جولات لا تنتهى فى بلاد الآمال المعلقة
من لندن: منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
«مصر التى لا نعرفها» كان عنوانًا لسلسلة قدمتها فى «صباح الخير» على مدى 8 أسابيع، وعندما أتذّكرها الآن أتذّكر أن واحدًا من أهم تطلعاتى الصحفية التى تحققت لى، كانت التعرّف على كل ركن وكل معلم من معالم مصر. سافرت كثيرًا خلال عملى فى «صباح الخير» وغيرها من الصحف والمجلات التى عملت فيها خلال فترة «تحت التمرين» ومنها مجلة «الشباب العربى» التى كانت تصدرها منظمة الشباب الاشتراكى العربى، وجريدة «العمال» التى كان يصدرها اتحاد عمال مصر برئاسة أحمد فهيم، وكان يرأس تحريرها أحد كتاب «روزاليوسف» عبدالله إمام الذى رأس تحرير «العربى» جريدة الحزب الناصرى فيما بعد.
خلال فترة امتدت لنحو 16 سنة قمت بزيارات وجولات وأمضيت أيامًا وأسابيع فى عديد من أنحاء مصر، وأستطيع أن أزعم أننى أعرف مصر وأهلها وحناياها، وغوامضها وحكاياها وأمثالها وطقوسها وتقاليدها، وفنونها الشعبية ومواسمها أكثر من كثيرين.
اختلطت خلال جولاتى الصحفية بكل الأعراق المصرية وشهدت الأفراح والأتراح وسعدت بالصحبة وأنست بالفولكلور والأغانى والرقصات والأزياء والطقوس من شمالها العالى إلى قاعها العميق.
وكنت فى كل الحالات التى تصادف مواسم جمع القطن أو حصاد القصب أو الصيد فى البحيرات أو بناء السد العالى، أشارك الناس ولا أكتفى بمهمتى الصحفية فى الرصد والمراقبة والتحقيق والتسجيل والتعليق، حتى فى زمن الحرب على خط النار فى السويس وباقى مدن القناة كنت أندمج فى أعمال المقاومة ومعاونة الضحايا وأهاليهم.
وأيضًا فى نشاط فرقة «ولاد الأرض» التى أنشأها الكابتن غزالى فى السويس وكتب أشعارها الغنائية العامية لرفع المعنويات ودعم الصمود فى مواجهة العدوان وتجاوز الهزيمة.
ففكرتى عن الصحفى هى أنه ليس مجرد زائر خارجى، بقدر ما هو مشارك عضوى فى مظاهر ومناشط الحياة مع الناس كما فى محاولة حل مشاكلهم.
أستاذ كبير وفنانة قديرة
ولا أنسى أننا فى السويس كنا نغنى مع الفرقة المكونة من متطوعين ومحاربين ومقاومين وهناك تعرّفت لأول مرة على أستاذ كبير فى الصحافة والفكر والوطنية هو محمد عودة، كما تعرّفت على فنانة قديرة تعتبر الفن مشاركة ومقاومة ونهضة هى محسنة توفيق.وتواصلت علاقاتنا، وكانا يشاركان فى مساندة كفاح شعب السويس وكان هناك دائمًا صديقى الشاعرعبدالرحمن الأبنودى الذى أخبرنى فيما بعد أنه يعتبر نفسه ابن «صباح الخير» ـ حتى إنه استقر فى السويس لسنوات.
وعشت أيامًا فى الواحات وصحراء سيناء وشاطئ مرسى مطروح، والإسكندرية ورشيد وبورسعيد وأسوان وقنا ونجع حمادى والمنيا والزقازيق والمنصورة وطنطا والإسماعيلية والسويس طبعًا.. وملوى وأسيوط وكفر الشيخ ودسوق وشبين الكوم وتلا، وبنها والأقصر..وغيرها وغيرها..
