الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أوهام الحب وصداقات العمر

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

لماذا عملت فى صحف ومجلات أخرى منذ السنوات الأولى لى فى «صباح الخير»؟

سؤال لابد أن يخطر على بال من يتابع هذه الحكايات، والذى أريد أن أوضحه هنا هو أننى كنت طوال الوقت وحتى الآن أعمل فى موقع رئيسي، ومن وقت لآخر أقوم بأعمال صحفية جانبية غير أساسية، من ناحية لتوسيع مجالات اتصالاتى وخبراتى واستكشاف قدراتي، ومن ناحية أخرى لسد حاجتى لدخل أكبر يغطى مظهرى العام وتكاليف العمل الصحفى والكتب والصحف والسينما والمسرح، والتاكسيات، فأنا لا أحب قيادة السيارات ولا أعرفها.

 

فخلال سنواتى الأولى فى الكلية كنت أشترك فى تغذية باب «حديث المدينة» اليومى فى جريدة «الأخبار» ويشرف عليه نبيل عصمت، وهو عبارة عن لقطات إخبارية اجتماعية سريعة لنجوم المجتمع، وأمده بأخبار من محيط الكلية وأساتذتها ومجتمع «ريش» والأدباء و«الأتيليه» والفنانين التشكيليين، وكنت أحصل على نصف جنيه مقابل كل خبر ينشر لى.

فكان يتجمع لى نحو 10 إلى 15 جنيها كل شهر تضاف إلى 10 جنيهات من «صباح الخير» كمحرر تحت التمرين.

 

 

 

وعملت فترة فى تحرير مجلة الأطفال  «كروان» التى كان يرأس تحريرها نعمان عاشور، ويخرجها محيى الدين اللباد الذى خصص لى صفحتى «الدوبل» وسط المجلة وحولهما إلى «جريدة الأربعاء» مقابل بضع جنيهات كل شهر، لكن السلطات أغلقت «كروان» بوشاية تتهم نعمان عاشور بأنه يشيع أفكارا مضادة للنظام وقتها، أو هكذا علمت.

الكتابة هنا وهناك

وتواصلت معى فكرة الكتابة هنا وهناك.. فى صفحة الأدب فى «المساء» وفى مجلة «سنابل» الثقافية الشهرية التى أطلقها صديقى الشاعر السابق لزمانه محمد عفيفى مطر وكنت أقوم فيها بدور الناقد التشكيلي، مقابل بضع جنيهات أيضا.

بالإضافة إلى «الشباب العربي» التى كان من زملائى فيها مصطفى الفقى مدير مكتبة الاسكندرية السابق، وأسامة الغزالى حرب، رئيس تحرير «السياسة الدولية» فيما بعد، وفرحات حسام الدين، وهما من كتاب «الأهرام» ومحمد عبد الحكم دياب من كتاب «ْالقدس العربي» اللندنية.  

وكتبت أحيانا    فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» كما عملت فى جريدة «العمال» التى كانت تصدر أسبوعيا من مكاتب ملحقة بمطابع الشعب فى شارع قصر العينى وكان رئيس تحريرها عبد الله إمام وسكرتير التحرير سامى محمد على، الذى أصبح مخرجا تلفزيونيا الآن، وتعرّفت فيها وزاملت سعاد زهير وابنها لينين الرملى وفاروق أبوزيد عميد كلية الإعلام فيما بعد، وكان وقتها محررا فنيا فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» وزميله محمود على، ومن شباب الصحفيين بدر الرفاعى وعلاء عزيز وعبدالمعطى أْحمد، وهو من كتاب «الأهرام» الآن وماجدة موريس رئيسة تحرير «شاشتي» فيما بعد.. وكان كل ذلك فى مراحل مختلفة طبعا. 

وفى فترة من الفترات كنت أكتب قصص الأطفال وأشارك فى تحرير مجلة «حسن» التى يرأس تحريرها محمود سالم ويديرها فنيا صديقى عادل البطراوى الذى كان أحد اكتشافات عمنا حسن فؤاد. 

