الخميس 28 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة التاسعة

يا «درش» أنت أكبر من أى دكتوراه!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

أعود لحكاية تعيينى سكرتيرا للتحرير على غير رغبتى، كنت وقتها فى الإسكندرية أعمل من هناك خلال الصيف، وجاء رئيس التحرير حسن فؤاد ومدير المؤسسة لويس جريس، فى نهاية الأسبوع والتقيتهما عندما أبلغنى جمال حمدى مدير مكتب الإسكندرية أنهما يبحثان عنى، وبطريقة تدريجية أوصلانى إلى فكرة أننى مطلوب لمهمة إنقاذ موقف، هى أن أقوم بعمل اثنين معا، هما سكرتيرا التحرير اللذان لم يعد هناك مفر من تركهما لهذا العمل، وليس هناك من نعتقد أنه قادر على القيام بهذه المهمة المزدوجة غيرك.

وعندما جاء وقت الاستماع إلى رد فعلى على هذا العرض الذى لم يخطر ببالى من قبل، قلت أننى سعيد بما أنا فيه الآن، وأفضّل العمل بحرية وتلقائية ولا أحب الأعمال الإدارية التى ستعطلنى عن الانغماس فى حياة الناس.. 

نبهنى أستاذى حسن فؤاد، أن هذه فرصتى للصعود فى المراكز القيادية، وحيا نشاطى وأفكارى وردّد أن قبولى معناه أننى سأضحى من أجل الحفاظ على مستوى المجلة، ألا تحب «صباح الخير»؟!

جاءت إضافة مهمة من مدير المؤسسة هى أننى سأتقاضى ما يساوى ثلاثة أضعاف راتبى الحالى

أضعف موقفى الكلام عن حبى لـ«صباح الخير».. ومسئوليتى تجاهها، وبدأت أشعر أننى لا أستطيع الرفض. وزاد من وطأة الموقف العرض المالى السخى

سكت قليلا، ثم قلت: لا مفر من القبول مع أننى أفضّل الصعلكة.. لكن لى شرط واحد. 

هتفا فى نفس واحد: ما هو؟

قلت: أن تكون لى السلطة الكاملة على العمل، دون تدخّل من أحد، وأن يكون الحساب مع رئيس التحرير كل شهر وليس كل يوم أو كل أسبوع، حتى أستطيع أن أحقق أعلى مستوى فى الأداء.

ضحكا وهما يرددان ما معناه أنهما توقعا شرطًا أصعب من ذلك. 

ووقعت فى المصيدة، أصبح عليّ أن أقوم بعملين، أحدهما فى النهار، والآخر فى الليل وآخره.

كان حسن فؤاد مطمئنًا تماما لحسن اختياره، وكان يعتمد عليّ ويفسح لى المجال لإظهار قدراتى، وأعتقد أننى كنت عند حسن ظنه، ويكفى أنه أكثر من مرة قرر منحى مكافآت إضافية فوق مرتبى الكبير، تقديرا لإجادتى .

 

 

 

من أجل المصداقية

 

وكان أول ما قمت به هو تحديد مواعيد دقيقة لتسليم المواد والمقالات، فيها قدر من المرونة مع قدر مناسب من الانضباط، بما يتناسب مع دورة الإنتاج والطباعة. 

ووجدت نفسى ألزم نفسى ببعض الشروط التحريرية، فلا ينشر لقب «دكتور» مثلا سابقا لاسم كاتب لا يحمل درجة الدكتوراه. ومنطقى فى هذا هو أن ذلك يمنحنا مزيدا من المصداقية أمام القراء. 

وبدأت بتطبيق ذلك على أحد أبرز كتاب «صباح الخير» مصطفى محمود. وله مقال على صفحتين أو أكثر فى كل عدد، وفى ليلة إعداد المقال للنشر، وجدت اسمه مسبوقا بلقب «الدكتور» على بروفة المقال، فشطبته، وصدر العدد وقد فقد «مصطفى محمود لقب» الدكتور».. فماذا جرى؟!

