يوميات رسام كاريكاتير فى المهجر 7
فك التكشيره
تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
عزيزى القارئ.. إليك طريقة عمل الكاريكاتير فى الفرن..
المقادير: عدد واحد موضوع – عدد واحد فكرة طازجة – أقلام رصاص مختلفة الدرجات لعمل الدراسات التحضيرية للرسم – فُرش مختلفة للتحبير والتلوين – ألوان متنوعة – ورقة بيضاء من النوع المقوى.
طريقة العمل: عمل دراسة تحضيرية على الورق المقوى ثم تقلب المقادير السابقة مع الفكرة.. ويضاف إليها تعليق ساخر مع كثير من البهجة.. ويتم إضافة التوابل حسب الطلب.. وتوثيق الكاريكاتير بإمضاء الفنان.. تترك الألوان حتى تجف فى درجة حرارة الغرفة.. ثم تقدم ساخنة، لاذعة، حارة، حريفة (مشطشطة).
قد تنجح هذه الطريقة الكلاسيكية لعمل الكاريكاتير مع البعض.. وقد لا تنجح على الإطلاق مع البعض الآخر. لأنها خلطة تحتاج إلى فنان نَفَسُــه حلو فى الكاريكاتير.. لديه الخلطة السحرية.. المليئة بالبهجة وخفة الظل.. حلوانى شرقى بالتخصص.. وشيف بيكرى يجيد المخبوزات.. يتقن كيفية اختيار المكونات وطريقة عرض الكاريكاتير وتقديمه.
ولن تجد هذه الكفاءات والمهارات سوى لدى فنانين مخضرمين بحجم الفنان مصطفى حسين والأخوين المبدعين حسن ومحمد حاكم.. وكان لهم بريق خاص بين كل من عاصروهم من رسامى الكاريكاتير. لكن هناك فنانًا ظهر لاحقًا فى أوائل الثمانينيات وكان خير خلف لخير سلف.. عاصرهم وعمل إلى جوارهم.. لكنه تميز عنهم جميعًا بخفة الظل المطلقة وعزوبة الفكرة.. وكأنه النسخة المتطورة منهم.. مثال للإبداع والإتقان والابتكار.. والامتداد لمسيرتهم العطرة فى عالم الكاريكاتير.
إنه يا سادتى الكرام الفنان محمد عمر.. ذلك الأسمر البشوش.. النحيف ذو الشعر المنكوش.. والأسنان الطويلة التى تظهر مليًا لكل من يرى ضحكته الجميلة التى تزين وجهه. هو ابن أسوان البار.. الذى نزح إلى مدينة الإسكندرية.. واستقر فى النهاية بقاهرة المُعز.. فشاءت الأقدار أن تمتزج شخصيته بنبل أخلاق أبناء النوبة، وخفة ظل السكندريين، وحرفية وديناميكية أهل القاهرة.
تميزت أعمال عمر بخفة الظل المطلقة.. ولديه قدرة غير عادية على السفر بين الحلم والواقع.. واللعب بالألفاظ ليعتصر ما بها من معان ساخرة.. ومع ذلك تجده منضبطًا جدًا.. لم يخرج يومًا عن النص.. ولم يعمل يومًا على إثارة المشكلة والبلبلة من أجل الشهرة.. حافظ على ألا يخدش حياء القراء وكأنه يحافظ فيما يقدم على الصحة والسلامة.. وجد طريقه إلى قلوب القراء عبر بوابة مجلة آخر ساعة.
وبالرغم من تطور الفنان محمد عمر فى استخدام النظائر الحديثة فى التلوين باستخدام التكنولوجيا والبرامج الجرافيكية.. إلا أنه دائمًا ما يعود إلى الطرق الكلاسيكية فى التحبير بالفرشاة واستخدام الألوان المائية لملء المساحات.. ودائمًا ما كان يسألنى: «إمتى آخر مرة استخدمت ألوان الماية؟».
ولما ضاق به الحال مثله مثل معظم أبناء جيله.. قرر السفر لتحسين الأوضاع.. فسافر إلى قطر ثم الإمارات ثم إلى عمان فى أوائل التسعينيات. وهناك عمل بجريدة الشبيبة الرياضية. وواصل إبداعه وخطف قلوب القراء بخفة ظله المعهودة.. حيث ابتدع شخصية خميس الوسواسى الكاريكاتورية الافتراضية.. الذى كان يتوقع نتائج المباريات بالدجل والبخور.. ومن المفارقة أنه كثيرًا ما كانت تصح توقعاته.. مما جعل لهذه الشخصية شعبية وأرضية كبيرة بين القراء.. بل إن بعضهم تخيلوا أنه شخصية حقيقية.. ومنهم من أرسل له بخطابات على عنوان الجريدة.. ومنهم من سأل على رقم هاتفه للتواصل معه.. وآخرون تساءلوا: لماذا لا نرى خميس فى المدرجات؟!!. لا شك أن تجربة خميس الوسواسى كانت مغامرة من نوع خاص.. فكيف تتواصل مع جمهورك من القراء.. وكيف تكسب ودهم دون أى مساس بأفكارهم وثقافتهم.. وهى تجربة ومغامرة أراها فريدة من نوعها.
