الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أنغام «الأرض الطيبة»

حين نقرأ التراث الغنائى والموسيقى نتوقف أمام عظمة الرواد الذين لهم الفضل فى مسيرة تجديد الفكر الموسيقى والقوالب الموسيقية والغناء. ونتأمل ونتساءل هل ما وصلت إليه الموسيقى يعد امتدادًا وتواصلًا لما قدمه الرواد؟ أم حدث انفصال تام بين الماضى والحاضر؟



وهل يمكن القول إن الموسيقى والغناء اليوم تسكن فى منطقة وسطية حائرة بين التراث والتجديد؟ أم أن المقارنة بين ما كنا وكيف أصبحنا ليست من المنطق لأن لكل عصر أنغامه؟

 أسئلة مشروعة فرضت نفسها أثناء قراءتى لكتاب «سلاطين النغم- من الموشحات إلى الموسيقى التصويرية» للكاتب دكتور ياسر ثابت.

بالموسيقى تكتب سيرة الأرض.. استوقفتنى هذه الجملة البليغة التى ذكرها المؤلف بالمقدمة، وأجدها الأقرب للتعبير عن منطق المؤلف فى سرد السيرة الموسيقية والغنائية من القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين.

 ولكى يكشف عن طبقات الأرض الموسيقية التى توارت بفعل الزمن، استعاد واسترجع وقائع وأحداث وتجارب لرموز وشخصيات من رواد التجديد بالموسيقى والغناء.

بدا المؤلف السيرة الموسيقية بشيوخ الطرب، ثم رواد التجديد منهم: كامل الخلعى، سيد درويش، منيرة المهدية، نجاح سلام. وصولًا للمجدد رياض السنباطى، عبقرى الألحان بليغ حمدى، عمار الشريعى ملك الموسيقى التصويرية، وساحر الألحان جمال سلامة، تيجرمان موسيقار شارع شامبليون، عازف القانون الشهير «محمد عبده صالح»، نبوية سعيد... الملحنة الأولى.

 

 

 

فتح المؤلف العديد من الملفات التى تستحق أن يكون لكل منها كتاب مستقل.

اخترنا لكم بعضًا مما جاء بكتاب سلاطين النغم.

مشايخ الطرب

استجاب بعض الشيوخ لنداهة الغناء وحملوا على عاتقهم لواء التجديد بالموسيقى، وكانت مدرسة «الصهبجية» أولى المدارس الغنائية.

بدأت النهضة الموسيقية والغنائية فى الربع الأول من القرن التاسع عشر، حيث قامت على يد شيوخ الطرب وقد تناول المؤلف سيرتهم بالتفصيل.

أولهم: الشيخ محمود صبح الذى فقد بصره فى الرابعة من عمره، أتقن العزف على العود. تحول من مقرئ للقرآن إلى مطرب.

وعمل مطربًا بالإذاعة الأهلية 1934، وعند افتتاح الإذاعة تمت الاستعانة به ليكون من رواد الإنشاد والغناء. يبدأ الإذاعة بتلاوة القرآن ثم الابتهالات الدينية ليغنى بعدها أدواره ثم يختمها بالتلاوة مرة أخرى. وقد حصل على عدة ألقاب منها: ملك الموشحات، وبيتهوفن العرب، صاحب أقوى صوت، والمنشد.

أما الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب فقد كان ملتحيًا ظريفًا ومغنيًا حاذقًا، تعلم قراءة القرآن وتجويده ثم انطلق إلى عالم الغناء الدنيوى من دون أن يتخلى عن الدينى، ظل يغنى ويلحن حتى تجاوز الثمانين.

أستاذ فى فن الدور والموشح والأغنية الخفيفة، وعلم من أعلام الغناء. حين كان يغنى ويطرب الحضور يهتفون له: «وحياتك كمان يا شيخ المطربين».

ترك ثروة ضخمة من الأغانى التى لم تدون، ومن ألحانه المتداولة إلى اليوم «يا حلو يامسلينى» غناها كبار المطربين منهم صباح فخرى.

