غسان شربل
حديث استقرار على ضفاف النيل
أتحاشَى زيارةَ مقرِ جامعةِ الدول العربية على رغم خيطِ الودِّ الذى ربطنِى بمن تناوبُوا على قيادتِها فى القرن الحالي. الصّحافى زائرٌ ثقيلٌ بطبيعة مهنته. وارتبطتِ الجامعةُ فى ذهنِى بصورةِ قاربٍ يبحرُ فى بحرٍ عاصفٍ من الأزمات والتحديات والحساسيَّاتِ ومن دون تسليحِه بما يكفى لجبهِها. فالجامعةُ العربية، كمَا مجلس الأمن الدولى، تستعير قوتَها مما تضخُّه الدولُ العربيةُ البارزةُ فى عروقها. وفاقُ كبار اللاعبين يرفدُها بالقوَّة والدور، وغيابُه يقصر دورَها على توزيعِ التَّمنياتِ والضماداتِ والتذكير بالمبادئ.
هذه هى الأفكارُ التى راودتنى فى الطريق إلى مكتبِ الأمين العام أحمد أبو الغيط. كانتِ الزيارةُ للمجاملةِ، فأنا أشعرُ بأنَّ شاغلَ هذا المنصبِ يتعذَّبُ كثيرًا كلَّما حدَّقَ فى مكتبِه بخريطة العالمِ العربي. وكانَ أبو الغيط كعادتِه لطيفًا ورحبًا وراقيًا علاوة على كونِه قارئًا نهمًا.
لن أنقلَ عن الأمينِ العام كلامًا محددًا لأنَّ اللقاءَ لم يكن مخصصًا للنشر. استوقفنى فى كلامِه قلقُه من الوضعِ الدوليِّ الحالى الذى يحسنُ بالعربِ الالتفاتُ إليه. إنَّه وضعٌ دوليٌّ شديدُ الخطورة، لأنَّ الخطأ المكلفَ يبقى واردًا سواء على الساحة الأوكرانيةِ أو فى محيط تايوان. وكلُّ هذا ينعكس فى الشرقِ الأوسط حيث تواصلُ الحرائقُ اشتعالَها، وينذر بعضُها بمزيدٍ من الالتهاب.
فى الفندقِ المقيم على شفير النيل قالَ صديقٌ يمنيٌّ إنَّ الانهيار فى بلاده لم يكن قدرًا محتومًا. وقال إنَّه بحكمِ ملازمته للرئيس الراحل على عبد الله صالح يعتقد أنَّه كانَ باستطاعةِ الأخير الإفادة من أوراق عدة لولا «نصائح» زائرةٍ صعبةٍ اسمُها هيلارى كلينتون. أضاف أنَّ إدارةَ أوباما كانت اتخذت قرارًا بإزاحة حسنى مبارك وعلى عبد الله صالح لمصلحة ما توهَّمت أنَّه «إسلام معتدل يمكن تسويقُه». اعترف بأنَّه لا يرى ضوءًا فى آخر «النَّفق اليمنى الرهيب»، مشيرًا إلى أنَّ مصرَ قدَّمت خدمةً هائلة لنفسها وللمنطقة حين «أنقذت نفسَها من النَّفق الإخواني». وقال: «هل لك أن تتخيَّل وضعَ مصرَ والمنطقة لو استمرَّ حكمُ محمد مرسى وتمزَّقت مصرُ وتطاير الشَّررُ فى كلّ اتجاه؟».
ذكرنى حديثُ الصديقِ اليمنى بأنَّنى كنتُ فى القاهرة فى مهمةٍ صحافية بمنتصف يونيو (حزيران) 2013، وقبل أيامٍ من المظاهرات الضخمة التى غيَّرت مصيرَ مصرَ وشيَّدت جدارًا أمام «الموجة الإخوانية».
تذكَّرت عباراتٍ سمعتُها فى تلك الأيام التى سبقت إزاحةَ مرسي. قال عمرو موسى إنَّ مصرَ على وشكِ الانفجار وإنَّ «الإخوان لم يصنعوا الثورة لكنَّهم انضمُّوا إليها وقطفوا ثمارها»، مشددًا على أنَّ «الدولة الدينية ليست فى مصلحة مصر». وسمعت من محمد البرادعى أنَّ «الإخوان سرقوا الثورة وفشلوا بامتياز». وأضاف: «التقيت مرسى فى القصر وصارحته وشعرت بغياب الصدقية ويئست منه». وسمعت من حمدين صباحى أنَّه التقى المرشحَ محمد مرسى وسأله: هل ستكون رئيسًا مستقلًا فى حال فوزك؟ «فعجز عن الإجابة ورد: أريدك معى نائبًا للرئيس». أمَّا أحمد شفيق الذى التقيته خارج مصر فقد اتَّهم «الإخوان» بأنَّهم «سرقوا الثورة والرئاسة معًا».
ولأنَّ المهنةَ تقضى بسماع الرأى الآخر قصدت مقر حزب «الحرية والعدالة» الذراع السياسية لـ«الإخوان». لم ألمس أثرًا للقلق لدى سعد الكتاتنى الذى دعانى مبتسمًا إلى صورة تذكارية معه ومع بعض أركان حزبه وزائريه.
ذهب عصام العريان أبعدَ من الكتاتنى فى الطمأنينة. لم يتوقَّع فقط أن يكملَ مرسى ولايته؛ بل أن يفوز أيضًا بولاية ثانية. قال لى واثقًا إنَّ 30 يونيو سيشهد مظاهرات سلمية ولكنَّه سيكون «يومًا عاديًا». لم يشعر بالغليان الذى كان يمسك بمشاعر الخائفين على الاستقرار ومن محاولة «إدخال عناصر جديدة على هوية مصر».
تذكَّرت أيضًا ما سمعته من محمد حسنين هيكل. قال إنَّه التقى مرسى وخرج بانطباع أنَّ «الإخوان» لا يملكون «رؤيةً واقعية ولا برنامجًا واضحًا ولا يمتلكون أيضًا كوادرَ مؤهلة لإدارة بلد بحجم مصر»، معربًا عن اعتقاده أنَّ المعركة السياسية ستكون صعبة والمهم ألا تؤدى إلى زعزعة ركائز الاستقرار.
يلتقى فى القاهرة وافدون من بلدان قامرت بثروة الاستقرار وخسرتها. من حسنِ حظِّ مصرَ أنَّها مستقرة بفضل يونيو 2013 وأنَّها تحاول إطفاءَ الحرائق المشتعلة فى محيطها وهى مهمةٌ حيويةٌ وشاقة. فالأمنُ الحقيقى مشروطٌ بالاستقرار والأمر نفسُه بالنسبة إلى الازدهار.
نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط