حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة العاشرة
أخيرًا.. سندريلا تتكلم
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
أول كتاب يحمل اسمى صدر سنة 2002 ولم يكن فى تقديرى أن يصدر لى كتاب فى تلك الفترة، فقد كانت هناك هوجة إصدار كتب معظمها عبارة عن صور طبق الأصل من تقارير سرية رسمية أو من مجلات وصحف وكتب قديمة محفوظة فى دار الكتب.
بلغ مجموع ما أصدره كاتب واحد من هذه النوعية أكثر من 40 كتابًا!
لذلك اتخذت لنفسى قرارًا بتأجيل مسألة إصدار كتب لوقت لاحق.
لكن حكايتى مع تأليف الكتب تعود لسنوات طويلة منذ نهايات الستينيات، فقد كان لى صديق تعرّفت عليه فى ذلك الوقت، يعمل محررًا جديدًا فى جريدة «الجمهورية» ولعشقه للتاريخ رغم أنه تخرج فى معهد الخدمة الاجتماعية، صار يكتب عمودًا دوريًا بتوقيع مؤرخ مصرى عريق أعتقد أنه كان «الزمخشري».
وبعد فترة نجح البعض فى الوشاية به، فأوقفته «الجمهورية» ولأنه كاتب موهوب، وجد لنفسه مكانًا فى مشروع ثقافى عربى كبير هو «دار الفتى العربي» التى أنشئت من أجل المستقبل والأجيال الناشئةْ.
وكانت مهمته وضع مخططات للكتب الجديدة وتكليف الكتّاب الجدد بإنجازها، ولأنه كان يقدّر ملكاتى، فقد كلفنى بوضع كتاب عن الأزهر، ليطالعه النشء.
وجدت فى هذا التكليف نوعًا من التحدى، ورحت أجمع مادتى عبر رحلات شبه يومية إلى دار الكتب، وأجمع كل ما له علاقة بموضوع الكتاب، وأقرأ كتبًا ضخمة لأستخلص منها سطورًا وصفحات قليلة، واجتمعت لى المادة المعلوماتية الكافية بعد عدة أشهر.
وكان على أن أمضى وقتًا طويلاً آخر فى وضع التصور والإطار والهيئة التى يجب أن يخرج عليها الكتاب، ولجأت إلى أسلوب أفضّله دائمًا هو الحكايات، التى من خلالها، وبسبب ما تتمتع به من بساطة وسلاسة وإثارة، وتشويق، تكون أنسب لتقديم المعلومات فى صيغ فنية رشيقة وجذابة وبلا تصنّع أو تكلّف أو محاضرات وتنظيرات وفذلكات.
وهكذا تم كل شيء، انتهيت من الكتاب المخطوط بخط يدى، وذهبت به إلى صديقى «صلاح عيسى» الذى أسعده جهدى وطلب منى أن أعود إليه بعد أسبوعين يكون خلالهما قد عرض المخطوطة على اللجنة المختصة.
الكتاب مرفوض!
عندما عدت لم يكن صديقى موجودًا!
ترك الدار أو أعيد إلى عمله فى «الجمهورية».. لا أتذكّر الآن تحديدًا، لكن قابلنى شخص آخر عرّفنى بنفسه بطريقة متعالية، قبل أن يعلننى أن كتابى مرفوض، سألت مندهشاً: لماذا؟..هل هناك ملاحظات يمكن مراجعتها؟..
جاء رد الرجل وكان اسمه على ما أذكر الآن أحمد نوار(ليس زميلى فى كلية الفنون الجميلة الفنان التشكيلى طبعًا، ولكن شقيق الكاتب الصحفى إبراهيم نوار رئيس تحرير «الجمهورية» فى ذلك الوقت): لا.. لقد تغيرّت خطط النشر التى وضعها الأستاذ صلاح، ولم يعد هذا الكتاب موجودًا فى الخطة الجديدة.
قلت: وما العمل الآن، لقد كلفت من قبل الدار بوضع هذا الكتاب؟!
رد بهدوء آلمني: كلّفك صلاح عيسى، وهو لم يعد معنا..
عرفت من صلاح فيما بعد، كل شيء، عاد هو إلى عموده فى الجريدة، وجاء شقيق رئيس تحريرها ليحل محله، ويمسح كل أثر له فى الدار!
وكانت هذه أول «علقة» لى مع تأليف الكتب، والحقيقة أنها صدّت نفسى، فلم أفكر حتى فى تقديم مخطوطة الكتاب لأى ناشر آخر.
لكن كان لهذه التجربة جانبها المشرق، فقد عرفت من خلالها طريقى إلى دار الكتب.
شهدى عطية
مرت عشر سنوات وأصبحنا فى نهاية السبعينيات، ووجدت نفسى للمرة الثانية متورطًا بشكل عاطفى وأيديولوجى فى وضع كتاب عن أحد أبرز وأنبل قادة الحركة الوطنية فى مصر، «شهدى عطية».
شاءت الظروف أن أتعرّف إلى أرملته، وهى سيدة رائعة، مصرية يونانية هى «مدام بتريدس» وكانت تملك وتدير معرضًا مدهشًا فى حى الزمالك، للفنون والمشغولات اليدوية من منتجات الحرفيين الأصليين، وأيضًا للوحات تشكيلية ومنحوتات.. وأزياء شعبية مصرية.
تمنت علىّ هذه السيدة الرفيعة أن أحقق لها أمنية عزيزة هى وضع كتاب عن حياة وأعمال زوجها الراحل أحد رموز الوطنية المصرية.
ويسرت لى كل ما يمكن من وثائق ومعلومات وشخصيات وأقارب ورفاق لشهدى.
ووضعت 500 جنيه فى يدى تحت حساب مشروع الكتاب.