 

 

 

 هى الأساس

ومع ذلك كان عملى فى «صباح الخير» هو الأساس وهو الأهم.. وأتذكّر أننى عندما كنت لا أزال طالبا فى كلية الفنون الجميلة، كنت أتمتع بمزايا خاصة وعلاقات قوية بينى وبين الأساتذة حتى من كان منهم ممن لا يدرسونني، فكلهم يعرفون أننى صحفى وأكثرهم يتقرّبون منى لنشر أخبار معارضهم وأعمالهم الفنية وأبحاثهم أو لاستطلاع آرائهم ضمن موضوعاتي، ومنهم فنانون كبار ومشاهير مثل جمال السجينى وصلاح عبد الكريم وحامد ندا.. وغيرهم، ولا أنسى يوما استدعانى فيه عميد الكلية فظننت أنه ضاق بنشاط ثقافى كنت أشارك فيه بهمّة وندعو إليه شخصيات من الكتاب والشعراء والسياسيين والفنانين تحوّلت معه الكلية إلى مركز ثقافى، وكنّا نقدم عروضا فنية مسرحية وغنائية ومن الشعراء كان ضيوفنا عبد الرحمن الأبنودى وعبد الرحيم منصور ومجدى نجيب..وأيضا سميرعبد الباقى وفرج فودة وكانا وقتها من طلبة كلية الزراعة.. ولم يكن فرج فودة قد تحوّل إلى مفكر سياسى علمانى مرموق.. المهم تبين لى أن العميد يريد منى أن أنشر خبرا يتعلق به! 

وكان معنى ذلك أن العميد وبالتالى السلطات المختلفة، لا تعارض نشاطنا الذى كان محوره بعد هزيمة 1967 قد اختلف تماما عن البدايات التى أطلقناها قبل ذلك بثلاث سنوات، فأصبح الكلام عن استرداد الأرض واستعادة سيناء ورد كرامة الشعب المصرى ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة العسكرية هو القاسم المشترك فيما يقدّم من أشعار وعروض مسرحية «مونودراما» وندوات وطبعا معارض تشكيلية.

أرجع إلى الصداقة التى ربطت بينى وبين فرج فودة فأتذّكر أننى وقتها – فى 1964 وكنت طالبا جديدا على القاهرة - أزور صديقة لى قادمة مثلى من السويس والتحقت بكلية الزراعة وأعرفها من أيام اجتماعات ورحلات اتحادات الطلبة فى السويس وعشت معها فترات جعلتنى أشعر بسذاجة، أنها حالة حب.. وفى صحبتها تعرّفت على الطالب عادل إمام، نجم الكوميديا فيما بعد، وحضرت عروضا لفرقة كلية الزراعة شارك فيها، وتعرّفت على شاعر العامية اليسارى سمير عبد الباقي، وشاعر العامية فرج فودة، ودعوتهما للمشاركة فى أنشطتنا الثقافية والفنية فى كلية الفنون الجميلة ومن الذكريات التى لا تنسى أن سمير عبد الباقى وكذلك مجدى نجيب ارتبطا بقصص حب وزواج من زميلات لنا فى الفنون الجميلة نشأت من إعجاب البنات بهما وزياراتهما المتعددة لنا. 

أما حبيبتى المتوهمة فقد كشفت لى أن أهلها خطبوها رغما عنها لشخص لا تحبه!

وظلّ فرج فودة صديقا لى حتى بعد أن تخلى عن شعر العامية واتجه بكل حماس لمشروع اقتصادى زراعى هو معامل تفريخ الدواجن..وكنت أشاركه فى وضع خطط الترويج للمشروع وكان سخيا فى مكافأتى ويرفض رغبتى فى معاونته دون مقابل، كصديق، وبعد هجرتى انقطعت اتصالاتنا للأسف لكننى كنت أتابع عن بعد تحوّله إلى مفكر سياسى علمانى يقاوم فكريا كل مظاهر التخلف فى فكر السلفيين والرجعيين المتأسلمين.    

ولو كنت فى مصر وقتها لكان لى موقف مساند له على الدوام، أما هؤلاء الهمج الذين اغتالوه فقد أثبتوا بفعلتهم المجرمة أنهم لا يملكون قوة فكرية حقيقية.. ولذلك استخدموا سلاح الغدر والقتل. لكن غباءهم جعلهم ينسون أن فرج فودة حى بأفكاره التى لا تموت.

أعود للحبيبة المتوهمة وأتمنى أن تكون قد تحققت لها بعض أمانيها، وإن كنت أشك فى ذلك مادام زواجها قد تم بصيغة الصفقة بين عائلتين كما شرحت لى باكية.

