الثلاثاء 29 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كتاب يبحث مسيرته الفنية والجوانب الخفية فى حياته الشخصية

صلاح منصور.. العصفور

صفات عديدة منحها الجمهور والنقاد للممثل العظيم الراحل «صلاح منصور» ولكن لم يصفه أحد من قبل بأنه «العصفور» الكاتبة والناقدة الفنية ناهد صلاح اختارته عنوانا لكتابها «صلاح منصور العصفور – الصورة والجوهر».



أثناء بحثها عن سيرته ومسيرته وجدت أنه يملك قلبا كرقة العصافير ورهافتها.

 

 

 

يغرد ولا يأخذ مقابل نظير تغريداته، وإن سمات العصفور انعكست على مسيرته الفنية فى الخفة التى كان يقفز بها عبر أعماله، يحلق من الإذاعة المصرية إلى المسرح والتليفزيون والسينما، ومن الأدوار الصامتة العابرة إلى أدوار الكومبارس مرورا بالأدوار الثانوية التى تألق فيها وتخطى تصنيف الدور الثانى، وصولا إلى البطولة المتأخرة، ومن بهجة التشخيص الكوميدى إلى نجومية الشر التى جسدها بمستويات وتنويعات مختلفة، وتأكيدًا لرؤية الناقدة لشخصية صلاح منصور استعانت بالسطر الشعرى للشاعر «فؤاد حداد»: «لا عندى دموع اعيط، ولا عندى جناح أطير، وفى قلبى ثقل الجبل ورقة العصافير». 

تناولت الناقدة أعماله بالقراءة النقدية وبتحليل أدائه التمثيلى، إلا أنها وبسبب عدم وجود مشروع قومى لحفظ التراث الفنى، واجهت صعوبة للوصول للأرشيف الفنى للفنان كاملا. وخصوصا اعماله المسرحية والإذاعية والمتواجد مقتطفات يصعب تقييمها  واستعانت بالعديد من المراجع المختلفة.

 

 

 

هاملت بالمستشفى!

ظلت مقولة فؤاد حداد ترافقنى أثناء قراءتى للكتاب، إلى أن توقفت عند مأساة صلاح منصور الإنسان الأب المتألم الموجوع الذى فقد ابنه «هشام» بعد رحلة علاج طويلة لمرض نادر، نفد رصيده من أموال وتكفلت الدولة بعلاج ابنه بدعم ومحبة كبيرة من الرئيس السادات. ولم يتحمل فراق ابنه أصيب صلاح بالمرض الخبيث السرطان ولم يخبر أحدًا بمرضه، وظل صامتا كصمت الجبال إلى أن رحل 19 يناير 1979 عن عمر قصير 56 عاما.

وجاء مشهد النهاية بالمستشفى تحامل على نفسه وقام بغرفة المستشفى يؤدى دور «هاملت» رائعة شكسبير مع شقيقه، ذلك الدور الذى قدمه وهو شاب صغير. ربما أراد أن يبعث للموت رسالة أنه ما زال قادرا على العطاء، وربما رسالة إلى «هاملت» يبلغه أنه لم ينس أنه سبب شهرته الأولى . وكانت آخر كلماته لزوجته وابنه الأكبر مجدى أوصاهما: «لا تبكوا فقد عشت عمرى، وأنا أكره أن أرى الدموع فى عيونكم، ولن أحبها بعد موتى».

قد يكون صلاح منصور مواليد 3 فبراير 1923 أو 17 مارس 1923 أو شهر مايو دون تحديد يوم، ولكن لا خلاف على سنة ميلاده 1923، لذا صدر هذا الكتاب بمناسبة مئوية ميلاده. ابن شبين القناطر القليوبية، طفل يهوى تقليد الشخصيات الأقارب ونجوم السينما، الأب يعمل بوزارة المعارف يرفض أن يكون ابنه ممثلا، والدته داعمة له. أشقاؤه ثلاثة كل منهم اختار اسماً مختلفاً ليعملوا بالفن (محمد شعلان – جمال منصور- منصور مهدى).