جبت بلادى من كل جهة وأعطانى هذا شعورًا إضافيًا بمصريتى وبمصر. ومنحنى قدرة الاطمئنان على المستقبل أيًا كانت معاناة اللحظة.. وتعلمت من الناس والظروف أن الإنسان أقوى من الظروف. وتعلمت أن العلم ليس فى الكتب فقط، لكنه فى قراءة الناس ومعايشتهم والانفتاح على مكنوناتهم.
فى الواحات أدهشنى اهتمام كبير وأصيل من جانب محافظ الوادى الجديد المهندس إبراهيم شكرى، ليس فقط بأهل المنطقة ولكن أيضًا بحمار كان يمر عليه خلال جولاته فى المحافظة المترامية الأطراف.
دخلت أديرة ومساجد وكنائس ووجدت أنها لا تختلف عن بعضها فى شيء..
شاركت فى جمع القطن ولاحظت أنه ليست هناك مشكلة اختلاط بين الأولاد والبنات، كالتى نعانيها فى المدن بسبب العقد والجهل، وميل بعض مدعى التدين إلى التسلّط، لمست بساطة وقوة أخلاق وكرم الإنسان المصرى وإقباله على الحياة ونضاله اليومى وتطلعه لكل خير وعمله ليل نهار، رغم قسوة المعايش.
وفى السويس شهدت بطولات لأفراد عاديين واستشهاد لبعضهم وتضحيات آخرين.
الكل فى واحد
وفى أسوان كانت هناك ملحمة بناء السد، الكل فى واحد.
وفى المنيا استقبلنى المحافظ ممدوح سالم على باب قصر المحافظة، بأدب وحسن ضيافة لكن عندما أصبح وزيرًا للداخلية انقطعت صلتى به تمامًا من جانبى كما حدث مع شعراوى جمعة، وأحمد كامل الذى عرفته محافظًا وانقطعت عنه فيما بعد عندما تولى رئاسة جهاز المخابرات العامة، ومفيد شهاب وفاروق حسنى وغيرهم.. لا أحب الاقتراب من أصحاب المناصب فى السلطة، أفضّل حريتى.
وفى الإسكندرية كانت لى أيام وأيام وسهرات حتى الصباح، لا أنسى المرح الذى يحيط به سيف وانلى من يكون فى صحبته ويأخذنا فى جولة بالحنطور على الكورنيش ساعة العصارى فى صحبة رفيقة عمره إحسان.
وفى الإسكندرية أيضًا كنت أغطى أحداث مظاهرات الطلبة سنة 1968 بقيادة رئيس اتحاد طلبة الجامعة عاطف محمد الصغير الشاطر طالب الهندسة الذى كان زميلًا لى فى السويس الثانوية، وحضرت اعتقال الطلبة للمحافظ أحمد كامل الذى كنت قد تعرّفت عليه عندما كان محافظًا للمنيا، وكان يغطى هذه الأحداث لجريدة «الأهرام» صحفى سيلمع اسمه بعد ذلك هو مكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلى للإعلام السابق.
وفى أسيوط حضرت الاحتفال بمرور عقدين على إنشاء جامعتها وذهبنا إلى هناك بقطار مجرى مخصص للمشاركين فى الاحتفال وكان معنا نحو 20 وزيرًا كان أقربهم إلى قلبى صفى الدين أبو العز وزير الشباب.
وفى الوادى الجديد شاركت المحافظ إبراهيم شكرى والعالم القدير الدكتور رشدى سعيد وزوجتيهما رحلة طويلة فى سيارة رباعية الدفع قطعنا بها جغرافيا الوادى والواحات وعايشنا الناس والآمال الكبيرة فى هذه المحافطة المترامية الأطراف التى وصفتها فى «صباح الخير» بأنها «محافظة الآمال المعلقة».
ولعله وصف كان يليق بمصر كلها.
لا أحد ينام فى القاهرة!