 

 

 

ومن ذكريات الصداقة لا أنسى الشاعر المسكون بالمعانى النبيلة وأفكار التجديد وكان أيضا طالبا فى كلية الزراعة أحمد عز الدين الذى أخذته ندّاهة الصحافة السياسية فأصبح من أشجع من واجهوا الفساد فى زمن مبارك قبل ثورة يناير بأكثر من عشر سنوات، وضحى من أجل ذلك بالكثير.   وتعود بى الذاكرة الآن إلى حكاية أسميها «سفينة نوح» عندما وجدت الناقد الأدبى رجاء النقاش وهو محرر سابق فى «صباح الخير» يترددّ على مجلسنا فى مقهى «إيزائيفيتش» المطل على ميدان التحرير  فى أواخر الستينيات فيما أعتقد، حيث يلتقى شباب الأدب والفن والصحافة والسينما، ماذا كان يريد؟ كان قد تعاقد على رئاسة تحرير مجلة ثقافية شهرية تصدر فى قطر اسمها «الدوحة» بهدف منافسة مجلة «العربى» الكويتية التى أسسها أيضا كاتب وعالم مصرى قدير هو الدكتور أحمد زكى.

جاء رجاء النقاش يبحث عن طاقم لمجلته الجديدة، وعندما وصل عندى شرحت له موقفى الرافض للعمل فى البلدان الخليجيةْ، فطلب معاونته فى ترشيح من أراهم مناسبين للعمل معه، وأذكر أننى قدّمت له أكثر من صديق وصديقة منهم محمد المنسى قنديل وراوية راشد اللذان كانا قد تعارفا من خلالى وتزوجا وسافرا.

وأسمّى الحكاية «سفينة نوح» لأن الفكرة السائدة وقتها كانت أنه من الأفضل أن يتكوّن فريق العمل مع رجاء من ثنائيات، زوج وزوجة، حتى يتحقق لهم الاستقرار فى هذه البلاد، وهو ما حدث بالفعل فصحب معه الكاتب والناقد المسرحى سامى خشبة وزوجته الناقدة السينمائية خيرية البشلاوى.وأزواج وزوجات آخرين، ونجح هذا الفريق نجاحا باهرا.

بيوت السويس ... زنازين!  

خضت خلال عملى الصحفى عدة معارك لم أتعمّدها، وكان سببها المباشر هو قناعتى بأن مهمتى هى كشف الحقيقة وليس مجاراة الحال أو التغاضى عن الخلل والإهمال والتعدى على حقوق الناس.. كنت ابن مصر الناصرية ومن ملايين الشعب المصرى المحب لعبد الناصر والذى تميز بإخلاصه وجديته وجهاده وصلابته فى الدفاع عن الغلابة وعن الكرامة والعروبة، لكن ذلك لم يحل بينى وبين أن أكون يسارى التفكير والنهج، له ملاحظات واعتراضات على بعض السياسات والإجراءآت التى تتخذها دولة عبد الناصر.

تعلّمت الكثير من معاهد الفكر الاشتراكى ومن أساتذة   تتلمذت على أفكارهم وكتاباتهم ومواقفهم وجمعت فى تكوينى الشخصى بين محب الفنون والآداب ومحب الإقبال على الحياة وبين الحريص على مقاومة وكشف كل مظاهر الانتهازية والفساد فى حدود عملى كصحفى.

فلم تكن لدى فى أى وقت من الأوقات رغبة فى الانضمام إلى أى تنظيم سياسى سرّى أو علني، كنت أرى أن أى انضواء تحت أى حزب أو تنظيم فيه خطرعلى كيانى وحريتي، وكنت أعتبر نفسى حزبا مستقلا عن كل حزب.. وكنت أرى أن انضمامى لحزب سوف يسلبنى حريتى بدعوى الالتزام بخط الحزب، كرهت ذلك، وحتى عندما كنت أشترك فى تحرير مجلة « الوعي» التى يصدرها اتحاد الشباب القومى فى السويس، عندما كنت تلميذا فى المدرسة الثانوية وزعيما طلابيا، لم أكن عضوا فى هذا الكيان التابع للاتحاد القومي، التنظيم السياسى الواحد السابق على قيام الاتحاد الاشتراكى العربى.

وفى مرحلة تالية بعد هزيمة 67 كنت محررا صغيرا فى «صباح الخير» وفى الوقت نفسه فى مجلة «الشباب العربي» التى تصدرها منظمة الشباب مع أنى لم أكن عضوا فى المنظمة.. ولم يكن رئيس تحرير المجلة الدكتور مفيد شهاب، الأمين المساعد للمنظمة يمانع فى ذلك.

