الأحد 3 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصة قصيرة

الماراثون المئوى

ريشة: سوزى شكرى
ريشة: سوزى شكرى

-تسرب صوت انطباق عقاربها فى أذنى الداخلية وأيقظنى فى انتظار وصول ولى العهد، وتولت ساعة الحائط زرقاء اللون مع زخرفات بسيطة مناسبة لإشاعة أجواء الهدوء المطلوب أو كما تقول اللافتة المجاورة «الهدوء راحة المرضى»، وبعد خرق معاهدة الهدوء من قبل الساعة وعقاربها وكانت الأولى فى بشارتى بقرب خروج زوجتى العزيزة ومعها ولى العهد.. المولود الجديد أجدد عضو فى أسرتنا الصغيرة وبالطبع سبقت ممرضة غرفة العمليات وأن كنت لا تدرى فهى المسؤولة عن حمل البشارة تلك بقدوم ولى عهدى إلى دنيانا.



- «مبرووووووك يا أستاذ.. ألف ألف مبروووك.. ولد.. أيوه.. ولد»

«الله يبارك فيك يا ست الكل.. أومال هو فين كده».

- «هو فى الحاضنة دلوقتى بعد ما خرج من أوضه العمليات.. شوية كده وتقدر تشوفه».

«والمدام اخبارها إيه؟»

- كويسة.. زاى الفل.. قربت تفوق من البنج وتروح أوضتها العادية»

«ألف مبروووك وحمد لله على سلامتهم»

 وختمت عبارتها الأخيرة بابتسامة عريضة معهودة فى تلك المواقف، وليس على إلا الاستجابة بابتسامة مثلها وكذا ما يزيد الابتسام فى أرجاء المكان- وكله حلاوة تشريف ولى العهد.

- مرت أيام وشهور وأيضا سنوات على تلك الكلمات المكتوبة فى مذكرات والدى الغالى، ولا أعلم لماذا يساورنى نفس الشعور عند قراءتها كل مرة.. ولما أتوقف عند هذا المقطع وأطلق الضحكات بل القهقهات ولا أتوقف إلا عندما يعلو صوتها، فاخفضها خوفًا من سماع نفس سؤال والدتى «تانى ياض.... مسكت كشكول ابوك وهات يا ضحك...سيبها مكانها وكفاية ضحك بقى.».. وبرغم ذلك لم اترك هذا الكشكول إلا بعد تكرار سؤالها اكتر من عشرة مرات.

- وبعد الوصول إلى الحاضنة ومن خلف الزجاج السميك، منظر الاسره مفرح جداااااا بوجود الأطفال، فرحة بهجة وسرور يشع من مجرد النظر إلى وجودهم لا يفعلوا شيء سوى التعرف على عالمهم الجديد، الذى هو بتأكيد أضيق بكثير من الرحم، فهناك لم يشاركهم أحد، وأما الآن فصار لهم شركاء كثرين جداااااا، لم تنسنى تلك الفرحة العامة أن أبحث عن فرحتى الخاص...ابنى.. ولى عهدى فى تلك الحياة..فظلت أتجول بعيونى باحثًا عنه، لعلى اعرفه من صوته، وحاولت أن أتذكر لون الملابس التى تم شراؤها لتلك اللحظة وكان لونها ازرق، ولمعت عينى عند سطوع تلك المعلومة وفى نفس ذات اللحظة ضحكت ساخرا من نفسى لاكتشاف أن الأغلبية يلبسون نفس اللون ونفس الطقم.. ههههههههههه، وهممت بالانصراف إلى الغرفة للاطمئنان على زوجتى العزيزة وانتظار حضور ولى العهد بنفسه للغرفة منفردًا، ومع خطواتى القليلة نحو الغرفة سمعت مع كل خطوة نبضات قلبى بوضوح وأعتقد أنها لأول مرة- للصدق كانت المرة الثانية بعد شعورى نحو زوجتى العزيزة-  ومع لمس مقبض الباب هدأت قليلا، «حمد لله على سلامتك يا غالية».

- «الله يسلمك يا غالى، فين الواد»

« فى الحضانة وهيجى بعد شوية»

- «يا سلام...وسبته هناك !!!»

«بصراحة رحت اجيبه لاقيتهم كلهم لابسين نفس الشكل واللون.هههههههههه»

«يا ختااااى.ههههههه..ااه..ااه.»

«براحة عشان العملية...جيء هو..لا تقلقى»

- «طيب يا خويا..ادينا قاعدين فى انتظار حضور البيه الصغير.»

«أووووووووووك.. وماله..مفيش مشكلة».

وانقطع حوارنا مع طرقات على الباب تعلن تشريف الصغير..ودخل إلى الغرفة ووضعته الممرضة بين يدى للمرة الأولى وكانت أعجب مرة فلقد تسللت محبته فى قلبى بلا استئذان ولم تبرح حتى الآن بعد مرور عشرات السنوات وبعد أن شابًا فى مقتبل العمر له صولات وجولات وآراء ومواقف كثيرة، رايت فيه جزيئات منى وكليات منه.. كان ومازال محرك لتغيير عجيب فى حياتى.. وما زلت لا أعلم حتى الآن من كان يشبع الآخر حبًا حين كان يترمى فى حضن الآخر.. أنا أم ولى عهدى الصغير؟

-عند هذه الفقرة لم تسكت دموعى بل تنسكب هادئة دافئة وكأنها تعطينى حضن مثلما كان فى ذلك الزمن ولا زالت اتوقف عن المعنى وأحاول أن أكتشف جزءا آخر منه لعلى أشبع منه..

- وبعدما غفت زوجتى العزيزة بعدما استراح ولى العهد بعد أن اطمأن لوجودها وكذا تغذى وأخيرا صرنا وحدنا، هو فى حضنى من جديد، أتفرس فى ملامحه وكيف أن هذا الكائن الصغير امتلك جزء من قلبى وعقلى وروحى، صار هذا الجزء محفور عليه اسمه بلا منازع والى الأبد.

وكان حديثنا بلا حروف ولا صوت بل صامتًا قلبيًا خافقًا للوجدان.. بالحقيقة كان يوم وصول ولى عهدى مغير لحياتى بشكل كبير واستمر هذا الكائن الصغير الجميل ينحت طريقه فى حياتى ولازال يفعل ذلك حتى الآن.(مذكرات أب لأول مرة).

- أعتز بتلك المذكرات لأبى وبهذه المقاطع لأننى لم أعاصرها، لكن الكلمات تشع بمشاعره بلا سكوت، لتكون هذه هى بداية رحلتى فى الحياة ودخولى فى عضوية الماراثون المئوى الذى يشارك فيه البشرية كافة، فالكل يجرى ويجرى بلا هوادة حتى يصل إلى مداها فيترك المضمار ومعه ما ترك من آثار تظل فى القلوب معبرة عن وجوده فى الحياة، الحياة أغلاها حضن يفيض حبًا وأحلاها ابتسامة رضا ارتسمت بسببك على شفاه متعبة.. ليكن لهذا الماراثون المئوى معنى وقيمة.