السبت 27 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أنا لا أدخِّن إذن أنا موجود!

عندما قرر عمّنا حسن فؤاد بناءً على توصية وتزكية من أستاذه عبدالسلام الشريف اختيارى كمحرر تحت التمرين سنة 1964 لم أكن أدخِّن؛ بل كنت ضد التدخين، وبينما كان زملائى فى كلية الفنون الجميلة ومن قبلها فى المدرسة الثانوية، يتباهون بالتدخين ويعتبرونه مظهرًا للرجولة وجذب اهتمام البنات، ويلحون علىَّ أن أشاركهم «متعة التدخين» خصوصًا وهم يمارسونها سرًا أو دون علم أهلهم.



كنت لسبب لا أعرفه تمامًا، أنفر من السجائر، جرّبتها طبعًا، سيجارة أو اثنتين، ولم ترق لى، ولم أجد فيها أى متعة.

ومضى الحال هكذا لسنوات.. حتى جاء يوم 5 يونيو1967 يوم الهزيمة المفاجئة لنا جميعًا، شعرت بهزيمة شخصية ونوع من الإحساس بضياع الأمل فى المستقبل الذى كان واضحًا لى حالمًا، مشرقًا.. يومها شعر من حولى من زملاء الكلية وخاصة صديقى وزميلى الفنان الراحل محسن جابر الذى تعرفت عليه لأول مرة قبل دخولنا الكلية معا بسنتين عندما تم اختيارنا للاشتراك فى معسكر التفوق فى الإسكندرية، هو قادم من نجع جمادى فى قنا، وأنا من السويس.. أشفق محسن على حالى فى يوم الهزيمة، وقدَّم لى سيجارة هوليوود.. أو كليوباترا لا أتذكر تمامًا، كانت مرارة الشعور بإلإظلام والخيبة الشعور بأنك ُخدِعت وأنك بنيت أحلامك على وهم كبير، مرارة تجعل الواحد منا يحس أن الهزيمة هزيمته شخصيًا.

دخّنت وبكيت وفكّرت ودخّنت واحترت ودخّنت وقررّت.. سأرتدى ملابس المقاومة الشعبية وأتجه فورًا إلى السويس، وأسلّم نفسى هناك لأشارك فى أى عمل يمكن القيام به من أجل استعادة كرامتنا وأرضنا وحريتنا، واشتريت علبة سجائر لأول مرة فى حياتى.

حاجتى إلى التدخين

واجهت مشاكل مع أبى وأمى بسبب التدخين، لكن الأمر الواقع فرض نفسه، وبعد أن كنت أتفادى التدخين فى حضورهما وجدت نفسى أشرح لهما حاجتى للسيجارة. وكيف أنها تساعدنى على التوازن النفسى والتفكير الهادئ.. وهكذا أصبحت مدخنًا معترفًا به.

ولسبب لا أعرفه أيضًا كان العمل الصحفى مقترنًا فى عقلى الباطن بالتدخين، فنادرًا ما كنت أجد صحفيًا لا يدخن.. وكانت صورة على أمين وهو يدخن بشراهة مرسومة فى ذهنى منذ كنت فى المدرسة الإعدادية..ومع زيادة خبرتى فى العمل وزيادة دخلى زاد عدد علب السجائر التى أستهلكها.. وأذكر أننى كنت من رواد مقهى «إيزائيفتش» المطل على ميدان التحرير - اختفى الآن وحل محله مطعم «كنتاكى» - وكان هناك بعض المتطفلين ممن يجالسونك لمجرد وجود علبة سجائر على مائدتك، معتمدين على كرمك، ليس فقط فى دعوتهم لتناول القهوة على حسابك، لكن والتعامل مع علبة سجائرك كما لو كانت ملكية عامة!

 

 

 

ولأن هذا النوع من الأصدقاء كان مزعجًا لى ولغيرى، فقد توصّلنا إلى حيلة طريفة تبعد عنا المتطفلين، هى أنه لدى ظهور أحدهم، ما عليك إلا أن تلقى بعلبة سجائرك أرضًا تحت الترابيزة، فيفهم المتطفل أنك بلا سجائر، فلا يتقدم نحوك.. ولا يجالسك، فقط يحييك من بعيد!