وخلال دراستى فى كلية الفنون الجميلة تشكلت مجموعة من زملائى وانضمت إلى تنظيم سرّى شيوعى على نهج ماوتسى تونج، وبتأثير من كتابه الأحمر، الذى كان رائجا فى مصر فى ذلك الوقت، وكان من بينهم صديقى وزميلى محسن جابر، وقبض عليهم واعتقلوا لفترة وعندما عادوا سألت محسن عن سبب عدم التحدّث إلى عن هذا التنظيم، ولماذا لم يطلب منى الإنضمام؟

 

 

 

ابتسم صديقى فنان الكاريكاتير المختلف، ابتسامته الصعيدية المميزة وقال فى شبه خجل:

- لأننى أعرف أنك ترى نفسك حزبا وحدك!.. والحقيقة أنا خفت أنك تراجعنى وتهز الفكرة فى دماغى.

ولعلنى أتذّكر الآن عرضا من صديق عزيز وفنان كاريكاتير لايتكرر هو صلاح الليثي، فقد جمعتنا سهرة طويلة فى بيته فى مصر الجديدة طرح فيها علىّ أن أشاركه ومجموعة من الصحفيين من «رزواليوسف» فى العمل مع محمود السعدنى على إصدار مجلة «23 يوليو» التى ستعارض السادات وسياساته التى جرّت مصر إلى الجحيم، وعرّفنى بأسماء بعض المشاركين، ومنهم الفريد فرج وقال إن مشروع المجلة تلقى تأييدا وتمويلا من أحد أمراء الخليج الناصريين بلغ ملايين الجنيهات، حتى هنا لم يكن لدى أى اعتراض، وأعجبتنى الفكرة لأننى كنت أرى أن السادات ضيّع البلد. لكن عندما واصل صلاح الليثى الشرح وأخبرنى أن المجلة ستصدر من لندن، وجدت نفسى أرفض الفكرة.

وقلت له بعد تفكير أننى كنت أظن أنه مشروع صحفي، لكن ما وصفته لى بيّن أنه عملية سياسية معارضة بغطاء صحفى ومن الخارج، وهذا ما أرفضه، الصحافة شىء والعمل السياسى شىء آخر، والمعارضة السياسية يجب أن تكون هنا مع الشعب المصرى المعارض. 

والحقيقة أننى لم أكتف بهذا الكلام بل صمّمت أن يتراجع هو أيضا عن المشاركة فى مثل هذا العمل، وقلت: هل تتصور أنكم من لندن ستطيحون بالسادات؟!.. ياعم صلاح أنت فى غنى عن مثل هذه المغامرات فى هذه السن. كاد الرجل يبكى وهو يكشف لى عن سر قبوله للمشاركة فى هذا المشروع المغامرة كما أسميه- وقال: يا منير يا حبيبى أنت حرّ فى أفكارك والمستقبل أمامك، لكن أنا معذور.. أنا كما تعلم مريض ولا أحد فى هذا البلد يهمه أمرى لا المؤسسة ولا النقابة ولا الدولة نفسها، لأننى من المحسوبين على المعارضة بطريقة من ليس معنا فهو عدونا.. وهذا المشروع هو فرصتى الوحيدة للعلاج فى لندن.

 

 

 

معركة لا أنساها

نعود إلى المعارك وأذكر منها واحدة، لأ أنساها رغم مرور زمن طويل عليها، وقعت بعد نصر أكتوبر، وتكليف السادات للمهندس عثمان أحمد عثمان بتولى وزارة أنشأها خصيصا له، وسماها وزارة التعمير.. واختيرت إحدى زميلاتنا مندوبة لـ «صباح الخير» لدى هذه الوزارة، وذات يوم دق جرس التليفون فى مكتبى فى المجلة وكان المتحدث مدير العلاقات العامة فى وزارة التعمير، قال أن الوزير سيقوم برفقة كبار رجال الوزارة بجولة فى منطقة قناة السويس لمعاينة المساكن الجديدة التى أنشأتها الوزراة للمهجرين من محافظات السويس والاسماعيلية وبورسعيد العائدين لبلادهم بعد انتهاء الحرب، وأنه طلب أن يصحبه وفد من كل الصحف والمجلات لرصد هذه الإنجازات، وطلب إخطار درية بالرحلة ومواعيد قيام طائرات الهليكوبتر المستخدمة فى الجولة التى ستشمل مدن القناة الثلاث وعندما أبلغته بأنها فى إجازة، ترجانى أن أحضر بنفسى وأشارك فى الجولة، ومع أنى لا أتحمس عادة لتغطية أخبار ونشاطات أى وزارة، فقد وجدت نفسى أوافق، ربما لأن الجولة تشمل السويس. 

