الأحد 8 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قراءة فى رواية باب العمود لنردين أبو نبعة

حانية ورود الدار

نردين أبو نبعة
نردين أبو نبعة

«باب العمود» رواية مهمة للكاتبة الفلسطينية نردين أبو نبعة، وهى تهديها إلى الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال الإسرائيلى.



الرواية صدرت حديثًا عن دار كتوبيا للنشر والتوزيع بالإسكندرية- مصر.

والرواية تصوِّر قصة حب بين «ماهر» و«بهية»، حب استمد عمقه وقوته من ارتباطه بقضية الانتماء إلى الأرض، «بهية» تعشق مدينتها «القدس»، تردد ما تحفظه عن والدها من أناشيد وطنية تتغنى بالمدينة المقدسة، وبالمسجد الأقصى، تستعيد صوت أبيها الذى قضى سنوات كأسير فى سجون الاحتلال وهو يقول: «يا أقصى ما أنت وحيد.. سَيَّجناك بعيونا» أما «ماهر» فقد عاش فى «عمان» طفولته، وهزته مذبحة الحرم الإبراهيمى، زلزل هذا الحادث وجدانه فتمنى أن يعود إلى مدينته «القدس» ليحيمها ويدافع عنها فيقول: «فى كل يوم كنت أتمعن فى صورة منفذ العملية الوحشية «باروخ غاولدشتاين» الذى استطاع، وفى أقل من عشر دقائق أن يصوِّب زخات من الرصاص على رؤوس المصلين، ورقابهم وظهورهم ليصيب أكثر من ثلاثمئة وخمسين بين شهيد وجريح».

ويستعيد تلك اللحظات القاسية التى أدمت فؤاده فيقول: «لو كان لى الخيار لذهبت الآن إلى فلسطين، ولكنت شخصًا آخر، يومها شعرت بقلب أمى يرتجف، تعلقت نظراتها بى، كانت تبحث فى عينى عن ذلك الطفل لكنها لم تجد سوى وهج جمر يشتعل، وغضب مُقيد فى قلب طفل مُقيد».

 

غلاف الرواية
غلاف الرواية

 

وتحقق حلمه فى العودة إلى القدس، عندما سافر أبوه لرعاية الجدة المُسنة وقرر الأب أن يعيشوا جميعًا فى القدس، التى كان يحن إليها فى أشعاره، ويكتب لها رسائل شوق وحنين فيقول:

«يا قدس/ طويل ليل البُعد/ وحانية ورود الدار/ حينما تُغرم بالغياب».

ويصف لبهية فى رسائله كيف رأى «القدس» بعد غياب، كيف عانق مدينته، واكتشف بنفسه وطأة الاحتلال، فيقول لها: «القدس التى كانت فى خيالى مجموعة من الصور، ألملمها من الجرائد والتلفاز، ها قد صارت حقيقة من روح ودم يا بهية، القدس التى كانت فى خيالى حكايا بلا تفاصيل، ها هى تطل بأوجاعها وارتعاشها، بالحواجز العسكرية والرصاص، باهتزاز الأقصى تحت قدمى، وانقلاع الأشجار وميلانها حينا بسبب الأنفاق التى يحفرونها تحت «الأقصى»، بالأعلام الإسرائيلية المُعلقة على البيوت، والتى كنت أظن فى البداية أنها لمؤسسات حكومية، وكم فزعت عندما عرفت بأنها بيوت عادية لمستوطنين يهود، الأعلام تنتشر على أعالى المبانى والشرفات والشبابيك».

 

المساعدات المصرية لغزة مستمرة
المساعدات المصرية لغزة مستمرة

 

المدنيون العُزَّل

ويصف «ماهر» ما شاهده فى طفولته من عنت الاحتلال الإسرائيلى تجاه المدنيين العُزَّل فيقول: «عند باب العمود يا بهية، الجنود يلاحقون بائعات الزعتر والميرمية واللوز الأخضر والكرز، يطاردونهم فى اللقمة، بينما يتركون تجار المخدرات يعيثون فى الطرقات، أبوس الأرض تحت أقدام الأمهات، وأتنفس هواء عَكَّره غبار القهر، ورماد «أوسلو».

ومن خلال الرسائل كانت «بهية» تصف لماهر الحياة فى مدينتها وتحثه على أن يحكى لها ما يحدث فى سجنه، ويستعيد طفولته وذكريات عرسهما، وميلاد ابنهما «عبادة، وابنتهما «مريم».