ولا أعرف لماذا انتشر هذا النوع من التطفل مع أنه كان ممكنًا فى تلك الأيام، لو لم يكن لديك المال الكافى أن تشترى من بعض الأكشاك سجائر «فرط».. خمس سيجارات أو أكثر أو أقل، ومع ذلك فلم يتوقف المتطفلون عن عادتهم.

ويأخذنى حديث التدخين إلى حكاية العم عدلى فهيم المدير الفنى لمجلة «روزاليوسف» مع السجائر، وكنت لسنوات شديد التواصل معه وبرفقتنا صديق مشترك هو أحمد نصر الناقد السينمائى، أصبح فيما بعد دبلوماسيًا، كنا نذهب مع الأستاذ عدلى فى جولاته التى يصحبنا فيها إلى كافيتيريا الهيلتون.. والمطاعم الشهيرة وبيوت الفنانين والفنانات والكتَّاب ومذيعات التليفزيون وغيرهم من أصدقائه.

وكان الرجل يرعانا لكونه وحيدًا، لا زوجة ولا أولاد.. وطبعًا كان فى أوقات أخرى يضيق بنا، بسبب سجائرى.. وأمضيت فترة أحاول تشجيعه على التدخين، ولسبب ما نجحت من خلال ترك علب السجائر فى البيت إذا زرته، أو على مكتبه فى المجلة أو بتقديم السجائر له خلال جلساتنا هنا وهناك.. ومرّ وقت كان الأستاذ عدلى هو الذى يعزم علىّ بالسجائر، وأحيانًا بعلب سجائر كاملة.

وكنت فى منتهى السعادة بهذا التطور، لكن سعادتى هذه لم تدم طويلاً، ففى يوم واحد وجدت عدلى فهيم يعلن على الملأ أنه قرر التوقّف عن التدخين نهائيًا، وأخذ يحدثنا عن أضرار السجائر ومخاطرها على صحتنا وصحة الأبرياء من حولنا الذين ندخن فى حضورهم ونؤذيهم بلا ذنب اقترفوه. 

وشعرنا أحمد نصر - الذى كان مشهورًا بالانتشار السريع فى أوساط عديدة ومصادقة شخصيات بارزة فى المجتمع المصرى منها نجيب محفوظ الذى سمّاه بسبب علاقاته المتعددة هذه «أحمد مصر» شعرنا بخيبة أمل، لكن ما أدهشنا أن عدلى فهيم لم يتوقف عن شراء علب السجائر!

لا يدخّن، لكنه يشترى علبة السجائر، ويفتحها ويخرج منها السيجارة ويضعها فى فمه دون أن يشعلها!.. ويواصل عمله فى إخراج وتصميم صفحات «روزاليوسف» أو مجلة وزارة الشئون الاجتماعية وكان اسمها «المجتمع» على ما أذكر الآن، وهى مجلة شهرية كان يستعين بى لمساعدته فى تصميمها ويحصل لى على بضعة جنيهات كل شهر.

المهم أنه كان يستهلك السيجارة بهذه الطريقة دون أن يشعلها، ويبدّلها بغيرها عندما تتهالك بين أصابعه أو شفتيه!

وللحق فقد كان يحن علينا نحن المدخنين من وقت لآخر بأن يمنح الواحد منا سيجارة أو أكثر. وكنت دائمًا ما أتفكّه معه قائلاً إن استهلاكه للسجائر بهذه الطريقة حرام، لأنه يحرم منها من يكون «خرمانا» ونفسه فى سيجارة!

 

 

 

مع الوقت وتزايد المشاغل فى العمل الصحفى، زاد عدد علب السجائر التى أدخّنها يوميا، بل أننى أحيانًا كنت أولع سيجارة فى مكتبى ثم أتحرك بحكم العمل وأتركها وأنتقل إلى مكتب آخر.. فأشعل سيجارة أخرى بينما الأولى والعة فى مكتبى، ولا مانع من أن أذهب لملاقاة صديقى الرائع فنان الكاريكاتير الأسطورة حجازى فيعزم علىَّ بسيجارة غير ما تركته من سجائر هنا وهناك.

ومن الحكايات التى لا ينساها إخوتى وكلهم أصغر منى، ويتندرون بها، أننى ذات ليلة كنت سهرانا فى البيت أعد موضوعًا ونفدت سجائرى ولا أحد يدخن فى البيت غيرى، فإخوتى المدخنون الثلاثة تزوجوا ويعيشون فى بيوتهم بعيدًا عن بيتنا الذى فى العجوزة.. فقلت للموجودين أننى خارج لشراء سجائر وسأعود حالا.. وعدت إلى البيت طبعًا، لكن فى اليوم التالى!