شاءت الأقدار أن أتعرف على ابن عمه حلمى قبل أن أتعرف عليه شخصيًا. وكنت وقتها ضمن فريق عمل برنامج المقالب الشهير مفيناش زعل (الكاميرا الخفية) بمدينة أسوان. حيث كنت أحد الممثلين إلى جوار الفنان العبقرى إسماعيل يسرى صاحب فكرة ومخرج البرنامج والإعلامى اللامع والكاتب يوسف معاطى وتصوير د.سامح سليم.. وأذكر أن تتر البرنامج كان من غناء الفنان علاء سلام. التقيت بـ حلمى بفندق الإقامة وأطلعنى على بعض الصور من أعمال والده الفنان التلقائى إدريس (عم الفنان محمد عمر). وكانت عبارة عن أعمال نحتية مبهرة منحوته بعناية ودقة. ودعانى إلى زيارتهم بالمنزل للتعرف على والده ومشاهدة هذه الأعمال على الطبيعة. والحقيقة أنها دعوة كريمة لبيتها على الفور فى اليوم التالى مباشرة. والتقيت بهذا الرجل المبدع الذى ينحت على الحجر ويحفر على جذوع الشجر.. وأى شيء وأى خامة مهما بلغت صلابتها. كانت موضوعاته شاقة وصعبة حتى فى المعالجة الفنية.
لم أتخيل أبدًا أن بإمكان أى فنان نحت جذع شجرة ضخم وبه عدة مواقف متشعبة. عمل ملحمى به من يقتل وآخر يسرق إلى آخرة.. وكأنه لخص جحيم دانتى فى منحوتة ضخمة تلف من حولها مرات ومرات حتى تستمع بما بها من دقة وإبداع وجمال فنى. اللطيف أن هذا الفنان كان مبدعًا حتى فى اختياره لأسماء الأعمال.. فكان يسمى هذا العمل مملكة الشيطان.
وتمر الأيام وألتقى بالفنان محمد عمر فى أحد المناسبات الفنية. ليعرفنى بنفسه وبأنه إحدى أبناء النوبة. ويتطرق بيننا الحوار لأحكى له أنى للتو عائد من أسوان.. وأنى ألتقيت بفنان مهم جدًا هناك.. أبهرنى بأعماله.. ليقابلنى بابتسامة ودودة ويرد الحوار: «ده يبقى عمى». وهنا بدا لى أن كل عائلته تتميز بالفن والإبداع.
ولأنه دائم السخرية حتى من الواقع.. فدائمًا ما تجده يستتر خلف بدلته الكلاسيكية التى تضيف له رونقًا خاصًا وكأنه أحد أبناء عصر النهضة. وربما اختار لنفسه هذا المظهر الملتزم لكونه ابنًا لشيخًا كان ملتزمًا بالزى والمظهر الأزهرى الذى يتألف من العمامة والجبة والقفطان والكاكولة.
ودائمًا ما تجد محمد عمر يصرح تصريحات تبدو عادية.. لكنها غاية فى العمق والأهمية.. مثل: مفيش حاجة حقيقية!.. ودائمًا ما ينصح كل المحيطين به بنصائح مثل: اوعى تعيش لحظة مهموم. تصريحات تبدو وكأنها نابعة من مدرب للتنمية الذاتية.. وتبدو مثل حِكَم الشخص الذى لا يحمل للدنيا أى هَم.. لكنها نابعة من قلب يحمل مساحة شاسعة من الخضار والمحبة.
وأتذكر له موقفًا كوميديًا.. حيث كنا نستعد للسفر لعمل زيارة ميدانية إلى مشروع توشكى كمجموعة عمل تضم الفنانين محمد عفت ومحسن جابر ومحمد مغيث والعبد الفقير إلى الله. وذلك للتحضير لمعرض دولى يجوب العالم للترويج للمشروع. ووجهت الدعوة إلى الفنان محمد عمر للمشاركة معنا فى هذا المعرض على أن نسافر سويًا إلى مدينة أبو سمبل بالطائرة ثم إلى توشكى بريًا. وبالفعل استلم منى تذاكر السفر ذهابًا وعودة.. وتحجج بأنه سوف يسافر فى اليوم التالى لانشغاله ببعض الأعمال فى القاهرة.. وبهذه الطريقة لم يسافر معنا إلى توشكى.. فقرر أن يستبدل التذاكر والسفر إلى أسوان والتوجه إلى قرية دابود مسقط رأسه وذلك لزيارة والدته. وهو ما أصاب الفنان محمد عفت بحالة انفعالية عصبية.. فى الوقت الذى انتابتنى فيه حالة هيستيرية من الضحك.
وهكذا هى مقالب عمر.. وموقفه من الحياة.. ساخر إلى أبعد الحدود.. ضخم الموهبة.. مع أنه فى صراع دائم مع النحافة.. لكن بشكل عكسى.. وكأنه يتصارع على حصد لقب أنحف رسام كاريكاتير فى العالم.. يذكرنى دائمًا بالموقف الذى حدث بين الكاتب الساخر برنارد شو والسير وينستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة، عندما حدثه الأخير وقال: من يراك يا أخى برنار يظن أن بلادنا تعانى من أزمة اقتصادية طاحنة. فأجابه برنارد شو مباغتًا: ومن يراك يا صديقى يعلم على الفور سبب الأزمة!.. (فى إشارة إلى حجمه الضخم).
وبعيدًا عن نحافته المبالغ فيها.. تجده يطل علينا عبر بابه الأسبوعى فك التكشيرة بمجلة آخر ساعة فى دعوة حسيسة وجادة للسعادة والبهجة. وأكد جديته فى هذه الدعوة من خلال الرسم المصاحب لترويسة هذا الباب. حيث رسم بورتريهًا شخصيًا لنفسه وهو متجهم «مكَشَر». ليبقى محمد عمر الفنان صاحب مقولة «مفيش حاجة حقيقية».. هو الساخر «الحقيقى» صاحب القدرة المتفردة على صناعة البهجة (نقطة).