 

بالإذاعة مع زوزو نبيل
بالإذاعة مع زوزو نبيل

 

انتقلت الأسرة للإسكندرية واستقرت سبع سنوات إلى أن التحق صلاح بمدرسة الثانوية، التقى بالفنان زكى طليمات مسئول النشاط بالمسرح المدرسى بالإسكندرية الذى أشاد بموهبته. مما جعل والد صلاح يوافق على أن يستمر فى التمثيل بشرط نجاحه فى المدرسة. وبالقاهرة بحى السيدة زينب أكمل صلاح دراسته الثانوية.

الخطوة الأولى الاحترافية 1938 بالمسرح المدرسى، حين تم تكليف زكى طليمات ليقدم عملًا مسرحيًا عن العلاقات المصرية الإيرانية. وقدم صلاح دور رجل عجوز بالمسرحية، وشاهد العرض الملك فاروق وإمبراطور إيران وأشادا بموهبته . كما قدم صلاح وهو بعمر 15 سنة بمسرح المدرسة «هاملت» الذى ظل رفيقه حتى آخر لحظة.

 

الزوجة الثانية
الزوجة الثانية

 

حصل على البكالوريا وبدعم من الفنان زكى طليمات منحه وظيفة محرر صحفى بقسم الفن بمجلة روزاليوسف عام 1940، وبموافقة السيدة فاطمة اليوسف زوجة زكى طليمات حينذاك. وأجرى أول حوار صحفى مع المطربة «أسمهان». وبعد مدة غادر الصحافة بحسب تصريحاته أن الصحافة سرقته من التمثيل غرامه الأول والأخير.

جمعته الأيام بعد سنوات مع المطربة أسمهان ليقدم معها مشهدا بالسينما، لم يستغرق ثوانى على الشاشة، دور محرر صحفى يسعى ليحصل على حوار من نجمة مشهورة وذلك بفيلمها «غرام وانتقام» 1944، لم يكتب اسمه على أفيش الفيلم.

 

الجواد الرابح لمخرجى الإذاعة
الجواد الرابح لمخرجى الإذاعة

 

الأب الروحى

التحق صلاح بالمعهد العالى للتمثيل (معهد الفنون المسرحية الآن) وكان ضمن فنانى الدفعة الأولى للمعهد 1947 منهم: فريد شوقى، شكرى سرحان، حمدى غيث، عمر الحريرى، عبدالمنعم إبراهيم، سعيد أبو بكر، نعيمة وصفى، عبدالرحيم الزرقانى وآخرون ووصفوه بـ«ألفة» التمثيل.

بدعم متكرر من الأب الروحى زكى طليمات أصبح صلاح موظفاً بوزارة المعارف، كما رشحه مدربا للتمثيل بالمسرح المدرسى. وعمل مع فرقة الهواة المسرحية واشتهر كفنان مسرحى. وتم تكليف صلاح بإدارة التربية المسرحية 1947 بعد ترك طليمات لمنصبه. من المسرح المدرسى إلى فرقة المسرح الحديث، ومسارح التليفزيون، والمسرح الحر، بجانب بدايات صغيرة متناثرة محددة بالسينما، بالإضافة لعمله بالإذاعة المصرية.

 

فيلم معلش يا زهر
فيلم معلش يا زهر

 

الممثل الأول

لم يكن له باب مفتوح سوى الإذاعة المصرية فكثف نشاطه وأصبحت الإذاعة ملاذه المستقل والمتفرد ابتعد عن السينما فى الوقت الذى حقق فيه زملاء الدفعة شهرة أمثال فريد شوقى وشكرى سرحان. وأخرج صلاح البرنامج الثانى (البرنامج الثقافى حاليا) وأسس مكتبتها الإذاعية المسرحية. كمخرج أخرج 11 مسرحية إذاعية مأخوذة عن نصوص عالمية منها: القرد ذات الشعر الكثيف، مارى ستيوارت، آنا كارنينا، الرحيل، عربة اسمها الرغبة.. وغيرها.

وكان صلاح يلعب دور البطولة بجميع المسرحيات الإذاعية ويجسد بالمسرحية الواحدة أكثر من شخصية. فأصبح جوادا رابحا لمخرجى الإذاعة وحصل على لقب «ممثل الإذاعة الأول» بمسابقة إذاعة صوت العرب، وايضا حصل على اللقب أكثر من مرة .

