الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

المكتبة.. عالم الحكايات المدهشة

تندرج رواية (المكتبة) Bibliotka تحت تصنيف روايات الفسيفساء أو الموزاييك، إنها أكثر أعمال مؤلفها (زوران جيفكوفيتش) ترجمة وأحد أشهر المؤلفات الصربية فى مطلع القرن الحادى والعشرين، بل قدم فنانون عروضًا مسرحية فى كل من إيطاليا والبرتغال مستوحاة منها، وفازت فى 2003 بجائزة الفانتازيا العالمية عن فئة الرواية القصيرة فى مؤتمر أدب الخيال العلمى فى واشنطن، أمريكا، وهى المرة الثانية فى تاريخ الجائزة التى تفوز بها رواية غير مكتوبة بالإنجليزية.



 

نقلتها إلى العربية المترجمة الشابة (نوف الميموني)، تقديم الناقد طارق الخواجى، الذى يُصدِّرها بالقول: «أحيانا لا يكتفى كاتب بأن يتخلى عن المنطق لصنع عالمه المتخيل، بل يجدر بالقارئ هو الآخر أن يتخلى تمامًا عن المنطق للوصول إلى عالم ذلك الكاتب، ليجد نفسه على الأقل قادرًا على البروز ولو قليلا فى ذلك العالم الذى يتفق أصحاب المنطق على خطوة العيش فيه لو كان حقيقيا ومتفقا مع شروطهم المتزمتة، التى تجعل الحياة صعبة لولا فسحة الأمل بأن هناك من يتنفس عبق بورخيس بعد رحيله بعقدين».

يخلق جيفكوفيتش مكتبة افتراضية تذكرك بأطلال خورخى لويس بورخيس، الدائرية وسداسيات بابل ومقبرة كتب زافون المنسية، يريد أن يحتوى ولعه وحنينه بالكتب والمكتبات فى مواجهة أجيال الآيفون والهواتف اللوحية ومحركات البحث التى تحاول محاكاة أحجية كورتثار، واقتراب بورخيس من المعتصم ومرآة حبره وظل ريح خوليان كاراكس، فماذا لو كان الكتاب هو النسخة الوحيدة التى نملكها؟ لو حدث شىء لها خارج المكتبة فهى خسارة لا يمكن تعويضها، كل آثار المؤلف وهو نفسه قد يختفى، كل ما سجل فيه، سيكون الأمر كما لو أنه لم يكن حيا قط. هل نستطيع أن نخاطر بذلك؟ هكذا أنت مضطر لتقرأ هذا الكتاب فوق هذه الطاولة تحت المصباح على الطراز القديم خذ من الوقت قدر ما تريد. الغرض من النص إدخال حب الكتب فى أدق تفصيلات اليوم، كما فعل إدوارد جاليانو حين كتب (كرة القدم فى الشمس والظل) يريد أن يفقد محبو القراءة خوفهم من كرة القدم وأن يفقد محبو كرة القدم خوفهم من الكتب، وفيما بعد تنقذ الكتب حياتنا حيث كل منا طفل وحيد ضائع يعبر البوابة الخفية داخل رتابة الحياة اليومية، خلف تلك البوابة عالم أرض الحكايات المدهشة، حديقة بحرية مفعمة بألوان فاتنة وجواهر استثنائية تتلألأ وتتبدل وتتنفس.

 

 

 

فى ذلك المكان السحرى، المكتبة، لا تتقيد الأحوال بقواعد المجتمع أو بحدود معلومات الفرد وتقاليد الجماعة وثقافة الآخر أو بهويته، بل ولا حتى بقواعد الطبيعة أو المنطق، يمكن للحيوانات أن تحكم العالم كما فى (مزرعة الحيوان) ويطير الرجال فى قصص مارفل أو تؤدى كراكيب البيت رقصة صغيرة كما فى كتابات أليس مونرو، حيث كل شىء ينبض بالحياة، كل شىء مهما بدا صغيرا لديه قصة تستحق أن تروى.