فى العادة لا يحضر مصطفى محمود إلى المجلة إلا نادرا، فليس له مكتب، لكنه حضر خصيصًا بعد صدور هذا العدد بالذات، ولم يلق تحية الصباح على أحد، كان متجهما، على غير عادته كرجل مشهور بالمرح والمداعبات..وارتداء البنطلون الشورت، واتجه فورا إلى مكتب رئيس التحرير، وتجاهلنى فلم ينظر نحوى

وعرفت فيما بعد أن أحبابه فى المطبعة، أبلغوه بالأمر لحظة وقوعه. وسمعت صوته يرتفع فى غرفة مكتب رئيس التحرير حسن فؤاد، ثم مضت لحظات صمت لم يصدر فيها صوت يمكن سماعه من خارج المكتب، ثم فجأة خرج مصطفى محمود مبتسما وحيا جميع من لقاهم فى طريقه، إلا أنا، نظر فى الاتجاه الآخر عندما عبر أمامى!

واستدعانى رئيس التحرير، وكانت ابتسامة خفيفة تلف وجهه اللماح، وسألني: لماذا لم تخبرنى بقرارك العجيب هذا؟

قلت إنه كان لبن اللحظة وكنا فى وقت متأخر من الليل.

 

 

 

 

قال: أنت أقدمت على ما لم نكن نقدر عليه يا عزيزى فـ«درش» هذا صديقنا وعشرة عمر، ونحن لا نرفض له طلبا، وهو يكتب اسمه مسبوقا بلقب لا يحمله، فهو طبيب وليس من حملة الدكتوراه، وكان هذا يحرجنا مع الدكاترة أصحابنا أساتذة الجامعة حملة الدكتوراه.

قلت: لكنه خرج من مكتبك مسرورا مع أنه دخله غاضبا، فروى لى أستاذى رئيس التحرير الموهوب، كيف تعامل مع المسألة، قال إنه لاحظ أن «درش» كان متحيرا فى طريقة عرضه للموضوع، فسألته عما يحيره، فقال متسائلا: هل لاحظت أننى لم أعد الدكتور مصطفى محمود؟!.. كان منفعلا ويكاد يصرخ فى وجهى، ولم أفهم ما يقصده، لم يكن لديّ علم بما جرى. ففتح المجلة على مقاله وأشار إلى اسمه المكتوب بخط عريض.. كان اسمه فقط دون ألقاب، ففهمت ما قصد، وقلت له على الفور: يادرش ياحبيبى هو فيه كام مصطفى محمود فى مصر.. أنت أكبر من أى لقب.. البلد مليانة دكاترة فى كل الجامعات، ومش ناقصة دكاترة، لكن فيه مصطفى محمود واحد بس. الحقيقة أنك لازم تشكرنا مش تشتكى. جرى إيه يا«درش».. أجيب لك قهوة؟

ومن يومها لم يعد اسم مصطفى محمود ينشر مسبوقا بلقب «الدكتور».. ولم يعد هو يكلّمني!

حكاية أخرى من حكايات عملى كسكرتير تحرير، سأضطر إلى ذكرها دون اسم بطلها منعًا للحرج..

كان من طبيعة عملى أن أراجع بعض المواد وأختار لقطات من مجلدات «صباح الخير» القديمة قبل سنوات وسنوات، لإلحاقها بالموضوع، فمثلا موضوع عن الحب فى منتصف السبعينيات، ورؤية البنات والأولاد له، يحتاج لمادة نشرت عن الحب فى منتصف الخمسينيات، لدعم الموضوع وللمقارنة بين الحالتين والجيلين..

 وكنت أسهر فى الليالى التى لا تكون فيها مراحل الطباعة قد بدأت وأقوم بهذا العمل، وفى ليلة، كنت أفر صفحات مجلد مرت عليه عدة سنوات، فإذا بيّ أجد موضوعا بنفس عنوان مقال كتبه زميل لنا من كتاب الأبواب الثابتة كل أسبوع وسلمه لى صباح هذا اليوم. زميلنا يكتب موضوعات تلف وتدور حول أمور نفسية وتبدأ كما تنتهى، ويكتب بخط كبير جدا حتى أن الصفحة الواحدة من أوراق الموضوع لا تحمل أكثر من عشر سطور، وكما قلت فأول كلامه مثل آخره، وكنت اسمى كتابته بأنها مثل الكنافة، تتشابك وتتداخل فتجد نفسك كقارئ تائها وسطها. 