تدخين دون أمراض!

قد اخترت يومًا وأنا المدخّن الشره أن أجرى تحقيقًا صحفيًا شاملاً عن التدخين، فقمت بزيارة مصانع الشركة الشرقية للدخان وأجريت مقابلات مع المسئولين فيها وتعرّفت على مراحل عملية تصنيع السيجارة، وهناك اكتشفت أن لديهم وظيفة عجيبة يسمونها «الخرمانجى» أى الشخص الخبير المدرّب على تذوّق وتدخين السجائر والتمييز بينها وتحديد المكوّنات الأفضل ودرجة تجهيز التبغ وطبعا كان من العناصر المهمة فى التحقيق.

ولأن الموضوع شامل فقد اتصلت بأحد أساتذة الطب المتخصصين فى علاج الأمراض الصدرية الناتجة عن التدخين لاستطلاع رأيه، وكان على ما أذكر الدكتور شريف عمر، ذهبت إليه وأجريت حديثًا معه عن أضرار التدخين، مع أننى خلال اللقاء معه كنت أدخّن.. ولم يكن هذا هو الغريب فى الأمر، فقد كان الدكتور نفسه يحدّثنى عن أضرار التدخين والمشاكل الصحية الناتجة عنه بتفاصيل لم أكن أعلمها تمامًا، لكنه وللعجب كان يدخّن سيجارته المفضلة وينفث دخانها بينما يعددّ مخاطر التدخين!

صدمنى المشهد، وعبّرت للدكتور عن دهشتى وأعلنت له أننى سأكتب فى هذا التحقيق الصحفى أنك كنت تدخّن يا دكتور!

ضحك الرجل وسحبنى فى كلامه إلى حديث طويل عن كيفية الاستمتاع بالتدخين دون الوقوع فى شرك الأمراض الصدرية وأمراض الرئة، وشرح لى الأمر فى تبسيط، فسألنى: عندما تعبر الشارع، ألا تنظر يمينًا ويسارًا قبل العبور؟

 - طبعا 

= هذا بالضبط ما أفعله عندما أدخّن.. أستهلك فى اليوم عددًا محدودًا من السجائر، بما لا يعرّض جسمى لأى أضرار أو متاعب صحية.. أو أمراض. 

 - وكم هو عدد السيجارات التى لا تسبب الأمراض؟ 

= عشر سيجارات فى اليوم. 

 كان هذا الكلام غريبًا، فقد كان ظنى طوال الوقت أنه حتى سيجارة واحدة تدخنها كل يوم فيها خطورة على صحتك. أنا الآن ومنذ سنة 1984 لا أدخّن.

 

 

 

فى يوم وليلة قرّرت التوقف نهائيًا عن التدخين، ولم يكن وراء هذا القرار سبب صحى أو مادى أو اجتماعى، لم يكن هناك سبب واضح، كل ما فى الأمر أننى كنت، فى رابع سنة لى فى لندن، أدخن طوال اليوم ثلاث علب سجائر «دانهل» كينج سايز. ومع آخر سيجارة قبل النوم فى ذلك اليوم ولسبب ما زال غامضًا جاء قرارى، وعندما أعلنت زوجتى بذلك فرحت طبعا، لكنها كشفت لى لاحقا أنها لم تكن متأكدة من أننى سأتمكن من الإقلاع عن عادة التدخين بشراهة هذه. 

وفى سنوات لاحقة ربما كانت منتصف التسعينيات، لاحظت على نفسى أننى عندما أزور القاهرة كنت أدخّن.. وعندما أعود إلى لندن لا أجد فى نفسى حاجة للتدخين.. هل هى الحالة  النفسية والعصبية الناتجة عن تدهور أحوال البلد خلال تلك المرحلة فى زمن مبارك، ومشاعر الضيق التى تنتابنى بسبب ذلك؟.. لا أدرى. 

ذكريات الفشل الأليمة

حتى لا يتصوّر أحد أننى لا أتحدّث إلا عن بطولات ومزايا، ونجاحات، ما رأيكم لو حدثتكم عن حكايات الفشل فى حياتى المهنية كصحفى؟!