 

والقارئ هو أشجع الناس، يمتلك شجاعة لا يتحلى بها سوى الأطفال أو كارهى الحياة أو كليهما، إنه لا يشعر بالخوف، يغوص فى الحديقة الورقية مفتونًا بعجائبها وينسى العالم الخارجى، ينسى كم هو طفل انطوائى خجول، ينسى بيئته المحافظة، يقرأ بنهم وشوق وعاطفة محمومة، إنه لا يشعر بالملل، لا يهتم بحياته بل بالحيوات خارج حياته داخل الكتب، بالحدية والانفتاح والخلود. زوران جيفكوفيتش يلتقط دفتره ويكتب، عن نفسه، وعن أناس لم يكن لهم وجود إلا فى نفسه وعن أشياء لم تحدث قط فى مكتبات خيالية، رقمية ومنزلية وليلية ونفسية ودون أن ندرى يعبر بنا الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال ويصطحبنا معه فى يومياته الشخصية السحرية، حيث لا تضيع الكتب أبدًا ولا يذوب الحبر عندما يذوب كل صلب فى الهواء.  تعرف معه كيف علمته الكتب أن يحب وتنقذه من الغضب والرتابة والجنون وتدمير الذات، وأن تبادلها، معه، حبا بحب ومن كل قلبك. ولأجل هذا نعكف على القراءة، وتكون الكتب هى رفقتنا العاقلة، والمجنونة والهمجية والوحشية كذلك، هى أصدق رفاق تحظى بهما، وكلما قرأت اكتشفت المزيد من العالم الخفى الساحر.

متحف البراءة

المكتبة والكتب هى كل ما فكر فيه (زوران) وهو يكتب، كما كان المتحف كل شىء يفكر فيه (أورهان باموق) وهو يكتب (متحف البراءة) فأنشأ المتحف وهو يفكر فى الرواية حيث تحدث عن شاب من الأثرياء يعيش فى إسطنبول يقع فى الغرام، ويدخل فى علاقة شاذة مريضة فيضيع حبه أدراج الرياح، يجد السلوى فى جمع كل ما قد لمسته محبوبته يومًا، وأخيرًا، وهو ما نكتشفه فى نهاية الرواية، يأخذ كل هذه الأشياء التى جمعها من الحياة اليومية والبطاقات البريدية وأعواد الثقاب والمملحات والسكاكر ومقاطع الأفلام والصور الفوتوغرافية والفساتين والألعاب الصغيرة والمفاتيح وذكريات حبه المحكوم عليه بالإعدام، ذكرياته فى إسطنبول فى السبعينيات والثمانينيات التى لف شوارعها مع محبوبته، يأخذ كل تلك الأشياء ويعرضها فى متحف البراءة. افتتح باموق متحفه فعلا فى اليوم الذى نشرت فيه الرواية فكانت بمثابة كتالوج للمتحف فيكون ترتيب المداخل والنصوص المصاحبة لها محددًا ومخططا له بدقة ولكنه انتهى من الرواية قبل الانتهاء من المتحف فصارت مثل رواية أخرى تقليدية لذلك كتب (براءة الأشياء) بعدها. وأنت تنتقل بين أروقة (المكتبة) ينتهى بك الأمر بمشاعر متضاربة، فبينما تجوب الأرفف كنت تحاول استحضار الماضى الآخذ فى التلاشى بلطف من حياتك وبالتدريج، وفى الوقت نفسه تحاول تنحية ذكرياتك الخاصة جانبًا وتتساءل: أى التفاصيل التى قرأت عنها يشبه حياتى؟ إذ يكمن الطريق إلى (المكتبة) فى ذواتنا فى حياتنا فى بيوتنا وفى الشوارع، لا يجب أن تعنى الكتب بعد الآن بالتاريخ والحروب والمشاهير على نطاق واسع ولا بالملاحم وسير الأبطال أو بتكبيل الهويات الوطنية، بل يجب أن تركز على تفاصيل الحياة العادية.