 

 

 

كان الوقت متأخرا فى الليل، وكنت مجهدا، وظننت أننى ربما وتحت تأثير الإرهاق أتخيّل أن الموضوع الذى سلمته ضمن غيره للمطبعة هذا الصباح، هو نفسه بالعناوين نفسها وللكاتب نفسه، ومعه صورته، المرسومة له فى شبابه، نفسها، هو مارأيته منشورا فى عدد قديم من المجلة نفسها فى المجلد الذى بين يدى، قلت إن الحل البسيط هو أن أحتفط بالمجلد فى مكتبى وأضع علامة من ورق الماكيت على الموضوع المنشور، وفى الصباح أطلب ماكتبه وسلمه لى صاحب الموضوعين، فأتأكد من الأمر وأنا فى حالة نشاط بعيدا عن الإرهاق.

وحدث.. فى الصباح بعث لى مراقب المطبعة بمخطوطة المقال الجديد الذى لم يتم تصحيحه بعد.. وفتحت المجلد، على الصفحة التى حددتها ليلة أمس، وكانت صدمتى الكبرى، المقال هو نفس المقال، والكاتب نفسه... والنص كما هو.. قرأته وقارنته بالجديد، هو هو.. والفارق بينهما عدة سنوات!..

ما العمل؟.. قررت ألا أخبر أحدا بالأمر، فقط رئيس التحرير عندما يأتى.وطوال الوقت كان رأسى مشغولا بهذه الواقعة الخطيرة.. وأعتقد أن انشغالى هذا أثر بدرجة ما على أعمالى هذا الصباح، فقد كنت أفكر أننا لو قمنا بمراجعة مجلدات أخرى فقد نجد مصائب. 

وجاء رئيس التحرير، وبعد الأعمال المعتادة، جلست معه وفى يدى المجلد مفتوحا على المقال القديم وتتوسطه مخطوطة المقال الجديد. وأطلعته على الاثنين معا. فأصيب بدهشة بلغت بلا مبالغة حد الذهول.

وبعد أن أخذ نفسا شهيقا طويلا كعادته قبل اتخاذ أى قرار، سألني: هل يعرف أحد غيرك بهذا.. هل أبلغت أحدًا غيرى؟..

لا طبعا.

 - جميل.. إذن اترك لى الأمر ولا تقل أى شىء لأى أحد. ولا تكلّم المحرر فى الموضوع، سأتصرف بنفسى فى الحكاية كلها، لا أصدق عينى، هذا ابننا الذى دللناه طويلا.. ماذا جرى له؟.. 

عندما جاء كاتب المقال، أبلغته سكرتيرة رئيس التحرير أنه مطلوب عنده، وكان قد دخل مبتسما وحيا السكرتيرة ولمّح لها بإعجابه بأناقتها اليوم..فلما سألته مستنكرة: اليوم بس؟!.. ردّد وهو يدق باب الأستاذ حسن فؤاد: وكل يوم ياست الكل.

. هدوء تام ساد المكان، لم تكن السكرتيرة تعرف لماذا هو مطلوب اليوم.. فلا أحد غيرى يعرف

مضى بعض الوقت سمعنا فيه صوت كاتب المقال، دون سماع ما قال.. 

وبعد فترة طالت قليلا، خرج الكاتب مكفهر الوجه وقد تفجرت لديه رغبة فى العراك.. واتجه فورا نحوى. مكتبى يجاور غرفة رئيس التحرير، وهو مكتب عريض ومغطى بالزجاج (للصدفة المدهشة تبين لى أنه كان مكتب الرجل الذى لم يفقد ظله، رئيس تحرير «صباح الخير» السابق فتحى غانم، الذى اكتشفنى).

اندفع الكاتب الذى انكشف أمره، نحوى وخبط زجاج المكتب بحدّة فكسره ومن شدة انفعاله أصيب فكه بنوع من التجمّد والتشنج، وراح يسب ويلعن من يطارده ويكرهه ويسبب له المتاعب ويريد أن يتخلّص منه، واتهمنى بكل هذه التهم,

جاء السعاة وجاء زملاء أذكر منهم الفنان محمد سليم المشرف الفنى، ومساعده رسام الكاريكاتير رمسيس، وسحبوه إلى غرفة أخرى.