لا أحد ينام فى القاهرة، وليس الإسكندرية فقط، كما فى عنوان رواية صديقى إبراهيم عبدالمجيد، فلو ذهبت إلى الحسين حيث الفيشاوى، أو إلى التوفيقية أو محطة مصر فى ميدان رمسيس أو.. أو.. أو ستجد القاهرة الساحرة ساهرة حتى الصباح، وكانت متعتى فى تلك الأيام من نهايات الستينيات ومشارف السبعينيات أن أعيش وأسهر وأتونّس فى هذه الأماكن وغيرها، أثرثر مع الأصدقاء وأعايش كائنات الليل غير العادية وأقرأ أحوالها..فى أماكن عجيبة منها قهوة الخرس، حيث لا كلام، كل شيء بالإشارة، حتى النكات أو اللعنات.
وفى التوفيقية كان يحلو لنا من وقت لآخر السهر فى مقهى أم كلثوم، وهو مقهى عتيق من طابقين لا يسمع فيه سوى غناء كوكب الشرق ولا تشاهد على جدرانه سوى صورها وصور حفلاتها وكأنه متحف صغير، يتجمع فيه عشاق فنها يشربون الشيشة والمشاريب المصرية من القهوة والشاى إلى السحلب والكركديه والينسون وغيرها. ومن طبيعة هذا المكان المدهش أنك لا تتمكن من التحدث مع رفاقك لأن الجميع جاء للاستماع والاستمتاع بروائع الست.
مع العملاق محمد توفيق
فإذا أردت أن تعيش لحظات من تاريخ الفن المصرى خصوصًا فن السينما، فما عليك إلا بالذهاب لمجالسة أحد عمالقة السينما المصرية محمد توفيق. فيستقبلك ببسمته التى كانت ماركته المسجلة حيث ينفرج شدقيه عن آخرهما، ويدعوك لمشروب على حسابك طبعًا، ويسترسل بحرارة ابن العشرين فى حكايات لم تسمعها من قبل عن كواليس هذا العالم السحرى، مع أن الرجل وقتها كان قد تجاوز الثمانين أو التسعين ربما.
وفى محطة مصر كان يحلو لشلتنا من المثقفين وأشباههم، السهر حتى الصباح فى حوارات ومجادلات هادئة فى معظم الأحوال صاخبة أحيانًا، حول كل شيء، كمن يملكون العالم ويصممون على تغييره.
وفى الفيشاوى، يحلو السهر خاصة فى رمضان فى صحبة فنانين أو كتاب أو رجال حكم متقاعدين.. أومطربين محبوبين كعبدالمطلب، الذى لم يكن يمانع فى إحياء جانب من السهرة بأغانيه الممتعة وحتى فنانات شهيرات مثل نادية لطفى التى كانت تعانى من مضايقات تتعرض لها وسط الزحام.
نادية لطفى وعدلى فهيم
وأذكر أن من عرّفنى على نادية لطفى، هوعمنا عدلى فهيم، فى سنة 1967 بعد الهزيمة وكانت تشكّل لجنة وطنية من المتطوعين لرعاية ضحايا الحرب وأهاليهم، وضمتنى للجنة وكنت فى الثانية والعشرين، أصغر الأعضاء الـ 16.
وكان من مزايا السهر الصباحى أن يتيسر لنا الحصول على الطبعات الأولى من الصحف وقراءتها قبل أن يطالعها الناس فى الصباح، ومن مزاياه أيضًا لمن يحب الحياة والناس، أنك فى الليل العميق تشاهد وتعايش شخصيات لها ملامح وسلوكيات وتعبيرات وحكايات لا تراها فى النهار، شخصيات منتصف الليل حتى وش الصبح.
فها هو المارشال يتهادى فى خطواته وقد ارتدى الزى الذى لا تعرف له موطنًا، فلا هو مصرى ولا هو ألمانى نازى ولا هو موسولينى طليانى، خليط من هذا وذاك، والرجل لا يظهر تحت الشمس، لا تراه فى ساعات النهار الطويلة، ويدهشك بجديته المبالغ فيها على الرغم من بعض النياشين التى يملأ بها صدر الجاكت.
تحاول أن تكلمه لاستكمال موضوع تنشره فى «صباح الخير» فتفشل، لماذا؟.. لأن الرجل لا يعترف بأى شيء من أشياء الحياة النهارية، ولأنه «مش فاضى للكلام ده».
