عادل إمام أسطورة كوميدية لا تتكرر
إعداد: سوزى شكرى
حين نتأمل مسيرته نجد أنه صنع نفسه بنفسه، وأن من أبرز أسرار نجاحه المعافرة والتحدى والتنوع وعدم تكرار أدواره.. زعيم الكوميديا عادل إمام (17 مايو 1940)، لا يوجد فنان فى مصر أو فى العالم العربى أو حتى بالغرب استطاع أن يستمر فنيًا لمدة 60 سنة متواصلة من العطاء السينمائى والتلفزيونى والمسرحى. وقدم خلالها 126 فيلمًا و16 مسلسلًا تلفزيونيا و11 مسرحية ومسلسلًا إذاعيًا, ولم يتعجل البطولة وظل 15 عامًا يقدم أدوارًا ثانوية، إلى أن انطلقت نجوميته وانطلق معها الهجوم من نقاد ورقابة وصدور أحكام ضده.
بعيد ميلاده الـ84 لا يوجد أجمل من أن تقرأ مسيرته وسيرته التى سردها الكاتب والناقد الفنى أيمن الحكيم من واقع الحوارات واللقاءات المتكررة بينهما. قدمها الكاتب بصياغة روائية قصصية مشوقة أقرب إلى اللغة السينمائية المكونة من مشاهد وكادرات وإضاءة حياتية وزمنية وتاريخية وفنية. وذلك بكتابه «الحرفوش - أيام عادل إمام (سيرة روائية) الجزء الأول- الصادر عن دار مركز إنسان2022 فى 320 صفحة».
الزعامة المبكرة
يوم 17 مايو جاء إلى الدنيا وكان العالم كله مشغولاً بالحرب العالمية الثانية واجتياح هتلر للبلدان الأوروبية «عادل محمد إمام بخارينى» من «شها» قرية قريبة من المنصورة، أسرة ريفية بسيطة أنعم الله عليهم جميعًا بخفة الدم التى توارثها عادل. الجد كان أشهر ظرفاء القرية ابن نكتة يطلق قفشات يجذب أهالى القرية بجلساته. والده يعمل فى وظيفة ميرى بوزارة الداخلية بالقاهرة، ورغم جديته وهيبته فإنه أيضا يملك طريقة خاصة فى السخرية.
عادل كان شابًا نحيفًا غاية بالشقاوة مشهور فى الشارع يلعب كرة شراب، لا يمر أحد من إمامه دون أن يداعبه، ونصبوه زعيمًا لهم. ووالده لا يعرف سوى الضبط والربط، وهو على قناعة أن الدلال مفسدة لا تصنع رجالًا.
وبسبب شقاوته كان يعاقبه والده بالضرب محبة وخوفًا عليه فهو ابنه البكرى.
بحى الحلمية كانت أولى خطوات تكوين شخصيته وأفكاره واكتشاف موهبته بالتمثيل. بالمدرسة الابتدائية كان يسأل أسئلة كبيرة على عقله الصغير لم يستوعب أن بالحياة يوجد فقراء وأغنياء، تعرض للتنمر من زملائه بسبب ملابسه البسيطة. وتعويضًا عن عقاب والده وتنمر زملائه، قرر أن يصنع لنفسه لحظات من الفرح.
وبالصدفة.. عثر على الكنز الذى غير حياته، اكتشف أنه قادر على إضحاك الآخرين، ويمتلك ميزة خاصة جعلته متفوقًا على زملائه. تفنن فى ابتكار المقالب والحركات، وأشهر الحركات التى استمر عادل يقدمها بأفلامه وأصبحت إحدى حركاته الكوميدية وهى (أن شخصًا يمد يده ليصافحه وعندما يهم بمد يده يفاجئ الآخر بأنه سحب يده).
ومنحوه لقب زعيم المشاغبين بالفصل، يبدو أن عادل إمام حصل على الزعامة مبكرًا، فى شوارع الحلمية زعيمًا وفى المدرسة زعيمًا.