وذاع الأمر بين الجميع، وحاولت بكل ما أملك من أعصاب أن أحافظ على هدوئى، فجاءنى من يقول إن زميلنا كاتب المقال أصيب ذراعه بجروح نتيجة تشنجه وخبطه زجاج مكتبى، وأيضا أصابت فمه حالة شد عصبى. وأنه غادر بحثا عن علاج.

بعد فترة سنحت لى فرصة الإلمام بماجرى داخل مكتب رئيس التحرير، فقد قال لى إنه قرر وقف زميلنا هذا عن العمل لمدة ثلاثة أشهر، على أن يتقرر فيما بعد ماذا سيتم بشأنه.

واقعة طريفة

ومن وقتها شاع أننى شديد التدقيق فى عملى وأننى لا أسمح بأى تهاون أو إهمال وأن المواد تمر عليّ لأتأكد من صحة المعلومات وحسن اللغة وضبطها.. لكن واقعة طريفة حدثت، فذات مساء كنت أجلس مع صديقى فنان الكاريكاتير المتفوق على نفسه «حجازى» هو يرسم ويدردش من وقت لآخر، وأنا أشاركه الدردشة فى انتظار أن تخطرنى المطبعة ببدء طبع ملزمة وحاجتهم إلىّ لمراجعتها قبل الطبع.. بعد قليل ظهر لويس جريس، موجها الحديث إلىّ بأن مراقب المطبعة يشكو من تدقيقى الزائد فى كل شىء.!!

وواصلت دردشتى مع حجازى

واقعة أخرى لا أنساها، فقد تخلّف مفيد فوزى عن موعد تقديم باب «شئ ما» المتفق عليه، وفق ترتيبات تنظيم العمل، وشعرت أن هذا التصرف قد يكون مقصودا بهدف كسر النظام الذى كنت مصمما على سريانه.. أو ربما لتعوّده هو وغيره على أن تكون المطبعة فى انتظارهم حتى آخر لحظة، ماذا فعلت؟

 

 

 

قررت أن أكتب بنفسى «شئ ما» بتوقيع «نادية عابد» هذا الأسبوع. وقلبّت أفكارى فوجدت أننى وصلت المجلة منذ وقت قصير فى «تاكسي» تقوده امرأة جميلة، وأننى لانبهارى بالمشهد كله رحت أحاورها عن عملها فى أسئلة متلاحقة تتابعت أجوبتها عليها إلى أن وصلنا المجلة فدعوتها لتناول فنجان قهوة معى، لكنها اعتذرت لضيق وقتها والتزامها بالعمل الآن حتى لا يتأخر الوقت فهى تنهى دورتها على التاكسى مع غروب الشمس، ولا تحب العمل ليلًا!ا 

كتبت هذا الحوار وبعثت به إلى المطبعة لينشر باسم «نادية عابد».

وعندما صدر العدد الجديد، فوجئ مفيد فوزى بأن ما بعث به متأخرا، لم ينشر، وأن مادة أخرى منشورة بدلا منه!

بالتأكيد تحرى الأمر وسأل من يمكنهم أن يخبروه بماجرى، وعرف أننى كاتب حوار سائقة التاكسى الشابة الجميلة الجادة.. لم يتجه نحوى، ولم يسألنى عمّا حدث، ترفّع عن هذا، واتجه فورا إلى رئيس التحرير، مستنكرا ماحدث، مكرّرا أننى أمارس تسلّطا على الجميع، وأن هذا غير مقبول. 

ماذا كان رد رئيس التحرير الموهوب حسن فؤاد؟

عرفت فيما بعد أنه عبّر له فى البداية عن مساندته وكرّر له أن «نادية عابد» من أهم الأسماء فى المجلة، ثم انتقل به إلى حديث عن القيم التى تدعو إليها «نادية عابد» ومنها قيمة الالتزام والانضباط وإجادة العمل وحسن التوقيت حتى تتواصل دورة العمل ودورة الحياة، وهذا ما يفعله صديقنا سكرتير التحرير الشاب، وأرجوك يا مفيد أن تساعده وقل للجميع أن يستفيدوا من الوضع الجديد.. 

وخرج مفيد فوزى ولم ينبس ببنت شفة!.

 فى الأسبوع المقبل نواصل