كانت «بهية» تكتب رسائلها على الورق حينًا، وخلف كل صورة لها أو للأولاد حينًا آخر، هذه الرسائل غيرَّرت حياة كل منهما، فجعلت «ماهر» أكثر تحملاً لسنوات اعتقاله وجعلت «بهية» أكثر صبرًا على غيابه، وتصف الساردة ذلك فتقول: «احتشدت الحروف فمنحته شموعًا أضاءت ليل السجن، أحالت الجحيم إلى نعيم، مرسوم بدقة، يسمع نبضه حينًا وحينًا.. هذه الرسائل قلبت حياتها أيضًا، فى لحظات الهزيمة كانت الكتابة هى الملاذ، فى لحظات الكتابة يتهلل القلب، ويتسع لعبور أعتى الأمواج، مع كل حرف كانت ترتشف من الوصل ما يعينها على المسير، مع كل انحناءة قلم يشتعل العمر، ويتورد من جديد، كل كلمة كانت تكتبها لماهر تعدل لقاء، كل كلمة تلون بها العمر الباقى بالجمال والبهاء.

كانت تنقطع الرسائل أحيانًا كعقوبة من السجّان فيصاب «ماهر» بشيخوخة القلب وقبل أن يستسلم تأتى رسالة «بهية» فتحضر روحه، ويستعيد رغبته فى الحياة.

 

من أعمال المؤلفة
من أعمال المؤلفة

 

ومن تلك الرسائل نتعرف على حياة «ماهر» فى المعتقل، وحياة «بهية» فى غيابه، كانت «بهية» تخشى أن يُسرحها «ماهر» بإحسان خوفًا من أن يظلمها بغيابه فهو قد حكم عليه بعقوبة مؤبدين، وأربعة ملايين شيكل كغرامة، كانت ترقب بإشفاق الكثيرين من أصحاب المؤبدات يُخيرون زوجاتهم فى البقاء معهم أو الطلاق خوفًا من ظلمهن، وكتبت لماهر بمخاوفها تلك لكنه طمأنها على تمسكه بها: «فكرت فى ذلك كثيرًا، ولكننى لم أفعل، أتدرين لماذا؟، لأننى لا أحتمل».

أما «بهية» فقد استقبلت الحكم برباطة جأش بل اشتعل فتيل ابتسامتها «وأيقنت أن اشتداد العتمة هى ولاية من الله ليمنحنا النور العظيم، هذه الابتسامة كانت طعنة لجنود الاحتلال، هذه الابتسامة قالت لهم إنكم راحلون، وهل ستبقون فى هذه الأرض 200 سنة أخري؟! بهذه الابتسامة روعناهم».

 

رواية ليالى إشبيلية
رواية ليالى إشبيلية

 

لكن رغم صمود «بهية»، و«ماهر» ففى الفترة التى عاشا فيها معًا كعروسين فى «القدس» قبل أن يدخل أسيرًا إلى المعتقل مرة ثانية، كانت «بهية» تشعر بما عاناه «ماهر» فى المعتقل، تتوالى مشاهد التعذيب التى تعرض لها فتغيم ابتسامته، ويشرد ذهه، وتصف «بهية» ذلك فتقول: 

«فى أشد ساعات الفرح، يأتى السجن والسجَّان إليك، يقف قبالتك تمامًا، تُفتح القضبان، تدخل عنوة لساعات وربما لأيام، تصمت، تشرد، تطفيء الأنوار، وتبتعد عن الناس، لا تتحدث إلى أحد أبدًا، تركض إليك الكلاب المسعورة من كل اتجاه، تزداد التصاقًا بزنزانتك الانفرادية يزداد صوت الضابط، وصراخه وضوحًا حتى ترى لوزتيه وحنجرته، الزمن يتوقف كعقرب هرم، فلا تكاد تعرف الوقت، وتقدِّر الصلوات تقديرًا».

استعان «ماهر» بطبيب نفسى لكنه أدرك أن علاجه يبدأ من عنده هو، وليس عند الطبيب، فقرر أن لا يتسلم للسجّان الذى يطارده خارج قضبان السجن، فبدأ أنشطة كثيرة، ومنها «أن يصوَّر معالم القدس مَعْلما مَعْلما، يصوِّر المآذن والقباب، والأبواب والشرفات والأزقة، والبضائع والبهارات والدكاكين، والمفاتيح والباعة ولو استطاع لصوَّر الأصوات والروائح».