 تراث كلاسيكى

يأتي بعده الشيخ «زكريا أحمد», وهو صاحب الخط التراثى الكلاسيكى التقليدى اللحنى الذى لم يهتم بالكتابة الموسيقية الأوركسترالية.

 

 

 

وكان يرى أن الموسيقى والفرق الموسيقية هما خلفية لا غير للصوت البشرى والمغنى هو محور العمل. وهذا ما جعل محمد عبد الوهاب زعيم الخط التطويرى فى الموسيقى العربية يقول عنه مدحًا من باب الذم: «الشيخ زكريا هو متحف الموسيقى العربية».

على الرغم من اهتمامه بالقوالب المتوارثة والشكل الخارجى للدور والموشح فكان يتابع روافد الموسيقى العربية الحديثة، والمسرح الغنائى مكملًا خط سيد درويش، لحّن 54 مسرحية غنائية.

وتظهر فى الصورة الشيخة سكينة حسن، وهى أول قارئة تسجل آيات الذكر الحكيم بصوتها على أسطوانات «أوديون» فى مطلع القرن العشرين, إلا أنها بعد صدور قرار فتوى تحريم هذه التسجيلات انتقلت من تلاوة القرآن الكريم إلى غناء الطقاطيق.

ومن سكينة لكامل الخلعى الذى تحول فى آخر حياته إلى ماسح أحذية!

الخلعى كان شاعرًا موهوبًا، وأديبًا ثائرًا، وموسيقارًا مبتكرًا، وملحنًا نابغة، ومتمكنًا من العلوم الموسيقية، عاصر موسيقيين أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20.

ابتكر الخلعى فى التلحين بعض الأوزان الجديدة وهى مطابقة الميزان الشعرى بالميزان الموسيقى. وكان أول من نبه إلى ضرورة توافق كتابة النوتة الموسيقية للألحان العربية مع النوتة الغربية التى توافق الطبقات الحقيقية للأصوات. وبعد وفاته بعام أقر مؤتمر الموسيقى العربية الأول بالقاهرة 1932 اعتماد كتابة النوتة وربطها بدرجة الصوت الحقيقية واستمر استخدامها إلى الآن.

وكتب الخلعى مجموعة من الكتب الموسيقية، وله السبق فى بلورة فن الموشحات، حيث وضع أكثر من 100 موشح، ولحن 40 أوبريتًا، وردت نصوص تسعة منها فى كتابه «الأغانى للخلعي»، ومنها أوبريتات اشترك معه فيها سيد درويش.

وفى أواخر حياته اشتد الزمان عليه وعبر عن سخطه على قيم المجتمع المقلوبة التى أغنت الدجالين والجهلاء وأفقرت أهل العلم والعلماء، فقرر العمل ماسح أحذية.

ويحكى أنه دخل أحد المقاهى وأشار إليه شخص يطلب تلميع حذائه، فوجده صديقه محمد العقاد عازف القانون، وبعد حوار بينهما أراد العقاد أن يمنحه المال لكن الخلعى رفض وطلب فقط أجرة مسح الحذاء.!

 

 

 

 سلطانة الطرب

منيرة المهدية هي المغنية الأكثر شهرة بين مطربات عصرها، صاحبة أشهر فرقة غنائية استعراضية بالشرق تحمل اسمها.

ولقبت بـ«سلطانة الطرب»، كانت تضيف إلى كلام الطقطوقة وتغير فى موسيقاها. أشهر أغانيها: «أسمر ملك روحى... ياحبيبى تعالى بالعجل». واستغل تاجر التزام شهرتها ووضع اسمها على ماركة سجاير لأول مرة «دخان منيرة».

ومنيرة أول مغنية تسجل لها أسطوانات موسيقية، وهى أول سيدة تقف على خشبة المسرح بمصر والوطن العربى، جسدت شخصية رجل بمسرحية «صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد». استمرت منيرة على المسرح فى تمثيل شخصية رجل بمسرحياتها المترجمة. إلى أن قررت تمثيل أوبرا «كارمن» أول أوبرا مصرية لحنها كامل الخلعى. ولها دور وطنى فى مساندة ثورة 1919 من خلال مسرحياتها. ودخلت عالم السينما فى عدة أفلام. قررت ارتداء الحجاب ولكنها لم تعلن اعتزالها.

