قصة قصيرة
«بنت الجيران»
![ريشة: هانى حجاج](/UserFiles/News/2024/07/29/60330.jpg?240731100000)
وجيه أحمد إبراهيم - باريس
كنت ألمحها صباح كل يوم تنتظر حافلة مدرستها بابتسامتها الجذابة وخصلات شعرها الأسود الجميل المنسدل حتى منتصف الظهر تتطاير مع كل نسمة هواء تأتى من شاطئ البحر فى حى لوران بالإسكندرية.
كانت حلم شباب الحى خصوصا بعد فوزها بلقب ملكة جمال شاطئ المعمورة حين كانت تعد لامتحان الثانوية العامة.
كنت على وشك الانتهاء من دراستى، وكانت التقاليد تمنعنى من التحدث إليها بدون سبب، وإن كنا نعرف أخبارنا من عائلتينا اللتين تتزاوران فى البيوت.
مرات ومرات رسمت خططا لكى أوجد صدفة تسمح لى بالتحدث معها.. لكن مواعيد باص مدرستها المتغير كانت تفسد كل محاولاتى.
وكانت الابتسامة العذبة التى تخصنى بها تلهب مشاعرى وتجعلنى أحلم، أنا الذى لا يملك شيئا، بأن نركب سويا ترام الرمل، ونكون وحدنا فى الدور العلوى منه.
وذات مساء فى شهر أغسطس التقيت بها صدفة وكانت خارجة من إحدى الكبائن على شاطئ ميامى.. شجعتنى نظرتها الرقيقة على التحدث معها، يومها شعرت بالدنيا كلها تفتح لى ذراعيها بحنان.
وبينما كنا عائدين على الأقدام فوجئت بها تسألنى:
هل صحيح أنك ستسافر لباريس؟
يومها غلبتنى مشاعرى حين تناهى لأسماعنا صوت عبدالحليم حافظ قادما من راديو على الشاطئ وهو يغنى «بتلمونى ليه» فاعترفت لها بأحلامى.
قالت لى: سأنتظرك.
لم تكن الدنيا قد علمتنى بعد معنى الكلمات السريعة.. ولم أكن أعرف أننى سوف أدفع ثمن أحلامى سنين طويلة من عمرى مع الذكريات الحزينة.
ليلة رحيلى التقينا لآخر مرة، وذهبنا سويا لرؤية فيلم الحياة للحياة فى سينما فلوريدا أمام نادى السيارات المصرى على شاطئ سيدى بشر.
وبعد أن أوصلتها توجهت لبئر مسعود وقضيت الليل وحدى أستمع لتراطم الأمواج لحظة التقائها بالصخرة.
وسافرت لباريس وخيالها لا يفارقنى فى كل مكان أذهب إليه فى عاصمة النور.
كنت أبحث عنها فى ظل كل امرأة أتعرف إليها ورغم السعادة التى كانت تملأ جوانحى وأنا أتجول فى شوارع باريس التى طالما حلمت بها وقرأت عنها فى قصص ألكسندر دوماس الأب... كنت وأنا أسير فى ممرات حديقة اللكسمبورج التى غسلها المطر، والهواء البارد يلفح وجهى أتطلع إلى العشاق على المقاعد وأحسدهم، وأحلم بحبيبتى تقاسمنى رغيف العيش والشيكولاتة.. ونحن ننتقل من شارع لشارع ومن متحف لمتحف.
كانت رسائلها لى تصل مملؤة بالأشواق والوعود، وكنت أنتظر ساعى البريد بفارغ الصبر كل يوم.
وفجأة توقفت الرسائل، وعندما استطعت أن ادخر بعض النقود عدت للإسكندرية دون أن أخبر أحدا وكان معى تذكرة طائرة لها، وهناك قيل لى أنها تزوجت من عربى ثرى... وسافرت معه لبلده... ولم أجد أحدا يقول لى كيف أو لماذا.
ورجعت لباريس حزينا.. ورغم ما حدث كان يكفى خلال سنين طويلة أن أتذكرها وأتذكر حى لوران فى أيام الشتاء الباردة حتى أشعر بالدفء.
ومرت السنوات على طويلة كئيبة.. أكثر من خمسة وعشرين عاما لم تطأ فيها قدماى أرض مصر مرة واحدة.
وذات يوم من أيام الشتاء الباريسى الدافئ، كنت أهم بركوب سيارة تاكسى فى ميدان فيكتور هيجو فى المنطقة السادسة عشرة الباريسية حين اصطدمت بسيدة اعترضت طريقى فجأة استدرت نحوها وقلت لها بالفرنسية أنا آسف يا مدام.
وفوجئت بها ترد على بالعربية.. مش فاكرنى!
تطلعت للسيدة البدينة التى تقف أمامى وحاولت أن أتعرف عليها خلف زجاج نضارتها الطبية السميكة، ترى من تكون تلك السيدة وكدت أقع مغشيا على حينما قالت لى أنا فلانة.
يا إلهى.. بنت الجيران.. حلم حياتى منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما.
لقد مرت السنوات علىَّ وأنا مازلت أحلم بجمالها، ونسيت أن تجاعيد الزمن لا ترحم.