الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الطريق الأطول من بولاق لبركة الأزبكية

لكل شارع من شوارع القاهرة سيرة ومسيرة.. شوارع القاهرة يحكى كل منها ذكريات وتاريخًا، والراصد للشارع المسمى الآن 26يوليو يجده قد مَرّ من قبل بمسميات ثلاثة رئيسيةـ أولها اقترن بحى بولاق فكان اسمه شارع بولاق، ثم تغير بعدئذٍ إلى شارع فؤاد الأول، وأخيرًا شارع 26يوليو، وكما نلاحظ فقد اقترن أولًا بالمكان، وهو الحى الذى انتهى إليه، وفى الثانية بشخص نسبة إلى الملك فؤاد الذى تولى حُكم مصر، وفى الثالثة اقترن بمناسبة وذكرى وطنية.



 

وقد شهد هذا الشارع فى مختلف مراحله متغيرات معمارية وعمرانية، وتباينت استخداماته، سواء كانت شعبية أو رسمية، مثلما تباين ساكنوه ومرتادوه فى مختلف العصور، فقد كان مجالًا للتجار والحرفيين وأرباب المهن، وفى بعض السنين اتخذه المحتلون طريقًا ترتاده قواتهم، وفى أحيان كثيرة سكنه وارتاده المقاومون الوطنيون والكُتّاب والشعراء ومشاهير أبناء البلد.

أصل «بيلاق»

 قبل حديثنا عن الشارع نشير إلى الحى الذى أخذ اسمه أولًا، بولاق وأصلها بيلاق، وهى تعنى المرسَى أو المرفأ أو الميناء، وتُعرف بـ«أبوالعلا» تمييزًا لها عن بيلاق أخرى اقترنت بالتكرور وتنطق الدكرور. 

وفيما يُروَى أنه نتج عن طرح طمى فيضانات نهر النيل، بدأ ظهور بولاق إلى الوجود حثيثًا إثر الفيضان الذى حدث عام 680هـ/1281م، وكذلك عام 713هـ/1313م، وصرّح الناصر محمد بن قلاوون بالعمارة والبناء فى تلك الأراضى، فتسابق الأمراء والأجناد والكُتّاب والتجار والعامة فى البناء.

وكانت القاهرة التاريخية تعتمد على مينائها الرئيسى فى مصر القديمة (العتيقة)، أثر النبى حاليًا أو منطقة زهراء مصر القديمة، الذى كان يستقبل المنتجات والتجارات من سائر عموم مصر شمالًا وجنوبًا.

 ثم حدث تحوُّل فى طرُق التجارة المصرية ابتداءً من عصر برسباى «1421-1438» وبدت تظهر أهمية مرفأ بولاق ابتداءً من القرن الخامس عشر، وازدادت أهميته فى العهد العثمانى نظرًا لما كان يقام فيه من حفلات استقبال للولاة العثمانيين الجُدد إذا ما قدموا بحرًا. 

بعدها حدث طرحٌ كبيرٌ لطمى النيل عام 1771، وتركّز عند بولاق، وتحوَّل الواقع بين القاهرة التاريخية والنيل وبولاق من أرض تغمرها مياه الفيضان إلى هذا الحى الشعبى على ضفاف شاطئ النيل، الذى أصبح ميناءً يستقبل التجارات ومنتجات الدلتا، وكذلك المنتجات الأوروبية الواردة عبر الإسكندرية، ونشطت حالته العمرانية وأنشئت به الوكالات والخانات وورش أرباب الحِرَف والمِهن وغيرها.

وبدأ الاهتمام بضاحية بولاق منذ الحملة الفرنسية على مصر، حيث قسّم الفرنسيون القاهرة إلى ثمانية أقسام منها قسم بولاق، وشَقوا طرُقًا جديدة (شوارع) لتحقيق الأغراض الأمنية والإدارية وغيرها، ومنها شق طريق مستقيم بطول نحو ألف ومائتى متر، يبدأ من منطقة الأزبكية وينتهى إلى بولاق، وهو الذى عُرف بطريق أو سكة بولاق آنئذٍ، (شارع 26يوليو الآن)، وقام بتمهيده المهندس «لوبيريه» كبير مهندسى الطرُق والكبارى فى الحملة، وغرس على جانبى الطريق الأشجار تسهيلا لمرور فرق الجيش الفرنسى.

وتأثرت بولاق كثيرًا بما ألحقه بها الفرنسيون أثناء ثورة القاهرة الأولى سنة 1800م، ولكنها سرعان ما استردت نشاطها بفضل مشروعات محمد على الصناعية، وأمر باستكمال شق الطريق بين «القاهرة وضاحية بولاق».

 

 

 

وكان لهذا الطريق فعل السحر فى تعمير بولاق.

كما أنشأ هناك دارًا لصناعة السفن 1814م، ويُعتبر القائد العظيم إبراهيم باشا- ابن محمد على الكبير- أول من فكر فى تعمير المنطقة الممتدة الآن من كوبرى أبوالعلا شمالًا إلى ما بعد كوبرى قصر النيل جنوبًا، عندما أمر بتمهيد تلك الأرض وردمها وتسويتها، كجزء من تجميل الشاطئ الشرقى لنيل العاصمة.

وزاد الاهتمام بحى بولاق بعدما تم تحديث وتخطيط «القاهرة الخديوية»، فى عهد الخديو إسماعيل.