صدق اختيار الكاتب أيمن الحكيم فى وصف عادل إمام بـ«الحرفوش» فى عنوان الكتاب، فهو يكره المذاكرة لأنها تحرمه من الشارع وشلة الصعلكة وشخصيات قهوة عكاشة بالحلمية. كان التقليد بوابته للتمثيل، و-خصوصًا- تقليد الكاراكترات «الملفتة» بملامحهم وطريقه نطق كلامهم. كان «يزوغ» من المدرسة للسينما والحفلات الصباحية ومعجب بشارلى شابلن ولوريل وهاردى والكوميديان المصرى المحبب له «شرفنطح» جاره فى الحلمية.
وأول من دله على موهبته بالتمثيل أستاذ مسعود مدرس اللغة الإنجليزية. بالحصة قرأ عادل درسًا بمادة اللغة الإنجليزية بطريقة كوميدية أضحكت الفصل وأعجبت المدرس وتنبأ أنه سيكون ممثلا.
الرفيق عادل إمام
بالتأكيد فترة المراهقة لشاب متمرد وشغوف بالمغامرة قد يجعله فضوله أن يخوض تجارب تفوق إدراكه لأبعادها. كانت مصر تطالب بالتخلص من الاستعمار الإنجليزى، وكان عادل إمام الطالب بالصف الثانى الثانوى يخرج بالمظاهرات بالحلمية، وكانت الحلمية معقل أنصار حزب الأغلبية «الوفد» و«يساريون» و«شيوعيون»، وأيضًا الحلمية كانت مركزًا رسميًا لقيادات جماعة الإخوان المسلمين.
سعى صديقه أن يضمه لخلية سرية تتبع العمال والفلاحين وتحدث معه عن أهداف ومبادئ الحزب، وحضر عادل الاجتماع الأول للخلية ومنحوه لقب «الرفيق عادل»! فى نفس اللحظة انسحب عادل وخرج مسرعًا وكانت أقصر تجربة حزبية بتاريخ الحزب.
واستمر شغفه للمعرفة فذهب عادل بنفسه إلى جماعة الإخوان المسلمين بدافع وطنى فى حدود إداركه أن لديهم «كتائب» تقاتل ضد الإنجليز فى القنال، ولم يكن يعرف فكرهم أو عقيدتهم. صدم فى أول اجتماع حضره والحديث كان عن «السمع والطاعة» ومثلما رفض عادل أن يكون الرفيق عادل، رفض أن يكون الأخ عادل، وخرج سريعًا وفشلوا فى تجنيده. وفى التجربتين أنقذ عادل من الفخ ذلك الوزاع الدينى والأخلاقى للإسلام الصحيح الذى تعلمه على يد المواطن المصرى الأصيل والده «محمد إمام».
وأخيرًا نجح عادل بالثانوية العامة ودخل كلية الزراعة جامعة القاهرة. وهنا نتذكر المشهد بمسرحية «مدرسة المشاغبين» عندما قال عادل إمام أو بهجت الأباصيري: «فين أيام رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين وعلى مبارك وزكى جمعة مين زكى جمعة ده..؟
هو رئيس جماعة التمثيل بكلية الزراعة أراد عادل تقديم التحية له تقديرًا لمساهمته فى تكوين شخصيته الثقافية والفنية، عرفه على الموسيقى الكلاسيك وحضور حفلات الموسيقى، دله على أهم الكتب منها كتاب «فن إعداد الممثل»، رشحه لخلافته رئيسًا لفريق التمثيل، لذا يعتبره عادل أحد رموز الثقافة والتنوير. قدم عادل بالكلية عروضًا كثيرة تراجيدية بالفصحى من المسرح العالمى منها «ثورة الموتى».
بلد شهادات صحيح
بمسرح الهوسابير جلس عادل ينتظر صديقًا له يعمل بالمسرح، وكانت بروفات مسرحية «أنا وهو وهى»، عرضت السيدة «فايزة عبدالسلام» مديرة المسرح على عادل أن يقدم دور «الأستاذ دسوقى أفندى». مؤلف العرض ومنتجه سمير خفاجى رفض منحه الدور، ورفضت شويكار بينما وافق فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولى مخرج العرض.