ولا تجد أمامك سوى تحرّى حالة «المارشال» من خلال أصحاب المقاهى وعمالها الذين يعرفونه من زمن ويعطف عليه بعضهم ويقسو عليه الباقون، ولأنه «كلام قهاوى» فهو متناقض وغامض ولا دليل قويا عليه، فسيأتيك من يقول أنه انهارت قواه العقلية والعصبية فراح يهذى، ومن يؤكد لك أنه لاعسكرى ولا حاجة، راجل فقد ابنه الوحيد فى الحرب فجرى له ما جرى، ثم تدهورت حالته أكثر فأعطى نفسه رتبة المارشال، وبدأ يعد العدة لحرب ينتقم فيها ممن قتلوا ابنه.
هل تصدّق؟
لو كنت لا تصدّق، ستسمع قصة أخرى تقول لك أن الرجل ليس إلا شحاذًا اتخذ لنفسه طريقة مبتكرة وأنه يحصل على عطف ومال وطعام.
ومن مخلوقات ليل القاهرة التى لا تنام شخصيات بارزة ذات حيثيات وأسماء لامعة فى الصحافة والمسرح وغيرهما، تتحوّل فى آخر الليل وحتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالى إلى كائنات غريبة لا تربطها بـ«صورتها» النهارية روابط قوية، فهذا الناقد المسرحى والأدبى اللامع المتميز بالدقة والحدة والقسوة أحيانًا، والذى يحب الأدباء والفنانين أن يكرهوه، وله معهم معارك صاخبة جعلت بعضهم يفكر جديًا فى التحوّل عن الأدب والفن إلى أعمال أخرى.
لو سهرت معه ليلة فى مقهى «ريش» واستأنس بك، حتى اللحظة التى يهتف فيها عم «ملك» كبير جرسونات المقهى «شطّبنا» وأن علينا كزبائن الرحيل فورًا ويكون ناقدنا ساعتها قد «قربع» نحو ست أو عشر زجاجات وحده، سيستسمحك أن تصحبه فى رحلة العودة إلى منزله وستكون الساعة داخلة على الواحدة صباحًا، وسوف يصعب عليك حاله وتجد أن ليس من الشهامة أن تتركه هكذا يتمطوح، ويكون لقمة سهلة لمجرمى أنصاف الليالى، فتتحامل على نفسك وتسنده حتى لا يسقط أرضًا، وتسير برفقته المسيرة الطويلة من وسط البلد إلى شبرا، وسيفاجئك أنه طوال الطريق يهذى بكلام متداخل ويحادث نفسه أكثر مما يحادثك. وأرجو إعفائى من ذكر اسمه فهو صديق عزيز له مكانة خاصة فى عالم الأدب والنقد والمسرح والترجمة، رحمه الله.
نجيب سرور مجنون بمصر
ومن كائنات السهر حتى الفجر، شاعر وكاتب مسرحى رائع هو صديقنا الراحل نجيب سرور الذى تميّز بالحدة والحرارة والعاطفية والحساسية الفنية العالية والوسامة التى تفوق وسامة نجوم السينما.
واشتهر بكتابة وإخراج مسرحياته الشعرية ذات الطابع اليسارى المستمدة من الموروث الشعبى، كما اشتهر بمعاركه الصاخبة التى تستخدم فيها الكلمات الخارجة والأيدى والكراسى والزجاجات فى مقهى «ريش» أيضًا وكلها معارك مع منافسيه من الشعراء مثل أمل دنقل أو مع نقاد أو مسرحيين آخرين.