هل سبق أن روى أى صحفى حكايات واعترافات عن فشله؟.. هل سأكون أولهم أو أحد الأوائل بهذا الكشف.. الاعتراف؟!

أرجو ذلك، وأبدأ بالقول أننى فشلت طوال ستين سنة فى تقلّد منصب رئيس التحرير، فى أى مجلة أو جريدة عملت فيها، إلا مرة واحدة ولمدة خمس سنوات فقط كنت رئيس تحرير المجلة الإلكترونية التى تصدرها شبكة «بى بى سى» العربية - إذاعة وتليفزيون وأونلاين» وكل العاملين فيها يعتبرون محررين للمجلة..إلى أن ألغيت بسبب انهيار ميزانية «بى بى سى».

عدا عن ذلك لم يحدث أن توليت هذا المنصب إلا فى مجلات الحائط التى كنت أصدرها وأكتبها وأصمّمها فى المدرسة الإعدادية والثانوية وفى معسكر وادى النطرون وفى الكلية وفى مجلة «صوت عتاقة» الحائطية والمطبوعة.

وأذكر أننى كنت أدرّب دفعات من طلاب كلية الإعلام تبعث بها الكلية إلينا فى «صباح الخير» فى سبعينيات القرن الماضى وأصبح بعض من درّبتهم رؤساء تحرير لصحف ومجلات ومنهم عماد الدين أديب وعمرو عبدالسميع، كما قمت بتدريب رشاد كامل وعزت الشامى على العمل مساعدين لى كسكرتير تحرير وأصبح رشاد فيما بعد رئيسًا للتحرير، وعزت رئيسًا لتحرير مجلة خاصة ثم مديرًا لتحرير «صباح الخير».

فلماذا لم أصبح رئيسًا للتحرير؟

بالنسبة لـ«صباح الخير» هناك عدة أسباب أهمها هو أننى هاجرت إلى بريطانيا.. وبالنسبة للصحف التى عملت فيها فى لندن فقد كان الأمر مختلفا، فهذه الصحف لا تصدر كما فى مصر، عن الاتحاد الاشتراكى بعد تأميم الصحافة مطلع الستينيات، ولا مجلس الشورى بعد ذلك، ولا المجلس الأعلى للصحافة وغيره، هى صحف مملوكة اسميًا لشركات، وفعليًا لدول وحكومات وحكام.

فشلت فى أن أحقق أحد طموحاتى الطبيعية، بسبب الظروف التى أحاطت بى وبسبب طبيعتى المستقلة والمتمرّدة وغواية التغريد خارج السرب، مع أننى كنت رئيسا للتحرير فى عمر الأربعة عشر ربيعًا!

ولولا أننى هاجرت، فلربما كانت أمامى فرصة تحقيق هذا الطموح، وربما لا.. وبالمناسبة فقد كانت لهجرتى أسباب، صحيح أنها لم تكن بترتيب مسبق وإنما ارتبطت بالبعثة الأكاديمية لزوجتى لدراسة نظريات الموسيقى الكلاسيكية فى الأكاديمية الملكية البريطانية فى لندن.

لكن كان قد حدث قبل ذلك ما جعلنى أفكّر أن لا مستقبل صحفيًا لى فى زمن حكم السادات، فقد تخلّص السادات من رئيس المؤسسة عبدالرحمن الشرقاوى مع أنه الكاتب الذى وصف انقلاب السادات على الخط الناصرى فى مقال فى «الأخبار» بأنه «ثورة التصحيح».. انقلب عليه السادات بعد موقف «روزاليوسف» المساند لانتفاضة الشعب ضد رفع الأسعار.

ليس هذا فقط بل أنه شكّل لجنة «نازية» سمّاها لجنة النظام، داخل الاتحاد الاشتراكى، مهمتها الوحيدة هى التخلص من كل من يشتبه فى أنه ضد السادات وانقلابه، وخرجت كشوف تحمل أسماء صحفيين وكتَّاب وتنقلهم للعمل فى هيئة الاستعلامات وغيرها، أو تمنعهم من العمل الصحفى.

ومن «صباح الخير» تم عزل علاء الديب ورشدى أبو الحسن ومدير التحرير رءوف توفيق.