كان المرشحون للدور محمد عوض واعتذر، وأيضا سعيد صالح اعتذر. واشتهر عادل بجملته «بلد شهادات»، حتى إن كوكب الشرق أم كلثوم التقت بالطائرة فرقته المسافرة لعرض المسرحية بالكويت وسألت الفرقة فين الولد بتاع بلد شهادات. ووصلت شهرته للرئيس جمال عبدالناصر الذى ابتسم له ابتسامة تنم عن إعجاب وألقى عليه التحية أثناء مروره بالصدفة بالشارع.
بعد نجاح مسرحية «أنا وهو وهى» أراد المخرج فطين عبدالوهاب تحويلها لفيلم سينمائى وقدم عادل نفس دوره «دسوقى أفندى» توالت عروض المنتجين على عادل ليقدم نفس الشخصية بأفلام أخرى استغلالا لنجاحه. رفض تكرار الشخصية حتى لا يكون سجين الدور الواحد. وتسبب رفضه أن ظل عادل عامين دون عمل.
إلى أن أنقذه المخرج فطين عبدالوهاب صاحب الفضل الأول فى مشواره وقدمه بعدة شخصيات وأفلام متتابعة: المدير الفني 1965، مراتى مدير عام 66، كرامة زوجتى 67، عفريت مراتى 68، سبعة أيام فى الجنة 69، نص ساعة جواز 69، رحلة لذيذة 71، أضواء المدينة 72. ثم دور البطولة البحث عن فضحية 1973 مع سمير صبرى، وأكمل الفيلم المخرج نيازى مصطفى بعد وفاة فطين عبدالوهاب.
وعادل وحليم صديقان ورفيقان، وقال عنه حليم: «عادل إمام هو أجمل اختراع للقضاء على الحزن والاكتئاب». وكمال الطويل الملحن يرى أنهما متشابهان فى بعض الصفات مثل العناد والرهان على جمهورهما وليس النقاد. كان حليم يحضر عروض مسرحياته وأثناء عرض مدرسة المشاغبين طلع حليم على المسرح وقدم التحية للجمهور. وقدما معًا مسلسلًا إذاعيًا «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» 1973.
فوق صفيح ساخن
لم يتعجل عادل البطولة المطلقة بالسينما شارك فى 56 فيلمًا، وظل لمدة 15 عامًا يقدم أدوارًا أقرب إلى البطولة الجماعية والثانوية وبفيلم «رجب فوق صفيح ساخن» 1979 أول فيلم يحذر من هجرة الفلاحين الداخلية إلى العاصمة وترك أرضيهم وإهمالهم للزراعة. حقق الفيلم إيرادات113 ألف جنيه خلال 36 أسبوعًا رقم خيالى فى تلك المدة وأحدث انقلابًا فى سوق السينما المصرية على حد قول الناقد سامى السلامونى. وتعرض لهجوم من النقاد بأنه فيلم تجاري، إلا أن الفيلم فاز بجائزة بمهرجان جمعية الفيلم.
وقال النقاد إن «مدرسة المشاغبين» أفسدت جيلًا بأكمله، وبمسرحية «شاهد ماشفش حاجة» أول بطولة قادته إلى المحكمة بتقرير رقابى يتهمه بإعاقة «مسيرة السلام» وذلك بمشهد محاكمة «سرحان عبدالبصير» قال فيه عادل: «مين بيجين» علم عادل أن الرئيس السادات ضحك عندما شاهد المشهد، ومع ذلك صدر حكم غيابى بحبسه ثلاثة شهور انتهى بالبراءة. وبفيلم «الأفوكاتو» بسبب دور المحامى «حسن سبانخ»، وغضب المحامين صدر حكم بحبسه سنة مع الشغل!