قلعة شاهقة الارتفاع

وبصور بصرية ترسم لنا الساردة منطقة «باب العمود»، عن طريق تلك الصور التى يلتقطها «ماهر» فنرى حضور المكان وجلاله فتقول: «باب العمود هو المدخل الرئيسى للمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة وحائط البُراق، عندما تخطو الخطوة الأولى إلى داخله تُفتح الأسواق حضنها واسعًا لك، لتجد سوق خان الزيت، وسوق القطانين، وسوق الصاغة، وسوق الحُصر، وسوق العطارين، وسوق اللحامين حيث تختلط روائح العطارة بروائح اللحم لتخرج رائحة مذهلة لن تحظى بها إلا هنا فى القدس، وطبعًا هذا الباب يقودك أيضًا إلى المسجد الأقصى، ذلك الباب الذى يتكون من قوس ضخم يرتكز على دعامتين من الحجارة المنحوتة، عندما تشاهد «باب العمود» ستدرك فورًا بأنه بُنى ليكون قلعة أمنية شاهقة الارتفاع».

 

رواية أخرى
رواية أخرى

 

وتصف بهية ذكرياتها مع «ماهر»، وهما ينشدان تصوير معالم مدينتهما المقدسة، وتصوِّر ما فعله الاحتلال من ظلم وتعسف بالأهالى فتقول: «ندخل السوق، وكم أوجعك أن ترى أغلب الدكاكين مغلقة، فهى لا تفتح إلا أيام الجمعة والسبت والأحد، أذكر أنك سألتنى عن سبب إغلاق المحلات، فأجبتك أن السبب هو ضريبة «الأرنونا» الباهظة التى يفرضها الاحتلال الإسرائيلى على أصحاب المحلات من أجل إجبارهم على ترك محلاتهم، وترك «القدس» لاحقًا، هذا عدا الجدار العازل الذى بنته إسرائيل، وخنقت به المدينة المقدسة من ثلاث جهات، والهدف إجبار المقدسيين على الرحيل».

هدم الأحياء

وتصف «بهية» كيف يقوم الاحتلال بهدم الأحياء المقدسية، ومقاومة الأهالى له فتقول: «فى كل يوم يُسلم الاحتلال إخطارات بالهدم لأحياء كاملة، تهجير، إغلاق للأسواق والدكاكين، حصار، سحب هويات، مصادرة أراضى، ومع ذلك لا أحد يسمع ولا أحد يهتم».

وتذكِّر «ماهر» صوت أمه وهو يعيد تركيب الصورة البصرية لبعض الأحياء التى سوَّاها المحتل بالأرض!، ومنها «حارة المغاربة»، فتنقش تاريخها فى ذاكرة الأحفاد فتقول: «حارة المغاربة التى وقفها الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين الأيوبى على المجاهدين المغاربة الذين شاركوا بفتح بيت المقدس، الحارة تقع فى الجانب الجنوبى الغربى لمدينة القدس، إلى الغرب من المسجد الأقصى

 

اصطفاف قوافل المساعدات أمام معبر رفح
اصطفاف قوافل المساعدات أمام معبر رفح

 

وتقول «بهية» لماهر: «مازال صوت أمك يرن، وهو يلملم بقايا «حارة المغاربة»، لتعيد تركيبها بيتًا بيتًا، شارعًا شارعًا، تعيد تركيب الحارة أحيانًا بدمعة، وأحيانًا بضحكة مجلجلة تخرج من القلب عنوة».

«حارة المغاربة» سُويت بالأرض، وتحولت إلى «ساحة المبكي»، أربعة وثلاثون دارًا نُسفت فى ليلة العاشر من حزيران 1967، بجرافات الاحتلال.

وتطل مقبرة جماعية لفلسطينيين قتلهم جنود الاحتلال، لأنهم رفضوا المغادرة خلال مهلة ربع ساعة أعطاهم لهم جيش الاحتلال، هذه المقبرة الجماعية تطل من تحت سور «ساحة المبكى».

لم تكن أم ماهر وحدها تُذكِّر بالأمكنة والأحياء الدارسة، لتؤسس لذاكرة بصرية للأمكنة التى حَوَّلها المحتل إلى مستوطنات، بل إن «ماهر» نفسه كان يُحفِّظ أولاده تاريخ وملامح المكان فيشير لابنه «يا «عبادة» هذه المستوطنة اسمها الجامعة العبرية»؟!

فيقول «عبادة»: مُقامة على أراضى قريتيّ «العيسوية»، و«لفتا».

فيشير «ماهر» إلى مستوطنات «ريخس شعافط».

فيقول «عبادة»: «هى مُقامة على أراضى بيت حنينا وشعفاط».

فيشير «ماهر» إلى «عطروت» كما يُطلق عليها الاحتلال، فيقول «عبادة»: «أقيمت على أراضى «قلنديا»، و«الرام»، و«بير نبالا»، و«بيت حنينا».