وكنت أقوم بعمل مدير التحرير من الباطن عندما عيَّن السادات صديقين له، واحدًا لرئاسة المؤسسة والثانى مديرًا عامًا ومديرًا لتحرير المجلتين  «روز اليوسف» و«صباح الخير».. ولأن المدير العام عبدالعزيز خميس، رفيق السادات فى السجن فى قضية اغتيال أمين عثمان، كان مهتما بـ«ضبط» المجلة السياسية «روزاليوسف» فقد ترك لى مسئولية إدارة تحرير «صباح الخير» وقتها، اعتمادًا على ثقة ومودة رئيس التحرير حسن فؤاد.

 وواقعة أخرى جرت تأكدت معها أن علىّ ترك كل شيء لفترة من الزمن حتى يقضى الله أمرًا فى مشكلة تولى أنور السادات حكم مصر.. والأزمات المحيطة به والتى يسببها لنفسه بنفسه. 

فقد كان لدينا باب صغير، نصف صفحة، عنوانه «عيب» يلتقط فيه محررو وكتاب المجلة ملاحظات عن وقائع سيئة ويكشفونها للقراء والمسئولين لمواجهتها ومعالجتها، وذلك فى لقطات قصيرة وسطور معدودة، ورصدت مصادفة أن هناك ورقة عملة من فئة الخمسة قروش أصدرتها حديثًا هيئة سك النقود، وفيها خطأ كبير فى الطباعة، فكتبت عدة أسطر ووضعت معها صورة للعملة المغلوطة.

وجاءنى موظفان كبيران قالا أنهما من هيئة سك النقود، لكن اتضح فيما بعد أنهما من جهاز أمن الدولة، وأنهما يريدان منى أن أعلن بوضوح تأييدى لخط السادات، أو لا يكون لى مستقبل.. وأنهما مكلفان بوضع تقارير عن الأسماء المرشحة لمناصب عليا فى المؤسسات الصحفية! ولما وجدا أننى لست على الخط نصحنى الكبير فيهما بأن أراجع موقفى وأعطانى رقم تليفونه للاتصال به عندما أستجيب.

 

 

 

الصدفة حلت المشكلة

الصدفة وحدها هى التى حلت لى هذا المشكلة، فقد جاءت بعثة لندن لزهرة زوجتى وكان طبيعيًا أن أصحبها فهى ستغيب لمدة خمس سنوات.. وقلنا وقتها أن السادات لن يبقى لخمس سنوات بهذه الطريقة التى يدير بها الأمور ويتخبّط، ويفقد أكثر المقربين إليه وحتى المنظّرين له. 

وطالت السنوات الخمس لتقترب الآن من الأربعة وأربعين سنة!

فكل مرة كنا نأتى فيها لمصر نجد الأحوال تسوء.. وتزداد سوءًا ويزداد السوء ويصبح حضيضًا.. خلال 30 سنة فى عهد مبارك، وبعد أن مرت 16 سنة على إقامتنا فى لندن قرّرنا أنها ستكون إقامة دائمة.

وحديث الفشل يجرّنى إلى حكايات أخرى.

ففى مرحلة ما وجدت نفسى مهتما برصد تجربة حياة وإنجازات شخصيات لها تأثير فى حياتنا المصرية والعربية، جاء ذلك عندما جمعتنى الظروف فى لندن بأحد أعلام السينما المصرية المخرج وصانع الأفلام ورائد الواقعية صلاح أبوسيف، كنت أعرفه معرفة سطحية من خلال جلساته فى محل «لاباس» فى وسط البلد وكان المحل مركزًا لتلاقى الكتاب الأدباء والصحفيين والتشكيليين والشعراء ونجوم المسرح والسينما والموسيقى.

وخلال إقامته فى لندن لفترة طويلة نسبيا، وجدتنى أتواصل معه وأطرح عليه فكرة رصد تاريخه وإنجازه الفنى فى سلسلة أحاديث نجمعها ونوثقها بالصور والمستندات وننشرها فى كتاب. 

وعرضت الفكرة على محمد المعلمْ، صاحب دار «الشروق» وكان قد افتتح مكتبة ضخمة فخمة فى قلب العاصمة البريطانية لندن، ورحب الرجل، وبدأنا العمل والتسجيلات إلى أن فوجئت بالمخرج الرائد يخبرنى بأنه قرر العودة إلى مصر، وأن علىَّ إن أردت استكمال مشروع الكتاب أن أزوره هناك لمدة تكفى للانتهاء من الكتاب، وقدّرت ظروف وارتباطات الرجل، لكننى لم أتمكّن من التفرغ لهذه المهمة، وفشل المشروع.

