافرت بصحبة أيرين التى أصرت أن توصلنى إلى مدينة شتوتجارت مهد صناعة السيارات فى العالم، حيث يقبع متحف السيارات الشهير لـ مرسيدس بنز. كانت رحلة أخرى ممتعة لا تختلف عن مثيلتها بالقطار بالرغم من أننا استغرقنا بها ست ساعات تبادلنا خلالها القيادة. لكنك لن تمل القيادة بألمانيا أبدًا. فالطرق هناك من أكثر الأشياء التى سوف تلفت انتباهك، فهى ممهدة بشكل رائع ومنظمة بحسابات دقيقة، بخلاف المناظر الطبيعية التى تزين الطريق كأنها لوحة بديعة وأنت بداخلها.
وصلنا إلى شتوتجارت فى تمام الساعة السادسة مساء، وتوجهت إلى منزل مارلين بول مباشرة حيث وجدت ورقة صغيرة ملونة ملصوقة على الباب تعتذر فيها عن انتظارى فلقد وصلنا متأخرين بعض الشيء.
عندها عرضت على أيرين أن نعود معًا إلى برلين وهو ما رفضته معتذرًا، وتحججت بأن على أن أعود إلى عملى بباريس. فشكرتها وودعتها بعد أن تأكدت بأنى سوف أدبر حالى فى أمر المبيت.
تحدى الجبابرة
كانت الساعة قد قاربت السابعة.. وهى ساعة متأخرة بالنسبة لأيام الأسبوع العادية.. فكل المحلات مغلقة وخلت الشوارع من المارة. فتجولت بين الشوارع حيث لمحت محلًا يحمل لافتة فلورسنتية مضيئة تشير إلى أن هذا المكان مفتوح على مدار 24 ساعة. توجهت إليه مسرعًا ووجدته مطعمًا صغيرًا يقدم البيتزا الإيطالية.
دخلت المطعم، وتوجهت نحوى إحدى الفتيات مسرعة وقدمت لى قائمة الطعام، فأشرت لها بالاعتذار، فلقد كنت أعرف طلبى مسبقًا. فلقد عقدت العزم بأن لا أظل نباتيًا ولو لدقيقة واحدة بعد الآن. فطلبت كل ما يوجد لديها من لحوم مضافًا لها البيتزا وليس العكس. فلقد قررت أن أكسر نظامى النباتى والعودة إلى نظامى القديم. فابتسمت وتوجهت نحو المطبخ فى الخلف لتبلغ الطلب.
تجولت بين جنبات المطعم الصغير وتأملت بعض تجارب الخط الفارسى التى وضعت فى إطار أسود أنيق على جدران المكان. حاولت قراءة المكتوب لكنها كانت بمثابة الطلاسم شديدة التعقيد، فلم أفهم منها شيئًا. فى هذه الأثناء وجدت من يخبط على كتفى متحدثًا إلىّ بلغة عربية ركيكة: «السلام أليكم بروزر».. فرددت عليه التحية.. وكان شابًا فى منتصف العمر.. قصير القامة.. له لحية طويلة سوداء.. وسألنى باللغة الألمانية: «من أين أنت؟».. فأجبته بأنى من مصر.. فسألنى: «هل أنت مسلم؟».. فقلت: «نعم.. وماذا عنك؟».. فجاوبنى بأنه مسلم من باكستان. واستطرد فى حديثه: «كان هناك زلزال فى مصر اليوم».. فرددت: «واليوم تم إقالة نواز شريف من الحكم فى باكستان».. كان حوار به من التحدى ما يشبه المناظرات فى المواجهات الانتخابية.
ثم عاود أسئلته من جديد: «ماذا طلبت من طعام؟».. فأخذت أشرح له طلبى. لكنه لم يعطنى فرصة لأكمل حديثى، فقاطعنى فجأة ورد على باللغة العربية بلسان باكستانى قائلًا: «هَرااام».. فاستطردت متعجبًا: «أتقصد حرام؟».. فجاوبنى بالألمانية: «نعم.. فاللحم المستخدم هنا هو لحم الخنزير.. وأنا لن أبيعه لك يا أخى».. ثم استأذننى وذهب ليعدل طلبى ويصنع لى بيتزا أخرى.. لكنه سرعان ما خرج من المطبخ وبيده بعض علب البيتزا وتوجه إلى دولاب صغير وأخرج منه زجاجتين من النبيذ الأحمر وتوجه نحو دراجته البخارية ووضع الطلبات بصندوقها المعدنى وانطلق وهو يلوح لى بيده مودعًا.
أخذت أضرب كفًا بكف من تلك المعايير المزدوجة التى يحيا بها هذا الرجل، لكننى لم أشغل بالى به على الإطلاق. بل إننى لم أرهق ذهنى حتى بالتفكير فى منهج هذا الرجل. فما أكثر هذه النوعية من البشر الذين كثيرًا ما تصطدم بهم فى الغربة.
انتظرت طلبى الذى تم تعديله، ويا لها من مفاجأة. لقد كانت البيتزا نباتية هى الأخرى. فلقد أضاف لها صديقى الباكستانى لمساته السحرية حتى يبيعنى بيتزا «حلال».. أو «هَلال» بلكنته الباكستانية.. فإذا بالبازلاء والكوسة والفلفل الأخضر تغطى سطح البيتزا بالكامل. ويبدو أنه نسى أن يضيف الجبن وصوص الطماطم والريحان. كأنه يعاقبنى على حوارنا بهذه البيتزا غير الشهية على الإطلاق. ويبدو أن العقاب كان مزدوجًا، فأنا أكره البازلاء منذ الصغر.
توجهت نحو الحديقة المقابلة للمطعم وفى يدى ذلك الشيء الذى يسمى مجازًا بيتزا، ثم جلست على أحد المقاعد الخشبية التى تتوسط الحديقة وأخذت أنقى البيتزا من البازلاء كمن ينقى الأرز من الحصى حتى أصبحت البيتزا كما لو كانت قطعة خبز كبيرة. وأخذت أعض على شفتيّ من الغيظ... فيبدو أننى أصبحت نباتيًا رغم أنفي!.