وكان أمل دنقل يمازحه ويسخر أحيانًا من مسرحياته بدعوى أنها إعادة صياغة بالشعر لملاحم شعبية شهيرة.. وأن هذا ليس شعرًا.. فيندفع نحوه نجيب سرور بعضلاته القوية وصوته الأجش وبنيانه الجسمانى العفى.. ويكون علينا أن نقوم بمهمة «حمامات السلام» بينهما.. وكثيرًا ما كانت تصيبنا بعض اللطمات أو اللكمات أو حتى الشتائم.. وقع نجيب سرور فى مشاكل كثيرة وكبيرة بسبب اعتراضاته العلنية وتهكّمه على كل شيء، من خلال قصائده التى استعمل فيها لغة جارحة ما جعل الحال يصل به فى مستشفيات المجانين.
وقد غاب عنّا فترة إلى أن تصادف أن التقيته فى الصيف فى الإسكندرية يتجوّل فى محطة الرمل هائمًا على وجهه فى ملابس رثة، وقد حاول أن يتجاهلنى فى البداية، لكنه سرعان ما أحس بالحاجة إلى الحديث مع صديق شاب يفضفض له عما جرى له ويردّد على مسمعه أن من احتجزوه فى المستشفى هم المجانين فعلًا!
وكان من خصائل نجيب سرور، فى حالات الرواق والانسجام أن يجلس وحيدًا مع نفسه ويطلق لحنجرته العنان فيردّد أشعاره بصوت مسرحى رائع يجذب إليه كل من تبقى حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل فى «ريش» أو غيرها.
بعدها يصطفى مجموعة قليلة ممن لاخناقات بينه وبينهم ويصحبنا فى جولة بلا نهاية فى شوارع القاهرة التى تكون فى هذه الساعات الباكرة من الصباح خالية من الزحام وهادئة وجميلة وتفتح النفس على سماع الشعر المفتون بالحياة والناس.. وما أن تشرق شمس اليوم التالى حتى تختفى كائنات الليل.
جيل الستينيات
«نحن جيل بلا أساتذة».. هكذا كان يردّد رفاق جيلى، هم من الأدباء والشعراء الشباب الكثر الذين ظهروا فى الستينيات من القرن العشرين، وأنا مجايلهم تقريبًا، الصحفى الشاب الذى يتابع نشاطاتهم ويقدّمهم وينشر أسماء بعضهم لأول مرة فى أحاديث وتصريحات وأخبار.
كان معظمها فى مجلة «الشباب العربى» فى 1967 وما بعدها، وأتذكر الآن أن أول حديث صحفى نشر لصديقى جمال الغيطانى، على الإطلاق، كان الذى أجريته معه بعد إصداره لمجموعته القصصية الأولى «من أوراق شاب عاش ألف عام». ومع أن هذا الجيل الذى يضم أصدقاء منهم يحيى الطاهرعبدالله ومجيد طوبيا وإبراهيم أصلان وأحمد الشيخ ويوسف القعيد، ويضم طبعًا صنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وعبدالحكيم قاسم ومحمد البساطى والدسوقى فهمى وسعيد الكفراوى وغيرهم، كان معظمهم يصمّم على فكرة أو شعار «جيل بلا أساتذة» وكنت أنشر هذا الكلام على ألسنتهم، مع أنهم كانوا تلاميذ لأساتذة كبار منهم يحيى حقى الذى كان يتبناهم ويقرأ أعمالهم وينشرها لهم فى «المجلة» التى كان رئيسًا لتحريرها.. ويصحح لهم ما يستحق التصحيح ويعلّمهم من خبرته الطويلة.
وكان هناك أستاذ آخر لهم هو عبدالفتاح الجمل المحرر الأدبى لجريدة «المساء» فى عصرها الذهبى، وكنت أحيانًا أكتب فى صفحته الأسبوعية، وكان هو يعقد ما يمكن اعتباره «كتّابا» مثل الكتاتيب الأزهرية، يناقش فيه أعمالهم ويشخط فيهم ويعلّمهم أصول كتابة الأدب. وكان بمثابة الأب الروحى لهذا الجيل.
