«إحراق».. «عودة الابن الضال» على الطريقة الكورية

د. هانى حجاج
لدينا هنا مؤلف يقع مع امرأة فى قصة حب لكنها تتركه فى رحلة إلى آخر إفريقيا تعود منها ويدها فى يد شاب ثرى، أما الحبيب القديم فتقول إن ما كان يجمعهما لا يزيد عن صداقة بريئة كعادة النساء عندما يتهرّبن من الوفاء بوعد. دع قصة المؤلف وفتاته على جنب الآن، فالشاب القادم من جوف إفريقيا يصارح المؤلف فى لحظة صفاء بأن لديه هواية عجيبة بعض الشيء هى أنه مغرم بإشعال النيران. ليس عود ثقاب أو فى منديل أو كومة نفايات، بل فى أماكن كبيرة مفتوحة وكل عدة أشهر، وهو يفعل ذلك فى الحظائر الواسعة المهجورة لأنه ليس مجنونًا تمامًا ويعرف أنه قد يتعرض للاعتقال، هكذا يمارس شغفه المشتعل بضرر محدود.
لكن الولع المرضى سرعان ما يتحول إلى حالة من الهوس تطال المؤلف الرزين الذى يحاول أن يقدح زناد مخه لتخمين موقع الحظيرة التالية التى سوف يحرقها الشاب المخبول الذى جلبته معها الحبيبة الغادرة كهدية شؤم غير مألوفة، وبالمناسبة فقد اختفت الفتاة من الصورة تمامًا بعد أن تركت له الرفيق النارى!

الموضوع مأخوذ من قصة قصيرة بعنوان (إحراق الحظائر) للأديب اليابانى ذائع الصيت (هاروكى موراكامى) تنتمى لفترة بعيدة فى حياته، إذ نشرها فى صحيفة النيو يوركر فى بداية الثمانينيات قبل أن يضمها بعد عقد كامل إلى مجموعته (الفيل يختفى)، لكن الحظائر اليابانية تحولت إلى صوبات زجاجية فى الفيلم حسب ما يناسب الطبيعة الكورية. والتزم مخرج الفيلم الكورى الجنوبى لى تشانج دونج بالهيكل الرئيس للقصة والمفردات الأساسية فيها حسب الوصف الأرسطى للدراما بأنها محاكاة لفعل من خلال الكلام الذى يرتبط ببنيات زمان ومكان مغلقة ومجموعة معينة من الشخصيات: البطل جونجتسو الشاب الريفى الطموح بالنجاح الأدبى والشابة هايمى التى تحب التمثيل الصامت (البانتو مايم) وتحلم بالثراء فتعتقد أن إجراء عملية تجميل جراحية قادر على تغيير حياتها بالكامل لتصبح فتاة إعلانات ذائعة الصيت، والشاب الثرى الذى تعود به معها من الرحلة الإفريقية، تلك العودة التى تصحبها المصارحة الصادمة. فنعرف نقاط الضعف الكامنة فى الأبطال التراجيديين استعدادًا للتطهير عبر الصراع الذى نجم عن خيانة الفتاة ثم اختفائها والخلل النفسى عند الزائر الغامض وهو جوهر الحدث الدرامى واستخدام جدلية (الذات / الموضوع) كنقطة انطلاق لتحريك الدراما على أنها خلاصة الملحمية الموضوعية والغنائية الذاتية فيتخصص لها تلقائيا بعد زمني فى المستقبل وقيمة مستقلة للتشويق.
عمد المخرج الموهوب إلى إبراز الملامح الملائمة للشخصيات بشكل فوق تاريخى - الجيل والجنس والطبقة الاجتماعية - التى يتغير مضمونها وأهدافها تاريخيًا كما تتكامل بواسطة الملامح المميزة الأخرى التى يكون تلاؤمها أكثر تقييدًا على نحو تاريخى إنساني، مثل المفارقة بين العاطفة والطبيعة وتقديم الفرق بين تربية الريف وأحلام المدينة باعتباره مفارقة بين نزعة اجتماعية ريفية وذكاءً مستنيرًا ورغبات عاطفية/ جنسية متحررة (جونجتسو كهل فى قصة موراكامى لكنه شاب فى مقتبل العمر فى فيلم دونج، كما أن الفتاة فى القصة تربطها به قصة حب طويلة تتخللها فترات ابتعاد وفتور لكنها فى الفيلم تظهر فجأة لتتعرف عليه وتحبه بعد أن أنقذها من بئر عندما كانا «جيران» قديمًا فتأخذه بيتها وتسلمه نفسها على سبيل الامتنان) وفى المقابل الملل والفتور والمبادئ الأخلاقية التقليدية المتحفظة من خلال المظهر والسلوك الذى يصير طبيعة ثانية مرتبطة بالشخصيات بتأكيد مضاد لنزعة الإنسان الحسية التى ربما تتهذب جماليا دون إعلانها بشكل مباشر فى لعبة الحب/ الخيانة/ الجنون.