وتكرّر الفشل مع شخصية أخرى هى الزعيم الجزائرى أحمد بن بللا.. التقيته وقد جاء زائرا ومتحدثا وخطيبا فى مؤتمر شعبى سياسى بريطانى شارك فيه زعيم سياسى بريطانى كبير هو «تونى بن» وطلبت إجراء حديث معه للنشر فى «صباح الخير» فاعتذر، وأوضح لى أنه منقطع منذ سنوات عن التحدث إلى الصحافة والإعلام عامة، لكننى نجحت فى جعله يستجيب لى ويتراجع عن مقاطعته للصحافة والإعلام عموما، بحيلة بسيطة، فأنا أعرف عمق حبه وتقديره للزعيم عبدالناصر، فقلت له ما معناه أنه مسئول أمام الشعب العربى والمصرى عن الإشارة إلى علاقته بعبدالناصر وعن ظروف وخفايا ثورة الشعب الجزائرى.

فوجدت وجهه وهو يتعدى الثمانين وقد تحول إلى وجه المحامى الشاب بن بللا الذى قاد معركة استقلال الجزائر، وابتسم قائلا: أى شىء مطلوب منى لذكرى عبدالناصر ألبيه فورا.

وكان الحديث الذى رحب به رؤوف توفيق رئيس تحرير «صباح الخير» وقتها.

ومع أننى لا أحب أن تلتقط لى صور، فقد صمّم الزعيم الجزائرى على أن يلتقط لنا مساعده الخاص صورة خلال حديثنا، وطلب منى أن أزوره فى مقر إقامته فى جنيف وأبقى معه فترة ليمدنى بمادة وثائقية ويكشف لى عن أسرار كثيرة عن ثورة الجزائر.. ولم يكتف بهذا بل عرّفنى على زوجته ورفيقة نضاله اسمها أيضا زهرة، وقال أنها سترحّب بك فى بيتنا، ونحن فى انتظارك.

وللأسف حالت ظروفى دون التمكّن من تحقيق هذا الإنجاز.. وعشت قصة فشل أخرى.

تكرر الفشل عندما تيسر لى أن أجرى حديثا مع فيروز، فى لندن، لكن الأيقونة اللبنانية اقترحت أن يشاركنا اللقاء زميل صحفى آخر، وذلك لضيق الوقت، فما كان منى إلا أن اعتذرت.. رفضت فكرة أن يشاركنى أحد حديثا أجريه مع أحد.. تغريد خارج السرب!

فأنا لا أحب المؤتمرات الصحفية، أحب اللقاء الشخصى مع الطرف الآخر، ولا أحب أن يطلب منى أحد أن أكتب له أسئلتى وأتركه يكتب الإجابات.. فاللقاء وجهًا لوجه تتحقق معه أفضل النتائج الصحفية والإنسانية.

هل انتهت حكايات الفشل؟

لا أظن.. أتذكر حكاية أخيرة، التقيت الفريق محمد فوزى قائد الجيش المصرى الذى خاض بمشاركة شعبية أخطر حروبنا.. حرب الاستنزاف والذى طوّر قواتنا المسلحة بتجنيد الجامعيين.. كان يتلقى العلاج فى لندن وذهبت أزوره وتحدثنا ودعانى لزيارته فى القاهرة بعد عودته ليحقق لى رغبتى فى وضع كتاب عن حياته وأعماله ووعدنى بكشف أسرار كثيرة، لكن قبل أن أغادر لندن لزيارته فى القاهرة كان هو قد غادر دنيانا للقاء وجه ربه.

وجمعتنى الظروف بالدكتور مجدى يعقوب أكثر من مرة وطلبت أن أرصد حياته ونجاحاته وذكرياته، فاعتذر مؤكدًا لى عدم ميله لذلك.

وحدث هذا مع أشرف مروان الذى قال لى أننى تأخرت فى هذا الطلب فمنذ وقت قصير كان قد اتفق مع صحفى آخر «بريطانى» على كتابة سيرة حياته!

فى الأسبوع المقبل نواصل