جيرى روبينســون.. الأب الروحى للرسوم الهزلية
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
يعد جيرى روبينسون من أهم الفنانين المتخصصين فى الرسوم الهزلية على مستوى العالم.. هذا إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. وأهميته كفنان وباحث تنافس أهميته كناشر ومُسوّق لأعماله وأعمال 350 فنانًا من رسامى الكاريكاتير على مستوى العالم وأنا منهم.
فبالبحث فى أوراق هذا الفنان.. نجد أنه من مواليد مدينة ترنتون عاصمة ولاية نيو جيرسى الأمريكية عام 1922.. بدأ عمله الاحترافى عام 1939 أثناء مرحلة الدراسة الجامعية حيث كان يدرس الصحافة بجامعة كولومبيا بمانهاتن. ويا لها من بداية فلقد عمل بمكتب الكاتب بوب كين مؤلف القصص الشهير الذى صمم شخصية «باتمان» بمعاونة الكاتب بيل فنجر والتى ترجمت إلى اللغة العربية واشتُهرت باسم «الرجل الوطواط».
لم يكن أحد يتوقع أن تلك الشخصية الهزلية ذات المغامرات الشيقة سوف تحظى بكل هذا النجاح.. وأنها ستتحول إلى أشهر شخصيات الرسوم الهزلية على الإطلاق مستقبلاً. بدا الأمر بسيطًا ومتواضعًا.. فلقد حول بوب كين غرفة نومه ببيت أسرته إلى ورشة عمل صغيرة وإبان عام 1939، استعان بوب كين بطالب الصحافة جيرى روبينسون ذى السابعة عشر عامًا وقتها للعمل معه كخطاط ومُحَبِر فى هذه السلسلة الهزلية الوليدة. والذى أبدع بدوره فى هذا المجال وقام باختراع شخصية «الجوكر» التى أضافت لمغامرات «بات مان» إثارة وتشويقًا.
لكن سرعان ما تبدل الحال.. فمع بداية الأربعينيات من القرن الماضى ترك روبينسون هذا العمل وتفرغ لإنجاز ألبوماته الخاصة، وقام بإبداع شخصية جديدة باسم «لندن».. وهو بطل خارق استوحى شخصيته من أحداث الحرب العالمية الثانية. كذلك ابتدع شخصية «أوتومان» النسخة النووية من شخصية «سوبرمان».
وفى عام 1953 قام روبينسون بإعداد مجموعة مغامرات من الخيال العلمى فى شكل شرائط مرسومة لشخصية «جيت سكوت» ونشرت بشكل يومى بجريدة «ذا نيويورك هيرالد تريبيون» على مدار سنتين. ومع بداية الستينيات عمل كرسام للكاريكاتير بجريدة «ذا نيويورك صنداي» التى تم إدراجها فيما بعد تحت جريدة «ذا ديلى نيوز». ومع بداية السبعينيات أبدع روبينسون سلسلة «ستيل لايف» السياسية الهزلية التى لاقت رواجًا كبيرًا فى هذا الوقت. وفى عام 1974 قدم دراسة شاملة عن تاريخ الشرائط الهزلية فى الصحف الأمريكية تعد مرجعًا مهمًا لكل من يمارس هذا الفن. كما ألف عشرات الكتب وقدم أضعافها من الدراسات عن تاريخ الرسوم الهزلية.. ودُرس معظمها بين مناهج مدرسة الفنون البصرية ومدرسة بارسونز للتصميم بنيويورك.
وبعد كل هذه الإنجازات التى أنجزها روبينسون، كان من الطبيعى أن يرأس الجمعية الوطنية لرسامى الكاريكاتير فى الفترة من 1967 وحتى 1969 بتزكية أعضاء الجمعية. كما رأس رابطة رسامى الكاريكاتير السياسيين الأمريكيين من 1973 وحتى 1975. وساهم أيضا فى دعم حقوق رسامى الكاريكاتير حول العالم وكذلك حقوق حرية النشر والإبداع وتسجيل الأعمال الفنية.. وشارك فى الدفاع عن الرسام الأورجوانى فرانسيسكو لورينزو بونز حتى تم الإفراج عنه إثر اتهامه بالسخرية والتحقير من المجلس العسكرى الحاكم فى أورجواى من خلال رسم نشر له فى الثمانينيات. كما تم اختياره سفيرًا للرسوم الهزلية.
عمل روبينسون كمنسق عام لعدة معارض في الولايات المتحدة الأمريكية وفى الخارج.. ومنها العرض الأول للفن الهزلى الأمريكى فى قاعة الفنون الجميلة الكبرى، ومعرض جراهام بنيويورك عام 1972. كما تم اختياره كمستشار خاص لأكبر معرض للرسوم المتحركة فى مركز كينيدي بواشنطن دى سى، و فى متحف ويتنى بنيويورك.. وفى الخارج نظم عدة معارض للكاريكاتير الأمريكى بطوكيو، ووارسو، وموسكو، و فى مدن مختلفة بالصين والبرتغال وسلوفينيا وأوكرانيا بدعوة من الأمم المتحدة. كما تمت دعوته كضيف شرف بعدة معارض كاريكاتورية صاحبت مناسبات كبرى مثل: قمة الأرض بريو دي جانيرو، ومؤتمرحقوق الإنسان بفيينا، ومؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة.
وبعيدًا عن الهزل والسخرية المستخدمة فى لغة هذا الفن الجميل.. نجد أن التاريخ الطويل للرسوم الهزلية قد تم توثيقه على يد جيرى روبينسون بمنتهى الجدية عبر متحف الكارتون بمدينة سان فرانسيسكو والذى أتشرف بعضويته.. والذى يقوم بدوره بحفظ هذه التركة العظيمة من الأعمال الفنية كتراث إنسانى له قيمته ويؤرخ لأهم الأحداث السياسية المهمة.. ويقدمه المتحف بدوره لرواده من المحبين لهذا الفن والمهتمين به وطلبة المدارس والمعاهد الفنية بين الحين والآخر.
وبعد هذه المسيرة الطويلة.. توفى جيرى روبينسون ظهيرة السابع من ديسمبر 2011 بمدينة نيويورك سيتى عن عمر يناهز الـ 89 عاما تاركًا رصيدًا كبيرًا من الأعمال والمؤلفات المتخصصة فى فن الرسوم الهزلية موثقة جميعا ومحفوظة فى متاحف الكارتون المنتشرة فى عدة ولايات أمريكية.
وأخيرًا.. أتمنى أن أرى يومًا الكنوز التى ورثناها عن كبار رسامى الكاريكاتير من الرسوم الصحفية والكاريكاتورية والهزلية محفوظة وموثقة فى متحف قومى يحمى أعمالنا التى تعانى من الإهمال وتلتهمها الأتربة على أرفف أرشيف المؤسسات الصحفية.. علما بأنه تم بيع مجموعة من الرسوم القديمة للألبوم رقم 11 لمغامرات «الرجل الوطواط» فى مزاد تم تنظيمه عام 2005، كانت حصيلته 195.000 دولار أمريكي.