وتم تجـديد شارع بولاق «26 يوليو» مع مشروع تخطيط ميدان الأزبكية، هذا الطريق وأدّى ذلك إلى حركة تعمير فى ضاحية بولاق، ثم جاءت الطفرة العمرانية الكبرى، بعدما تم إنشاء كوبرى بولاق «أبو العلا» الذى افتتح فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى «حفيد إسماعيل» عام 1912.

وكان هذا الكوبرى معجزة هندسية ليربط بين القاهرة وجزيرة الزمالك، وهو الذى سيتم تفكيكه عام 1998، لإنشاء الكوبرى العلوى المسطح لشارع 26 يوليو.

فوق البحر الأعمى

حدث الشىء نفسه مع كوبرى الزمالك القديم الذى كان قد أنشئ عام 1912، وكان يعبر فرع النيل «البحر الأعمى» ويصل الزمالك بمناطق الجيزة تجاه إمبابة يمينًا وعلى يساره الدقى، وستتم إزالته لاحقًا لإنشاء كوبرى 15مايو، فى امتداد المسطح العلوى لـ 26يوليو أيضًا.

مع تحرُّك الحى التجارى من العتبة والموسكى إلى القاهرة الخديوية وبالذات شارع بولاق (26يوليو)، تم إنشاء سلسلة من الفنادق المتنوعة الدرجة على امتداد الشارع الذى أصبح محور الحى التجارى.

 

 

 

فمَن كان لا يذهب للشراء كان يذهب للفرجة، ومن أشهر هذه الفنادق: كلاريدج، جلوريا، إدن، كارلتون، جراند أوتيل، إسكس، إكس موراندى، نيتوكريس، أمية وغيرها.

وكذلك شهد محور شارع بولاق إنشاء العديد من المبانى العامة والعمارات الضخمة، لعل أشهرها دار القضاء العالى، التى أقيمت لتكون مقار للقضاء المختلط، ولكى تنتقل هذه المحكمة من موقعها المجاور لمبنى صندوق الدين بين ميدان العتبة والأوبرا إلى مقرها الجديد، إلا أن إلغاء القضاء المختلط بعد توقيع حكومة الوفد لاتفاقية مونترو عام 1937 أنهى هذا القضاء الذى كان صاحب فكرته نوبار باشا أول ناظر للنظار (رئيس الوزراء) فى عصر الخديو إسماعيل، وأصبحت دار القضاء العالى رمزًا للقضاء المصرى بسبب المبنى الضخم، الذى بُنى على الطراز الإيطالى بأعمدته وصالاته الواسعة وارتفاع مبانيه. ويلاصقه مبنى مصلحة الشهر العقارى الذى بُنى فى الفترة نفسها التى شهدت بناء دار القضاء العالى.

 

 

 

 

بعد يوليو

بعد قيام ثورة يوليو 1952 تم تغيير اسم الشارع من فؤاد الأول إلى اسمه الحالى 26 يوليو، وهذا التاريخ ارتبط بحدثين مهمين فى تاريخ مصر المعاصر، أولهما 26 يوليو1952 رحيل ملك مصر والسودان فاروق الأول بعد تنازله عن العرش، والحدث الثانى اقترن بإعلان الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس وإعلانها شركة مساهمة مصرية فى 26 يوليو 1956. 

وبعدما تغير الاسم إلى شارع 26 يوليو، فقد امتد الشارع إلى منطقة ميت عقبة مخترقًا حى بولاق أبوالعلا إلى جزيرة الزمالك عبر كوبرى أبوالعلا ثم كوبرى الزمالك إلى نهاية سور نادى الترسانة على اليمين ونادى الزمالك على اليسار، ليمتد بعد ذلك إلى المحور المرورى الجديد ليصل إلى طريق القاهرة- الإسكندرية الصحرواى ومدينة 6 أكتوبر.

 

 

 

وإذا كان التطور قد بدأ يطول حى بولاق بعد ثورة يوليو، بعدما أزيلت مساحة كبيرة من المبانى العشوائية ليُبنَى مكانها مبنى الإذاعة والتليفزيون الضخم فى أوائل الستينيات، فقد أزيلت فى العقود الأخيرة مزيد من العشوائيات وأنشئ فى موضعها مبنى ضخم لوزارة الخارجية، على تقاطع الشارع نفسه مع كورنيش النيل، ليصبح مقرّا للدبلوماسية المصرية.

كما بدأت عملية إزالة بعض المخازن القديمة فى بولاق، ورملة بولاق، التى كانت عبارة عن مخازن للشركات أقيم مكانها الآن المركز التجارى الدولى، وبجواره أعلى عمارتين على الكورنيش.

وزحف العمران العصرى على جانبى الشارع فى ساحل بولاق، وإن بقيت مساحات كبيرة وقديمة، أشهرها منطقة وكالة البلح ذات السوق التاريخية رخيصة الأسعار، بينما ارتفعت عمارات على الجانب الآخر طويلة وفى قمة العصرية.

وفى النهاية فإن المتأمل فى مسيرة 26 يوليو تاريخيّا يجد أنه مرآة على صعيد المتغيرات السياسية والعمرانية والمعمارية، وإنه إذا كان يُعتبر حاليًا من أطول شوارع العاصمة، فإنه مثلما كان عابرًا للنيل فقد عبر أيضًا الوادى إلى الصحراء فى إطار التعمير ونشأة المدن الجديدة، مرادفًا للمتغيرات والتطورات التى طرأت على حركة التمدد الحضارى فى مصرنا المعاصرة.