- والتلة الفرنسية يا عبادة؟

- أقيمت على أراضى «لفتا»، و«شعفاط».

ويُسجل «ماهر» فى ذاكرة أبنائه تلك الأمكنة التى استولى عليها الاحتلال فى غرب القدس عام 1948 فيقول: احتلوا حى البقعة الفوقا، والبقعة التحتا، والطالبية، والقطمون، والحى الألمانى، والحى اليونانى، والدجانية، والوعرية، والرابستون».

لم تقتصر محاولات «ماهر» لغرس الوعى بالمكان، وبقضية بلاده فى ذاكرة أبنائه فقط لكنه اهتم بمناقشة جيرانه وخاصة أولئك الذين تضجروا من تفاصيل الحياة اليومية، ومعاناتهم القاصية من عسف الاحتلال فيقول أحدهم لماهر: «تعبنا يا أخى، كل يوم انتحاريين، عمليات طعن، دهس، ألا يمكن أن نعيش كما يعيش العالم، نحتسى قهوة الصباح بهدوء بدون أن تختلط بالدماء والأشلاء؟

 

لم تنقطع المساعدات المصرية برًا وجوًا
لم تنقطع المساعدات المصرية برًا وجوًا

 

فيقول له «ماهر»: قل هذا لجماعة الهيكل، قل هذا لمن يحمل السلاح، ويصوِّبه إلى رأسك وأنت تُصلى، صدقنى يا جارى، العالم لا يصدق الضعيف، ولا يرحمه، لقد تشوهنا من الداخل، لقد صرنا نشبه عدونا، وننطق بلسانه».

فيقول جاره: «قد يكون لهم حق مثلنا، أليس لهم هيكل تحت المسجد؟

فيقول له ماهر: بعد سنوات طويلة من التنقيب والحفريات لم يعثروا على أى أثر للهيكل المزعوم، هم قالوا ذلك وليس أنا، لقد قرأت فى «هآرتس» فى 29/10/1999 مقالة كتبها عالم الآثار اليهودى «هوتسوج» يقول فيها: «هناك شرخ فى رواية التوراة للتاريخ القديم، كشفته الأبحاث، والحفريات الأثرية، وما يحصل لنا فى إسرائيل هو أننا لا نريد علمًا مستقلاً، نريد للآثار أن تثبت الرواية التاريخية التوراتية، وهذا معاكس للعلم، وللحقيقة التاريخية أيضًا، وفى نهاية المقال يُصرح عالم الآثار بأن التنقيبات الأثرية أوصلته إلى نتائج محبطة، فلم يعثر على شيء يتفق مع الرواية التوراتية».

ويمضى ماهر فى مناقشة جاره وإيقاظ وعيه فيقول له: «أما العالم اليهودى الشهير «فنكلشتاين» فقد قال: أن التوراة وثيقة متأخرة جدًا، كُتبت فى القرن السابع وفق أبكر التقديرات من خلال منظور لاهوتى وأيديولوجى وسياسى.

فيقول الجار: طيب، لماذا كل هذه الحفريات التى لم تنته؟

فيجيبه «ماهر»: لأن النظريات الصهيونية يختلف هدفها عن هؤلاء العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة العلمية، ولذلك اصطدم هؤلاء العلماء مع السياسات الصهيونية الساعية إلى تهويد كل أثر.

يتذكر «ماهر» فى محبسه كل ذلك، ويشق عليه تعرضه للحبس الانفرادى لمدة سنوات هو ورفاقه فيقومون بإضراب شامل يعنى عدم حصول الأمير على سوائل أو مدعمات غذائية بل يقتصر على تناول الملح والماء.

ويخبر «بهية» بذلك، وهنا تنتفض ثائرة، وتقرر أن تُضرب هى وأولادهما عن الطعام، حيث أذهلت الجميع بشجاعة امرأة وأطفالها، «وبعد دقائق من اعتصامها وإضرابها، بدأ المتضامنون بالتوافد إلى ساحة المستشفى، من القدس والأراضى المحتلة والضفة، أدركت الشرطة الإسرائيلية حينها أن الأمور بدأت تُفلت من بين أيديها، لكنها لا تستطيع قمع امرأة وأطفالها أمام كاميرات العالم، وفى الساعة الرابعة صباحًا توصل محامى الأسرى إلى اتفاقية بتلبية كل مطالب الأسرى، ثم تم إيقاف الإضراب.