 

فيلم مع الذكريات.. دور مدبولى الأحدب
فيلم مع الذكريات.. دور مدبولى الأحدب

 

 تمكن من جذب خيال المستمع وسخر ملكاته الفنية بصوته وأدائه. وحققت له الدراما الصوتية الإذاعية شهرة كبيرة . وقدم 38 عملا بالإذاعة كممثل أشهرها: شخصية (قاسم) بمسلسل «على بابا والأربعين حرامى»، وشخصية (طبوش العكر) فى الصورة الغنائية «عوف الأصيل»، الشيخ سيد – قدم شخصية سيد درويش، وشخصية (بكري) الصعيدى المختبئ من الثأر بمسلسل «الإنسان يعيش مرة واحدة» قصة وحيد حامد (الذى تحول إلى فيلم لعادل إمام فيما بعد)، أوبريت «عزيزة ويونس»، ومسلسل «حسن ونعيمة» وكلا العملين ظهر فيهما تأثره بالبيئة الأولى الريفية.

من التليفزيون إلى المسرح

لم تكن أدواره بالتليفزيون بنفس القيمة والقدر التى قدمها بالإذاعة إلا أنها أدوار محورية قدم 21 مسلسلاً تلفزيونياً منها: الليل والبرارى، بيار الملح، على هامش السيرة، لعبة المصير، الحب الكبير، السائر وحده، ميرامار، الكنز، لعبة الكبار، رمضان والناس، أفواه وأرانب، وكان ضيف شرف فى مسلسل «أحلام الفتى الطائر».

إلا أنه مسرحجى متفرد يغرد فى مساحة تخصه، على حد وصف طليمات: «صلاح منصور ضمير المسرح وصحوته». عروضه المسرحية بعضها مفقود والموجود منها مقتطفات، قدم 43 مسرحية بمسارح مختلفة مثل مسارح التليفزيون، المسرح الحديث، المسرح العالمى، مسرح الحكيم، مسرح الجيب، ومع ذلك لم يرتبط بفرقة محددة.

 

أوبريت العقلاء
أوبريت العقلاء

 

وعن رحلته بالمسرح جاءت شهادة المخرج المسرحى دكتور عمرو دواره، أنه بدأ مع فرقة «أوبر ملك»1946، ثم فرقة فاطمة رشدى 1948 وأسس فرقة المسرح الحر 1952 مع زملاء دفعته بالمعهد، وكممثل وكمخرج قدم للمسرح: عبدالسلام أفندى، كفاح بورسعيد، الفراشة، بين القصرين، شجرة الظلم، كفر مجاهد 111 . ولم يتمكن من استكمال دوره بمسرحية «بكالوريس فى حكم الشعوب» وأسند الدور إلى يحيى الفخرانى.

وكممثل مسرحى قدم أدواراً مركبة لا تقل قيمة عما قدمه للسينما منها: الناس اللى تحت، يا طالع الشجرة، زيارة السيد العجوز، البيانو، شى فى صدرى، نافذة الوهم، زقاق المدق، الجريمة والعقاب، أوبريت ملك الشحاتين، الخرتيت (من الأعمال المفقودة). ولم يتم توظيف مهارته فى الكوميديا إلا نادرا لأن صناع السينما وضعوه فى أدوار الشر. إلا أنه قدم أدواراً كوميدية بالمسرح منها مسرحيات: برعى بعد التحسينات، خليف تجوز، حاجةتلخبط، البغل فى الإبريق، أتفضل قهوة، الحقيبة فى طنطا وغيرها.

عنبر العقلاء

دخل عالم السينما فى الأربعينيات وهو ما زال طالبًا بمعهد التمثيل وبحسب رؤية الناقدة وجدت ملمحًا كوميديا وأنه لو كان استمر بالكوميديا ‏سينمائيا كان ترك بصمة تضاف لبصماته السابقة. ومن المفارقات ظهوره الأول بدور كومبارس بمشهد ساخر ارتجالى باسكتش «عنبر العقلاء» مع إسماعيل يس بفيلم «المليونير». دور (عبدالسميع أفندي) الموظف المنافق بفيلم «معلش يا زهر»، ودور (كمال) الشاب الشرير المستأجر الذى يفرق بين زوجين «شاطئ الغرام». استمر يقدم أدوارًا ثانوية لمدة 16 عاما قدم خلالها 20فيلمًا.