مع الكاتب الكبير وحيد حامد كانت أول النجاحات مسلسل «أحلام الفتى الطائر» ونجاح أسطورى، ثم بالسينما: الإنسان يعيش مرتين، انتخبوا الدكتور سليمان عبدالباسط، فيلم «الغول» الذى قدم متغيرات زمن الانفتاح الاقتصادى بعد عرضه منعته الرقابة بحجة أنه يحمل إسقاطًا سياسيًا، ثم أعيد الفيلم مرة أخرى إلى دور العرض. ولم يخش عادل «اللعب مع الكبار» ودخل أعشاش الدبابير وحين كتب وحيد حامد مقالًا لـ«روزاليوسف» بعنوان «الجارحى» حوله إلى فيلم «الإرهاب والكباب».
تدخل سيناريوهات أفلام عادل الرقابة وتتم مراجعتها بدقة، ومع ذلك طالته الاتهامات من عدة جهات قالوا: عادل إمام فنان السلطة وأعماله تصب فى خدمة الحكومة، وبسبب ارتدائه «الجينز» اتهم بأنه يغازل الانفتاح الاقتصادى وأن جمهوره من الصنايعية والحرفيين والسكرية، ولم ير عادل أن فى ذلك تهمة فهم فئة من شعب مصر نفخر جميعًا بهم.
أنصفه بعض النقاد بأن أفلام عادل إمام غيرت مفهوم النجم بالسينما المصرية، وأصبح البطل يشبه الناس فى ملامحهم وبساطتهم وحتى ملابسهم. وأن «الجينز» عنوان لمرحلة سينمائية جديدة بل كان الزى القومى للشباب. لأن الشعب اعتبره ممثلهم على الشاشة، شاب بسيط يحلمون معه بالصعود والنجاح ويسعى لكى ينتقم لهم ممن ظلمهم. حين اشتدت موجة الإرهاب باسم الدين فى التسعينيات وقتل الكاتب الكبير «فرج فودة» زميل عادل بكلية الزراعة. دخل عادل معركته مع قوى الظلام وقدم مع لينين الرملى والمخرج نادر جلال فيلم «الإرهابى» وظهرت شخصية فرج فودة التى جسدها الممثل محمد الدفراوى باسم «فؤاد مسعود». وتم التصوير تحت حراسة الشرطة ووضع الإخوان عادل إمام ضمن قوائم المطلوبين للاغتيال. وجاء رد عادل عليهم بفيلم «طيور الظلام».
يبدو أن عادل قدره كفنان صاحب رسالة أن يقدم عروضه تحت الحراسة، وبدافع وطنى فى محاربة الإرهاب الأسود سافر أسيوط 1988 يعرض مسرحيته «الواد سيد الشغال» تضامنا مع شباب ممثلين هواة قتل أحدهم من قبل المتطرفين والباقى تعرضوا للضرب «بالجنازير» والمطاوى أثناء عرض مسرحيتهم. وكان العرض بمسرح مكشوف وقدم رسالته أن الفن ليس حرامًا.
استمرت معاركه بعدد من الأفلام «السفارة فى العمارة» حولت الرقابة سيناريو الفيلم إلى جهات سيادية نظرًا لحساسية الموضوع. وبعد معاناة وصل الأمر إلى الرئيس مبارك الذى أرسل لعادل إمام رسالة: «اشتغل يا عادل».
وأيضًا «عريس من جهة أمنية» حصل على الموافقة بعد إجراءات كثيرة. «حسن ومرقص» قصة الشيخ والقسيس والدعوة للوحدة الوطنية ونبذ الفتنة الطائفية، طاله الهجوم أنه ذهب ليأخذ موافقة الكنيسة ولم يذهب للأزهر!
على حد وصف عادل إمام: أنا أكثر ممثل اتشتم فى تاريخ السينما المصرية، بل فى مصر كلها. لم أعاتب ناقدًا على ما كتبه لأن الذين يستحقون لقب ناقد معدودون أعرفهم واحترم رأيهم منهم: رجاء النقاش، لويس عوض، على الراعي، لويس جريس وغيرهم. وبمكتبى أحتفظ بمجلدات تضم كل مقالات «الشتيمة» وأضعها باعتزاز جنبًا إلى جنب مع مقالات المديح والإعجاب، كلاهما جزء من تاريخى».