وتمضى رسائل «ماهر» و«بهية» لتكشف لنا عن نماذج مهمة للمرأة الفلسطينية التى تأخذ دورها فى الجهاد وتستبسل فى الدفاع عن أبناء وطنها، فها هو «ماهر» يحكى لبهية عن خطوبة الأسير «داوود» المحكوم عليه بـ«200 مؤبد» فيقول ماهر: ليست الخطبة بحد ذاتها هى الأروع بل تلك الفتاة التى أصرت أن تربط مصيرها بمصير أسير قد يقضى جُل عمره فى السجن، فرحتنا بخطبة «داوود» مرتبطة بأشياء كثيرة، أولها أن الماء الراكد فى الزنزانة تحرك، والعشب الجاف الأصفر غدا مَرْجا أخضر».

فقد ربطت «نهاد» مصيرها بمصير داوود بمعجزة تصوُّر الإفراج عنه، جعلته مفتاحها للانتماء إلى الأرض والحق والإنسانية والعدالة، اقتربت منه، وراهنت عليه».

الثقة بالنصر

ولما كتب لها «داوود» أنه قد لا يخرج من الأسر إلا للقبر، وإن خرج فى صفقة من صفقات التبادل، فقد يتم اغتياله، وقد يعاد إلى محبسه من جديد، لكن «نهاد» كتبت تقول له:

«هل تريد أن تحرر فلسطين وحدك؟، فلسطين لن تكون لى ولك إلا إذا كنت معك، فى يوم الفتح أريد أن أكون بجانبك، لا تطلب الارتباط بأسير سوى امرأة تثق بالنصر، لذلك لن أسمح لك أن تحولنى إلى متفرجة، إذا أردنا هذه الأرض، لابد أن نقاتل معًا، نتألم معًا، لنفرح معًا.

فقال داوود بعد أن قرأ الرسالة:

- على بركة الله.

حينها كَبَّر الشباب.

استطاعت «بهية» أن تدخل العطر إلى كل الأسرى، سكبت قوارير العطر القوى الذى يحبه «ماهر» على جواربه نقعها بالماء عندما وصلت إليه، وأخذ الماء وعبأ بالقوارير فأصبح لدى الأسرى هذا العطر الفواح لكن عطره الخاص هى ما أغرقت به «بهية» غطاء وسادته، فيقول لها فى خطابه:

هذه الوسادة المُعطرة هى الانتصار على السجَّان، هى محاولة للاستمرار فى الحياة رغم كل شيء، غطاء وسادة مُعطر، محلول عطرى جُله ماء، حكايات، كلمات، الفجر، ضوء الشمس، الشارع، النافذة، الباب، التراب، الشجر، الحجر.

محجوز للأسير ماهر

ويمارس «ماهر» الحياة بكل ما فيها من فرح داخل محبسه، فيتصل هاتفيًا بمحل للطعام تفضله «بهية»، عن طريق هاتف مُهرب، ويطلب حجز طاولة عليها باقة ورد، لزوجته وأولاده، وطلب أن يُكتب على الطاولة «محجوز للأسير ماهر» لقد منحته «بهية» بوقوفها إلى جانبه الرغبة فى الحب وفى الحياة، وبعثت بالتفاؤل الذى غمره فى محبسه فشحنت فى نفسه روح المقاومة.

وتنتهى الرواية برؤية مشرقة منفتحة على الفرح، وحلم العودة، عودة الأسير «ماهر» التى تحدث بالفعل فتقدم إليه «بهية» روايتها الأولى «باب العمود».

وتخط «بهية» كلمات تصف بها آمالها وأحلامها لماهر فتقول: «أرانا نسير إلى المسجد الأقصى، لا جنود إسرائيليين مسربلين بالسلاح، لا خوذ حديدية، لا خيالة صهاينة يجوبون شوارع القدس، لا حواجز عسكرية، ونقاط تفتيش، لا مستوطنين، ولاطواقى، ولا جدائل متدلية، لا جدار حاجز، التكبير يعم الأرجاء، وها أنت ترض صوبى، تمسك بيدى، تحضن الأولاد، تقيس أطوالهم، صاروا يناهزونك طولاً، أركض وأفتح الخزانة، أخرج كل قمصانك، وبناطيلك، وجواربك التى أغسلها أسبوعيًا وأكويها، أركض صوب البذلة السوداء التى اشتريتها حديثًا، وحضَّرتها ليوم العُرس، ألبس ثوبى الأبيض الذى طرزته بيدى، ها أنت تمسك بيدى، يتقدمنا «عبادة»، و«مريم»، وسط زغاريد النسوة».

.. «باب العمود» رواية تحتشد بالمشاعر والحقائق والوثائق، وبالتفاصيل التى شكَّلت عالم السرد فى رواية ثرية عن عشق الأرض، والإصرار على تحريرها.