الشغف بالكتب

فى (المكتبة) تتجول أحيانا وأنت تشعر بالتوتر عندما يغلقون باب المكتبة الليلية وينسونك بالداخل لأنك هرعت إليها مسرعًا قبل أن تهجم عليك العطلة ولا كتب فى الدار، تجد نفسك من جديد تفكر فى أن السبب الكامن وراء شغفك بالكتب ربما يعود إلى قدرة الكاتب على إبراز علاقة الحبكة بالمخيلة، كانت تلك الكلمات والرسائل الإلكترونية والصفحات وصندوق البريد الذى يلد الكتب فى قصة (المكتبة المنزلية) جزءًا من نص واحد تتآلف فى نسيج مشترك وبغض النظر عن المرات التى ستجول فيها بعقلك جيئة وذهابا بين الكلمات؛ لن تتمكن أبدًا من عبور هذا الأفق الغامض والوصول إلى السلام فى الجانب الآخر من المكتبة، إن هذا التوتر اللا محدود بين الصفحات والأفكار، بين النص والفن، هو ما يخلق الأمل والخيال. هناك تلك القصة عن عجوز وحيد يقضى معظم أوقاته فى الفراش حتى أشيع عنه أنه يخفى كنزا فى بيته. وفى يوم من الأيام، اقتحم جماعة من اللصوص ذلك البيت، وبحثوا فى كل أرجائه فوجدوا صندوقا فى القبو، حملوه معهم. وحينما فتحوه وجدوه ممتلئا بالرسائل. كانت عبارة عن رسائل حب استقبلها العجوز فى مختلف مراحل حياته الطويلة، همّ اللصوص بإحراق هذه الرسائل، ولكنهم تشاوروا فى أمرها، وأخيرا قرروا إعادتها، واحدة تلو الأخرى، بوتيرة رسالة فى الأسبوع. منذ ذلك الحين، وفى ظهيرة كل يوم اثنين، يلبث العجوز بانتظار قدوم ساعى البريد، وحالما يراه يجرى نحوه بينما يمسك ساعى البريد بيده الرسالة التى يعرف كل شىء عنها، حتى إن القديس بيتر كان بإمكانه سماع ضربات ذلك القلب المجنون فرحًا باستلام رسالة من امرأة. يشبه (زوران) أولئك اللصوص الطيبين، يأخذ عادة شراء الكتب والقراءة وزيارة المكتبات التقليدية، وبحيلة سحرية يحولها إلى شىء جديد تمامًا.

 

 

 

الكنز فى الرحلة

تقول إيزابيل الليندى: «هذا هو الجزء الأجمل فى الكتابة: العثور على الكنوز المخبأة، وإعطاء الأحداث البالية بريقًا، وإنعاش الروح المتعبة بالخيال، وخلق حقيقة معينة من أكاذيب كثيرة». وفى (المكتبة) يفتح (زوران) كتاب الحياة، حياة كل البشر الذين عاشوا فى الدنيا، مئة وتسعة مليارات وأربعمائة وثلاثة وثمانون مليونًا ومئتان وست وخمسون ألف وسبعمائة وعشر حيوات، منذ اللحظة الذى دخل فيها ودخلنا معه المكتبة، وثمة رجل مهيب غامض محبوس معه فى الظلام يحب أن يتحاشى النزاع معه، ألا ينفى أى شىء يقوله أو يعارضه، يرى أن كل حياة فريدة ولا مثيل لها وتستحق أن تُسجل، لهذا وجدت الكتب. وهى مستمرة فى التوسع وتحدث تحديثا يوميا يسجل فى كتب البشر الذين هم على قيد الحياة يوميات محايدة جدًا لا شىء يمحى منها ولا شىء يخفى عليها ولا شىء يظهر بغير حقيقته. وبالرغم من أن كل شخص قد قرأ كتابه فعلا إن جاز التعبير، فالكثيرون يجدونه حافلا بالمفاجآت والتجليات. وفى كل مرة ينتصر الفضول المغرور. أى فرصة هذه التى يقرأ فيها الإنسان كتابا يكون هو بطله الرئيسى؟ تشعر برعشة توجس تضطرب فى مكان ما فى عقلك وقلبك كأنك شخص لا يصدق بالتنبؤ بالغيب واقف أمام عراف سيكشف له عن مستقبله.