يهيئ غياب نسق الاتصال الوسيط الناشئ من التداخل المتقطع لأنساق الاتصال الداخلية والخارجية، الطبيعة المطلقة للنص الدرامى بالنسبة للمؤلف والمتلقي، وقد تأكد هذا فى (إحراق) باستخدام أضواء غامضة فى الشقة الضيقة التى تستضيف فيها هايمى حبيبها جونجتسو لنكتشف أن ما كان يظنه حبًا و إعجابًا ما هو إلا جنس يخفى الانتقام الكامن لأنها مازالت تذكر سخريته من شكلها عندما كانا جيرانا قديما فكان هذا هو الدافع لعملية التجميل التى ستغير حياتها فيما بعد تمهيدًا للقاء المطار ومفاجأة الحبيب الجديد الثرى اللامع لترى فى عينيه الذل والحسرة، إنها الآن ملك لرجل آخر. بل والأدهى أن الكاتب المغدور يزور الفتى المليونير (بين) فى بيته ويصدمه حجم الثراء الفاحش ويوقن أنه لا أمل فى استعادة هايمى.
عندما تذهب تلك الأخيرة لحال سبيلها ويقترب من (بين) أكثر يفهم سبب الجوع إلى إشعال النيران. إنه تراكم إحباطات قديمة وحب فاشل ومواقف غابت فيها العدالة الاجتماعية. لكن ليس الظلم القديم بالسبب الكافى لإشعال النيران, بل إنها تلك المنطقة البرتقالية بين الأصفر الهادئ و الأحمر الملتهب: عندما يلتقى الكاتب جونجتسو بحبيبة زمان هايمى ويجلسان معًا فى حانة تقنعه بموهبتها فى البانتومايم بتقشير برتقالة وهمية تلتهمها فى تلذذ يروق لجونجتسو لكنها تخبره بواقعية الأمور، «المسألة لا علاقة لها بالموهبة، كل شىء هنا». وتشير إلى رأسها - عقلها - وتتابع «أنت لا تتخيل أن البرتقالة موجودة ، بل تحتاج أن تنسى أنه لا برتقالة هنا!» بل إنها - بدافع الحب/ الانتقام - تصطحبه إلى شقتها ليعرف مكانها فيطعم قطتها أثناء غيابها فى الرحلة الإفريقية، لكنه لا يرى أثر تلك القطة: «هل ينبغى عليّ أن أقطع كل هذه المسافة لأطعم قطًا وهميًا هو الآخر؟!» والفيلم الذى يبدأ بخيط دخان يتصاعد من سيجارة بين أصابع جونجتسو ينتهى بحريق ضخم. وهايمى هى روح النار هى رقصة سالومى الأخيرة التى تختفى بعدها للأبد عندما لا تجد ما يكفى لتدفئة روحها التى عبثت مرارًا بالحقائق وعاشت للخيالات.

اختفت الشعلة بين الكاتب برجوازى الفكر والمليونير المتطرف الراديكالى العدمي، الذى لا يبكى والذى لا يعرف معنى الغضب أو اليأس أو الحزن، إنه ثرى وسليم وحلم لكنه وحش وآكل لحوم البشر ونار محروقة وذئب: «أنا أخترع قربانًا لنفسى وألتهمه!» فيوحى لنا أن هايمى لم تختف لكنه قتلها، أكلها! المخرج لى تشانج دو نج يبرز الخفى فى قصة موراكامى على الشاشة، فكيف يتعامل المتلقى مع شخصية جونجتسو وهو مؤلف متوحد غير قادر على التعبير عن نفسه بينما بين المتوحش قادر على التعبير عن أحط نزواته ببساطة ومهما كانت التكلفة وعندما يسأل الثرى غريمه المؤلف عن نوع الرواية التى يكتبها يجيبه هذا بأنه لا يعرف فى الواقع. فكل شىء فى العالم بمثابة لغز بالنسبة له، العالم نفسه غامض ومزيف فى نظره، إنه (علي) بطل (عودة الابن الضال) ليوسف شاهين، المثالى المتردد الذى تشتعل المصائب كلها بسبب تورط الجميع فى قصته المبهمة.

لعب يو أهين دور المؤلف لى جونجتسو، وستيفين يوين دور بين، هايمى لعبت دورها جونج سيو جون. سيناريو الفيلم كتبه لى تشانج دونج مع جونج مى لى ويصف المخرج فيلمه بأنه مستلهم كذلك من قصة لفولكنر بنفس عنوان قصة موراكامى نشرها فى 1939 وكأنها (حياة فولكنر الصبى فى عالم موراكامي). فقالها على لسان هايمي: «لا، هذا ليس كل شيء. الموهبة لا علاقة لها بالموضوع. هذا هو كل شىء». والعبارة الكاشفة أكثر من الفيلم كانت: «فى صحراء كالا هارى شعب يدعى البوشمن. يقولون إن لدى البوشمن نوعين من الجياع، الجائع الصغير والجائع العظيم. الجائع الصغير، هو من يعانى من الجوع الجسدي، أما الجائع العظيم، فهو الشخص الذى يعانى من الجوع للسبب الذى نعيش من أجله، لمعنى هذه الحياة».