وبدأت أعمل وأكتب وألتقى بأناس وأجمع شهاداتهم.
كنت متحمسًا، لكن ظرفًا خاصًا طرأ على حياتى حال بينى وبين مواصلة هذا المشروع، للأسف، فقد كان لابد لى أن أغادر مصر مصاحبًا لزوجتى فى بعثتها الأكاديمية إلى لندن، لخمس سنوات!
فى نهاية 1980 سافرنا ومن وقتها حتى الآن نعيش هناك، ونأتى إلى الوطن فى زيارات، خاصة فى موسم معرض القاهرة الدولى للكتاب.
هل انتهت حكايتى مع وضع وتأليف الكتب؟
طبعًا لا، فبعد نحو عشر سنوات أخرى أو أكثر، وجدت نفسى متحمسًا لتجهيز كتاب تذكارى عن صديقى الناقد والمؤرخ الثقافى الراحل الدكتور على شلش، بعد وفاته المفاجئة، وكنا قد تعارفنا قبل ذلك بحوالى 20 عامًا عندما كان يعمل فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» كما كنا نشترك فى رحلات إلى الأقاليم ينظمها لنا الكاتب المسرحى سعد الدين وهبة عندما كان يرأس هيئة الثقافة الجماهيرية، لحضور عرض مسرحى هنا وهناك.
ومرت سنوات لنلتقى بعدها فى لندن حيث يعمل فى القسم العربى من إذاعة «بى بى سي».. وبعد سنوات كنا نكتب أسبوعيًا فى مجلة خليجية.. وجمعتنا صداقة عائلية حميمة شملت زوجته الأمريكية وزوجتى الإسكندرانية، حتى أنه اختار أن أكون أبًا روحيًا لابنتيه.
وفجأة خلال مؤتمر ثقافى فى القاهرة كان مدعوًا للمشاركة فيه، مات على شلش، وأصابنا حزن بليغ، فرأيت أن نجمع المقالات والدراسات التى كتبت عنه ليضمها كتاب، وبذلت جهدًا فى التجميع والاتصالات وساهم أصدقاء مشتركون فى هذه المهمة، لكن حال دون صدور الكتاب عدم قدرتنا على دفع تكلفة طبعه الكبيرة.. فمات المشروع.
نعود لأول كتاب لى، والحقيقة هى أنه لم يكن كتابًا خططت لإصداره، لكنه صدر بناء على رغبة قراء «صباح الخير» الذين كانوا يتابعون الحلقات الـ18 من حديثى الطويل الذى أجريته على مدى نحو خمس سنوات، مع الفنانة التى لا تتكرر صديقتى التى يحبها ملايين المصريين والعرب، وأنا أولهم: سعاد حسنى.
كانت وبترتيب من رؤوف توفيق رئيس تحرير «صباح الخير» وقتها قد اقتنعت بعد أن عذبتنا ستة أشهر، كانت فيها مترددة وتخشى أن ينظر الناس لهذا الحديث كما لوكان تمهيدًا لاعتزالها الفن.
وعندما أقنعتها بأن حديثنا سيتناول المستقبل ومشروعاتها الفنية المقبلة بجانب حكايات الماضى، وأننى أجرى معها هذا الحديث بهدف تحقيق التواصل بينها وبين جمهورها الذى غابت عنه بسبب انشغالها فى علاج إصابة خطيرة فى العمود الفقرى، وافقت لكن اشترطت علينا ألا ننشر شيئًا إلا بعد أن تأتينا موافقتها.
ووافقنا.. وطال الانتظار.
ولم يصدر عنها ما يعطينا الضوء الأخضر.
وحدث ما حدث من جريمة قتل سعاد حسنى التى يعتقد البعض أنها انتحرت. ورحنا رؤوف توفيق وأناـ نبكى خلال حديثنا على التليفون، وكان علىّ أن أجاهد نفسى وأحزانى وأبدأ تفريغ الأشرطة ونشر محتوياتها كل أسبوع، وحدث إقبال منقطع النظير فى تاريخ «صباح الخير» على هذه الحلقات، حتى أن مدير المطابع أعلن أنه يستخدم أقصى طاقة المطابع 250 ألف نسخة لملاحقة الإقبال الشديد، ومع ذلك اشتكى بعض القراء من أن أعدادًا فاتتهم ولم يعثروا عليها لدى الباعة، وطالبونا بأن نجمع كل الحلقات فى كتاب، ليحتفظوا به. فكان كتابى الأول «سعاد حسنى. سندريلا تتكلم».
أتذكر الآن أن نشر الحديث الذى أجريته مع شاهندة مقلد جاء ضمن ملف خاص عن الانتخابات اشتركت فى إعداده مع زملاء آخرين، نشرت أسماءنا بالترتيب التالي: علاء الديب – نجاح عمر- منير مطاوع، وفق الأقدمية وربما لأن علاء هو الذى أشرف على الملف مع أن نجاح عمر هى الأقدم، المهم أنه بعد ذلك بفترة قامت اللجنة النازية المسماة «لجنة النظام» فى الاتحاد الاشتراكى بعزل علاء الديب ومنعه من العمل، دون إعلان السبب.
وكان السبب الذى لم تذكره اللجنة هو نشر الحديث مع المرشحة المنافسة لزين السادات، لكن لماذا عزل علاء الديب مع أنه ليس من أجرى الحديث؟!
لقد أوحى وجود اسمه على رأس الفريق الذى أعد الملف بأنه هو - وليس أنا- من ارتكب الجرم!
وهكذا ودون قصد منى تسببت فى الأذى الذى أصاب صديقى العزيز علاء الديب، وقد التقيته فيما بعد واكتشفنا معًا غباء لجنة مطاردة كل من لا يعجب السادات.
فى الأسبوع المقبل نواصل