أما رياض السنباطى فهو المجدد، بلبل المنصورة، اختارته لجنة من جهابذة الموسيقى العربية كأستاذ لآلة العود بالمعهد.

تفرد فى تلحين القصائد.. فى بدايته تأثر فى تلحينه للقصيدة بالمدرسة التقليدية وأسلوب زكريا أحمد وأخذ من محمد عبد الوهاب المدرسة الحديثة التى أدخلها على المقدمة الموسيقية، وهو من أوائل الموسيقيين الذين أدخلوا آلة العود مع الأوركسترا. 

يقع فى مكانة متقدمة عن محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وزكريا أحمد ومحمد القصبجى.

ورائعته «لسه فاكر» تكاد تلخص مجمل الغناء العاطفى الكلثومى على مدى تاريخ علاقتهما الفنية بالسنباطى نفسه، وهناك أغنيات ثلاث لحنها لأم كلثوم هي: الأطلال، رباعيات الخيام، قصة الأمس.

أما بليغ حمدى فقدم أعمالًا غاية فى التطور والتفرد لم تستعص عليه جملة، فى دقائق يجلس على الأرض ويلحن أغنيته الأولى والثانية لأم كلثوم.

شلال من الإلهام لم يستطع أحد ملاحقة إبداعه، لديه علاقة الحب التى تربطه باللحن لذا؛ بدت نغماته مغموسة بذلك الشغف والهيام العاطفى الشجى. ينتقل بسلاسة عذبة من الشجن إلى إيقاع راقص، مثلما فى الأغنية العاطفية «أنا كل ما أقول التوبة» لعبد الحليم التي لحنت على مقام «نهاوند» الذى يصلح لكل أشكال التأليف الموسيقى.

جمع بليغ بين حالتين من الموسيقى الحزينة والمرحة فى آن واحد. وهو نفس المقام الذى لحن منه «ألف ليلة ولية»، ونجاة «أنا بستناك»، وديع الصافى «على رمش عيونها».

ومن بليغ لنبوية سعيد.. الملحنة الأولى.. أول ملحنة فى العصر الحديث، وهي أيضًا عازفة آلة «الكمان» لحنت نشيد تأبين زعيم الأمة سعد زغلول «أنا انتهيت» الذى بسببه تم نشر صورتها الوحيدة المعروفة وهى تعزف العود بمجلة المصور وكتب تحتها نبوية سعيد موسيقية وملحنة.

وتلك الصورة هى التوثيق الوحيد على كونها عازفة الكمان، التحقت بالإذاعة، وعملت فيها، واكتشفها مخرج الواقعية صلاح أبو سيف وعرض عليها العمل بفيلم «الزوجة الثانية».

قدمت دور فلاحة صاحبة الجاموسة التى تعرضت لظلم واستولوا عليها.. دور بسيط لكنها اشتهرت بجملتها «جاموستى ياعمدة». 

 

 

 

ملك التصويرية

وفي الرحلة يبقى عمار الشريعى ملك المقطوعات الموسيقية، هو أحد الذين وضعوا الموسيقى التصويرية لحياة أبناء جيله ومعاصريه، عمل مع الفرق الموسيقية، أتقن العزف على البيانو والأكورديون والعود والأورج. أول ألحانه «امسكوا الخشب» للمطربة مها صبرى.

تجاوز الشريعى حدود الموسيقى التصويرية المصاحبة للأعمال الدرامية إلى التعبير الصادق عنها، الانطلاقة الأولى كانت مسلسل «النديم».

وتنوعت موسيقاه من تنوع المدارس الشعرية، واعتمد فى التلحين على مهمات الكورال للتعبير عن معاناة المساجين فى المعتقل.