أستاذهم الكبير نجيب محفوظ
أما أستاذهم الكبير فهو نجيب محفوظ الذى كنا نلتقيه مساء كل يوم جمعة فى مقهى «ريش» وكان أرق معلميهم وأكثرهم احتفاء وترحيبًا وكان يأخذ معه القصص التى يقدمونها له، لقراءتها على رواق فى بيته، ويعود بها فى الجلسة التالية ويحدّث أصحابها عن رأيه وملاحظاته عليها.
ولا أنسى يوسف إدريس الذى كان وقتها علمًا كبيرًا فى عالم الأدب والصحافة، ولم يكن ليبخل على من يسعى للقائه أو الفوز برأيه ونصائحه.
ومع هذا كان النشيد الوطنى لهذا الجيل الذى وإن كان قد أعطى بعض اللمحات والإضافات على فنون القصة والرواية والشعر، إلا أنه لم يقدم فى اعتقادى ما يمكن اعتباره مدرسة أو اتجاهًا أو مسارًا كاملًا.. وظل يردد بلاهوادة «نحن جيل بلا أساتذة»!
ومن المغالطات الشائعة عن هذا الجيل تسميته «جيل الستينيات» فمنذ متى ينسب الكتاب والشعراء إلى الفترة الزمنية التى ظهروا فيها؟
هل كان وليم شكسبير من جيل الستينيات فى القرن السابع عشر؟!
المعروف أن الحركات والاتجاهات الأدبية والفنية عمومًا تنسب إلى مذهب الحركة وفلسفتها ومنطقة التجديد التى أضافتها فى تاريخ الأدب والفن، كالحركة الرومانسية أو المدرسة الواقعية أو.. ما شابه، وتقديرى.
وقد عايشت هذا الجيل، أن نسبته إلى العقد الزمنى الذى ظهر فيه تكشف لنا عن حقيقة أنه لم يكن جيلًا يشكل اتجاهاً أو مذهبًا أو مدرسة معينة فى الأدب فهو جيل تعمّد المصادرة على سابقيه ولاحقيه وعاش أزهى عصور النشاط الثقافى وانتشار المجلات الثقافية والأدبية ونهضة المسرح كما عاش هزيمة 67، ونظر إليه بعض النقاد والدارسين بوصفه جيل الهزيمة، مع أنه كان جيلًا متمردًا يصارع أفراده أنفسهم ولعل النقاد والباحثين أقدر على دراسة هذه الأمور.
ولا يعنى ذلك أنهم لم يقدّموا ما هو جديد، لكن لو تذكّرنا أن نجيب محفوظ فى الستينيات وما بعدها قدم إنجازًا جديدًا فى رواياته.. بداية من «اللص والكلاب» وما بعدها، فهل ننسبه إلى جيل الستينيات؟
والملاحظ أن عددًا لا بأس به من أبناء هذا الجيل لم يواصل المسيرة، فبعد أول مغامرة قام بها محمد حافظ رجب، صاحب المجموعة القصصية المدهشة «الكرة ورأس الرجل» انقطع به السبيل، وبعد فترة طويلة انقطع أيضًا صديقى مجيد طوبيا، الذى كان واحدًا من المجدّدين فى فن السرد.
وكان يروى لى خطواته فى تحضير وكتابة رواياته ونقرأ فصولها سويًا على مقهى «ريش» أو فى بيته فى مصر الجديدة.. وكان موضع إعجابى الشخصى لأنه نجح فى توظيف إجادته لفن السيناريو فى كتاباته الأدبية قصة ورواية.
وانقطع من قبله بكثير إبراهيم عبدالمعطى الذى شارك مع إبراهيم منصور وأحمد مرسى وآخرين فى إطلاق مجلة «جاليرى 68» التى كانت بمثابة المانيفستو لهذا الجيل.
وممن لم يواصلوا، صديقى الذى ابتكر لغة خاصة به فى قصة «صوت صمت» محمد إبراهيم مبروك الذى أسرّ لى وكنا أصدقاء مقربين وعملنا سويًا فى جريدة «العمال».. أنه تعلّم القراءة والكتابة فى وقت متأخر بسبب سوء أحوال أهله المادية وأنه كان «عامل تراحيل فى الغيطان» قبل أن يتعلّم مؤخرًا.. لكنه فى أخريات أيامه تحوّل إلى دراسة الأدب اللاتينى واللغة الإسبانية.. وترجم أعمالًا مهمة إلى العربية.