التقيت فى مبنى الوزارة ببقية مندوبى الصحف والمجلات ولا أتذكر منهم الآن سوى محمد بركات من «الأخبار»- أصبح فيما بعد رئيس مجلس إدارة «أخبار اليوم»- والتقينا الوزير ورجال الوزارة وتحرّكت السيارات ثم الطائرات ونزلنا فى السويس ووجدنا شبه مدينة سكنية جديدة مبنية كلها من الحجر الجيري، قمنا بزيارة أول هذه المساكن وتجوّلنا داخله وقام رئيس إحدى الهيئات التابعة للوزارة - أعتقد أن اسمها كان هيئة التخطيط العمرانى- بتقديم شرح تفصيلى عن المشروع أمام لوحة وخرائط وأرقام وتواريخ و..و. وكان عثمان أحمد عثمان الذى أراه لأول مرة فى حياتي، يتحرّك ويتصرّف كما لو كان أحمد عبود باشا الذى كان يملك مصانع الأسمدة فى السويس ورأيته مرة واحدة وكان يتصّرف كما لوكان إلها وحوله العباد والعبيد، فكرهته، وكان ذلك قبل التأميم بسنوات قلائل.

سأل بعض الزملاء بعض الأسئلة وكان واضحا أنهم خاضعون تماما لسلطة الوزارة وسيادة الوزير وعلمت فيما بعد أنهم كانوا يحصلون على مكافآت من الوزارة تفوق رواتبهم، ولم أجد فيهم من لاحظ أن هذه المبانى التى تشبه الزنزانات الضيقة ضعيفة الإضاءة والتهوية والتى تسلخ من يسكنها لشدة حرارتها الداخلية وضيقها.. فاستوقفت الدكتور رئيس الهيئة، وهو يواصل الشرح بسعادة، والوزير يستمع بعظمة ورجال الوزارة يحتفلون به والمندوبون الصحفيون سعداء أيضا وصامتون، سألت الرجل فجأة: هل يمكنك يادكتور أن تسكن فى هذه البيوت؟

صدم الرجل، بسؤالى ولم يرد، أسقط فى يده، فقط نظر إلى المهندس الوزير، فقلت له أن أهل السويس ضحوا بحياتهم واستشهد منهم من استشهد وهجّرت عائلاتهم وتعذّبت، وكانوا يسكنون فى بيوت حقيقية وليس فى هذه الزنازين.. كيف تتخيل أن يسكن هؤلاء الناس فى مكان لايصلح لسكنى بنى آدم؟

تعكّر وجه الرجل واضطرب ونظرمجددا إلى الوزير المهندس عثمان أحمد عثمان، الذى بدا عليه الاستياء، وهتف فى وجهى بما معناه: ماذا تقول.. هل أنت مهندس معمارى؟.. أنت صحفى ماذا أفهمك فى عملنا؟

وجدت نفسى أرد بأننى من أبناء السويس كما أننى درست العمارة وأعرف أبسط الشروط الواجب توافرها فى أى بيت.. وما أراه أمامى ليس أكثر من زنازين.

تكهرب الجو.. وسمعت همسات من بعض الزملاء الصحفيين تعنى أننى عكّرت جو الرحلة وأغضبت الوزير، واقترب منى مدير العلاقات العامة مقترحا أن نؤجل المناقشة حول هذا الموضوع إلى وقت آخر عندما نعود للاستراحة ووقتها يمكن لى التحدث بهدوء مع الباشمهندس الوزير والدكتور رئيس الهيئة.

أما عثمان أحمد عثمان، فسألنى مستنكرا: من أى مؤسسة، فأجابه مدير العلاقات: «روز اليوسف» يا فندم الأستاذ منير مطاوع سكرتير تحرير مجلة «صباح الخير».

فقال: يعنى شيوعى وجاى تعمل فركشة بقى!