 

مع ابنه هشام
مع ابنه هشام

 

انطلاقة الستينيات

قدم للسينما 68 فيلماً سينمائياً، مع بداية الستينيات وفى سنوات صلاح الأخيرة بعد أن فارقته ملامح الشباب منحه القدر أدوار تعويض عن سنوات الجهد والتعب ليقفز العصفور إلى مكانه المناسب فى المقدمة. مع المخرج صلاح أبوسيف ومع العظيمة سناء جميل قدما معا أشهر فيلمين فى تاريخ السينما المصرية وضمن قائمة أهم 100 فيلم مصرى.

الفيلم الأول: «بداية ونهاية» 1960 أول رواية تعد للسينما من أعمال نجيب محفوظ جسد شخصية (سليمان ابن البقال) الخبيث بنظرات عينيه الشهوانية خدع نفيسة (سناء جميل) ابنه العائلة المنكوبة، بعد اللطف والابتسامات جاء بالخسة وتراجع فى وعوده لها بالزواج. قال عنه الممثل العالمى عمر الشريف: «كلنا كنا عبط فى فيلم بداية ونهاية مقارنة بما قدمه صلاح منصور».

والفيلم الثانى: «الزوجة الثانية» 1967 الفيلم الأيقونى العابر للأجيال بقصته وبالجمل الحوارية مثل : يا سلام على الإنسانية.. يا سلام على الحنية .. إيه ياعمدة خسارة فيا.. لا خسارة ليا .. الليلة يا عمدة... هى حبكت..!

بدور العمدة «عتمان» قمة التألق فى تجسيد النرجسى الظالم الطاغية رمز الفساد الذى لا يخضع للمحاسبة يستغل الغلابة باسم التدين ومباراة تمثيلية بينه وبين (حفيظة) سناء جميل، ومباراة أخرى مع زميل دفعة المعهد شكرى سرحان (أبو العلا) وظهر ذلك أثناء محاولة إقناعه طلاق زوجته سعاد حسنى (فاطمة) . ومشهد (الماستر سين) موت العمدة «عتمان» حين أصيب بالشلل بعد أن عرف أن فاطمة حامل من زوجها أبو العلا، زحف من السرير إلى الأرض ليصل للبندقية وأطلق الرصاصة فى الهواء فى نفس لحظة ولادة فاطمة.

بفيلم «مع الذكريات» 1961 جسد شخصية مركبة معقدة بتفاصيلها الصعبة «مدبولى الأحدب» بطيبته وسذاجته التى جعلته محل سخرية من حوله. حين عرض الفيلم بمهرجان لندن السينمائى، أشاد النجم البريطانى «تشارلز لوتون» بطل فيلم «أحدب نوتردام» وقال: «لو صلاح منصور موجود عالمى لسلمت له الشعلة من بعدي».

ودور «سلامة» والد جميلة (زيزى مصطفى) مشهد الماستر فيلم «البوسطجى» 1968 الذى يعد أقصى أنواع التراجيديا الإنسانية، تقمص لدرجة التوحد، الأب الصعيدى قتل ابنته وصار بالقرية حاملها بين ذراعيه انتصارًا للتقاليد، بملامح متباينة الانفعالات بين القوة والحزن عليها فى نفس اللحظة. 

توالت أفلامه الناجحة بكل مستويات مساحة الدور ولحظات من الكوميديا السوداء بفيلم «اللص والكلاب» ودوره (مهدى) السجين مع زميله سعيد مهران (شكرى سرحان)، وكلاهما فيلم البوسطجى، واللص والكلاب ضمن قائمة الـ100 فيلم.

لم تخل حياة صلاح منصور من الطرافة، تعرض للقتل باليمن أثناء تصوير فيلم «ثورة اليمن» 1966 كان يجسد شخصية (الإمام أحمد) من كثرة التطابق الشكلى بينه وبين الإمام الحقيقى الذى قامت عليه ثورة اليمن، وأثناء التصوير بالشارع ظن الناس أن الإمام عاد وحاولوا قتله بالخناجر وأنقذته الشرطة.