وكان الموت بالمرصاد لواحد من أكثرهم أصالة واقتصادًا فى الموضوعات واللغة وكان يطلق عليه بحق «شاعر القصة القصيرة» هو صديقى يحيى الطاهر عبدالله، كان أكثرهم فقرًا فى الموارد المادية حيث عاش ومات مصممًا على ألا يرتزق ويكسب عيشه سوى من الكتابة، وكان هذا جنونًا.. ومن هنا كانت له خلافات وخناقات وصراعات مع من يحصلون منه على قصص وينشرونها فى مجلات بيروت دون أن يسددوا له حقوقه.
ومنهم واحد من رفاق جيله.
وكان يدهشنى فى يحيى الطاهرعبدالله، ويدهش الجميع أنه لا يقرأ لنا ما أبدعه من ورقة.. كان يحفظ نصوص قصصه ويتلوها علينا فى مجالسنا فى «ريش» أو فى هذا البيت أو ذاك. ومعنى هذا عندى أنه لا يكتب القصة بل يعيشها ويستغرق فيها فتصبح جزءًا منه أو هو جزء منها!
ورغم حدته التى فرضتها عليه قسوة حياته، فقد كان شديد الرقة والحنان مع ابنته الوحيدة فى طفولتها الأولى قبل رحيله المفاجئ الفاجع.
الرافض الأول
أما من كان من أبناء هذا الجيل لكنه يرفض تسمية «جيل الستينيات».. بل ويرفض الانتساب إليه، فهو صديقى الشاعر الذى أعتقد أن أحدًا لم يتخطه حتى الآن، أمل دنقل، كان نسقًا وحده، استطاع بموهبة جبارة أن يطاول سابقيه من أمثال أحمد عبدالمعطى حجازى.
وأذكر أن صديقنا المشترك وبلدياته من قنا شاعر العامية عبدالرحمن الأبنودى كان يقول لى أنه كان يخاف من أمل دنقل لو فكّر فى التحوّل إلى شعر العامية، فهو جبار! وكان أمل أيضًا يصمّم على العيش من عائد الشعر الذى يطلقه فى قصائد ودواوين تنشر فى «الأهرام» و«الآداب» اللبنانية وغيرها. وأذكر أن قصيدته «الكعكة الحجرية» كانت ومضاتها الأولى تتجلى له خلال مشاركتنا مظاهرات الطلاب فى ميدان التحرير المطالبة بتحرير سيناء، وسماها «الكعكة الحجرية» من وحى قاعدة النصب التذكارى الناقص الذى كان قائمًا وقتها وسط الميدان وكان يقرأ علينا مطالعها ويسهر ونسهر معه فى شقته الصغيرة ونتركه ينفرد بنفسه لإنجازها.
وبالمناسبة أتذّكر حكاية لى معه حيث جاء ذات مساء إلى «أتيليه القاهرة» فوجدنى جالسًا مع شابة ناقدة جديدة،لا تجمعنى بها سوى صلة التعارف حديثًا.. حيّانا وعرّفته عليها.
فما كان منه إلا أن قال لى بصوت تعمّد أن تسمعه هى: هى دى اللى قلت لى أن وشها (.....).
وانفجرت الآنسة فى البكاء وتركتنا على الفور غاضبة. وقد لمته بشدة على هذا الأسلوب القاسى فى التعامل مع القوارير، فضحك ضحكة صفراء وغادرنى..
وبعد أيام لم يكن غريبًا أن أراه فى صحبتها، وكانت هذه طريقته فى المشاغبة.
وبعد أن هاجرت إلى لندن، علمت بنبأ زواجهما الذى أسعدنى، لكن معاناته الشديدة من المرض أوجعت قلبى وأنا أتابع أخباره من بعيد.
نواصل فى الأسبوع المقبل