فقلت له متسائلا: هل أنت وزير التعمير أم وزير الداخلية؟.. لماذا لاتجيب أنت والدكاترة المهندسين على سؤالى البسيط: هل تقبل أن تسكن هذه الزنازين؟.. هل عانى أهل السويس كل هذه المعاناة لكى تسجنوهم هنا؟ لم ينته الأمر، ولم يرد الوزيرأو أحد مساعديه على سؤالى، وقال مدير العلاقات العامة الذى شعر بأن وظيفته فى خطر لكونه من أحضرنى هنا: يا أستاذ منير دعنا نكمل الجولة وسيجلس معك سعادة الوزير ليشرح لك الأمر. وكان برنامج الرحلة يقتضى السفر بالطائرات الهليكوبتر فى اليوم التالى إلى الاسماعيلية، فأعلنت أننى لن أواصل الرحلة وأطلب ردا رسميا على سؤالى.

 

 

لقاء منفرد مع الوزير

عندما علم الوزير بذلك طلب مقابلتى منفردا، وكان فى معيته رئيس الهيئة ومدير العلاقات العامة، قدّم لى مشروبا من عصير الفواكه وحاول أن يكون هادئا، ثم سألني: انت ليه يابنى واخد الأمور بشدة وتشنج؟

رددت: لاتشنج ولاحاجة، هو سؤال واحد أريد منكم الإجابة عليه.

عاد إلى أسلوبه المتعالى ونسى محاولة أن يكون هادئا، وصرخ فى وجهى: انت مضرب عن العمل.

قلت بهدوء: يا باشمهندس أنا لا أعمل عندك وليس من حقك التدخل فى أسلوب عملى.

وتركته إلى حجرة الاستراحة المخصصة لي، فإذا بمدير العلاقات العامة، يأتى هامسا بما معناه أننى سأتسبب فى طرده من وظيفته، وأن هذا بالتأكيد لا يرضيني، وأن علىّ أن أساير الأمور، ولا أسبب المتاعب، وأنه سينتظرنى فى الصباح فى موعد انطلاق الطائرات.

قلت له إننى الآن أدرك أن ما يحدث فى هذه الوزارة هو عكس المطلوب منها الذى ينتظره الناس.

قال: يا أستاذ، لماذا لا تكون مثل بقية زملائك ومنهم من هو أكبر منك سنا وخبرة، ولم تصدر منهم اعتراضات مثلك؟

أنهيت النقاش غير المجدى بالقول أننى سأعود إلى القاهرة غدا على  نفقتى الخاصة وسأكتب سؤالى فى المجلة وعليكم الرد عليه فى العدد التالى.

فقد الرجل كل أمل فى أن يستميلنى فيصعب علىّ حاله، فمضى.. وبعد قليل فوجئت ببعض الزملاء من الوفد الصحفى يأتون للحديث معى، أكبرهم سنا مندوب «الأهرام» الذى وجه لى تهمة إفساد الرحلة، وتهمة أخرى هى أننى لا أفهم فى الصحافة، لأننى كان يجب أن أسكت تماما ثم أكتب ما أريد بعد ذلك.

أما محمد بركات، الذى لا أنسى اسمه، لأنه نفس اسم صديق صحفى آخر، هو الناقد الفنى لمجلة «الإذاعة والتليفزيون» الذى اشتهر بمعاركه الصحفية وخناقاته التى حضرت بعضها، بالضرب واللكمات والشلاليت مع الممثلين والمخرجين وغيرهم.  

المهم كان بركات «الأخبار» هادئا وكان الوحيد تقريبا من الوفد الذى عبّر عن مساندته لى وحقى فى الأسئلة وكل شئ، لكنه كان فى الوقت نفسه يطلب منى تمرير المسألة حتى تمضى الرحلة على خير!

هل انتهت الرحلة؟.. لا.. فقد قطعتها وعدت إلى القاهرة، ورويت ماجرى لرئيس التحرير فطلب منى أن أكتب ما أريد قوله وأن أطلب من الوزارة الرد على سؤالى.

كتبت وسلّمت الموضوع، لكننى فوجئت بأن العدد الجديد من المجلة لا يحتوى عليه. وعلمت بعدها أن الأمور تطوّرت وأن الوزير عثمان أحمد عثمان صمّم وهو يحدّث رئيس مجلس الإدارة عبد الرحمن الشرقاوى، على عدم نشر أى شىء، وكان مفهوما أنه قال أن نشر الموضوع والاعتراض على عمل الوزارة يعتبر إساءة للرئيس السادات، وستكون هذه مسئولية لا يتحملها غيره، فلم ينشر شىء.

بعد ذلك بفترة استقال عثمان أحمد عثمان وتدهورت صحته وألغيت الوزارة التى أنشئت من أجله.

  نواصل فى الأسبوع المقبل