الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أصوات من السماء - 4

ريحانة القراء .. الباكى

لم يكن صاحب صوت جميل ومؤثر فقط، فهو الخاشع الباكى صاحب القلب المتضرع إلى الله، تمتع بقبول ساعده فى توصيل كلمة الله بصوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، فكان خير داعية إلى الله وكتابه ودينه على مستوى العالم، خشوع صوته تجاوز الزمان والمكان مما جعل أهل عصره يتسابقون لحضور مجالسه التى كانت تحفها الملائكة وتغشاها السكينة وترق بها القلوب.



 محمد صديق المنشاوى ليس مجرد مقرئ للقرآن الكريم حاز شهرة وكسب مالًا وسافر لدول كثيرة كحال غيره.. بل هو «حالة روحانية» لم يستمر بقاء جسدها على الأرض سوى 49 عامًا لكن تأثيرها سيظل باقيًا مادام لكتاب الله الكريم مكانًا فى قلوب المؤمنين، كان سفير القرآن صاحب الصوت العذب الذى تنشرح له الصدور، ويكفى نعى الشيخ الشعراوى له قائلًا «إنه يركب مركبًا ويبحر فى بحر القرآن الكريم ولن يتوقف هذا المركب عن الإبحار حتى يرث الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأرض ومن عليها». 

ميراث العائلة

عائلة الشيخ محمد صديق المنشاوى اشتهرت منذ 200 عام بكونها مدرسة لقراء القرآن الكريم.

البداية كانت مع الشيخ ثابت المنشاوى فى صعيد مصر والذى كان أشهر قرّاء زمنه وورثه ابنه سيد وتبوأ مكانة والده فى الشهرة.

 

 

أما الشيخ صدّيق ابن الشيخ سيد المنشاوى، فقد بدأ حفظ القرآن على يد والده وانتقل إلى القاهرة وتلقّى علم القراءات على يد معلم القراءات الشهير الشيخ المسعودى، وحرص الشيخ صدّيق المنشاوى على أن يحفظ أبناؤه الأربعة القرآن الكريم وهم محمد ومحمود وأحمد وحامد.

الأول والثانى أصبحا من مشاهير قراء القرآن فى العالم الإسلامى.

والثالث توفى صغيرًا بعد أن أتم حفظ القرآن، والرابع ما زال يعمل معلمًا بالأزهر، وقد ولد الشيخ محمد صديق المنشاوى فى 1920 بقرية البواريك بمدينة المنشاة بمحافظة سوهاج.

 وتميّز منذ صغره بأسلوب متميز يغلب عليه الحزن والخشوع والتضرع، فكان علمًا وإمامًا من أئمة القراءة لآيات الكتاب العزيز، أتم حفظ القرآن الكريم وعمره 8 سنوات، كان الشيخ محمد صديق المنشاوى.. واحدًا من أبرز قراء القرآن الكريم الذين جمعوا فى تلاواتهم بين الالتزام بأصول التلاوة الشرعية وبين القدرة على الخلق والإبداع فى الأداء، وهو من أهل الصفوة فى سجل قراءة القرآن الزاخر بعشرات الأصوات التى تلته ورتلته وأسهمت فى حفظه وتفسيره، فهو أحد عباقرة الجيل الثانى من القراء المرموقين إلى جانب الشيوخ أبو العينين شعيشع وكامل يوسف البهتيمى ومصطفى إسماعيل  ومحمود البنا وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود عبد الحكم وغيرهم. 

فى حفل زواج ابنته الكبرى
فى حفل زواج ابنته الكبرى

 

النهاوند المقام

اعتمدت مدرسة «المنشاوية» التى ينتمى إليها الشيخ محمد ووالده وأخوه على مقام «النهاوند»، واشتهر الشيخ محمد صديق المنشاوى منذ بدايته بعدة ألقاب منها «الصوت الباكي»، والمسألة لم تكن فقط مجرد حلاوة صوت بل أيضًا ساعده إتقانه لمقامات القراءة وانفعاله العميق بالمعانى والألفاظ القرآنية، وتميزت تلاوات المنشاوى بأنها تتضمن دروسا فى التفسير والقراءات والوقف والابتداء والمقامات المتنوِعة وتصوير المعانى وإحالتها إلى مشاهد متحركة تلمس من خلالها عذوبة وحلاوة القرآن وعظمة كلام الله عز وجل.

 ومن بين نحو 150 تسجيلًا له نلاحظ عدم وجود تلاوتين متشابهتين من كل وجه من ناحية الأداء والجمال الصَّوتى، فتلاوته لسورة الزُّخْرف تَختلف عن تلاوتِه لسورة ق، وكان الشيخ محمود صديق رحمه الله يفرق بين الترتيل والتجويد حيث يقول إن الترتيل هو قراءة القرآن الكريم بدون نغم أو تلوين فى الصوت، وهى القراءة التى نسمعها حاليا فى إذاعة القرآن الكريم، أما التجويد فهو ترك الصوت حسب طبيعته وفى تمهل للقراءة، وفيه تلوين فى النغمات الموسيقية ذاتها، لذلك فإنه يجب على أى قارئ للقرآن الكريم إتقان حفظ القرآن جيدا، مع حفظ مخارج الحروف مع مراعاة أصول التلاوة والترتيل من مد وإظهار وإخفاء وإدغام وغنة.

 وهذا هو التغنى عند تلاوة القرآن وهذا ما تبرزه القراءات السبع والعشر والأربع عشرة لنافع المدنى وابن كثير المكى وأبى عمرو البصرى وعاصم وهشام وأبى جعفر ويعقوب وغيرهم.

واشتهر الشيخ محمد صديق بالشجاعة وطيب الخلق وعطفه على الفقراء وتواضعه، فقلد كان كثيرًا ما يتحرر من عمامته ويرتدى جلبابًا أبيض وطاقية بيضاء ويجلس أمام بيته لدرجة أن بعض الناس كانوا يعتقدون أنه «بواب العمارة»!  

محمد صديق المنشاوى مع بعض الأقارب والأهل
محمد صديق المنشاوى مع بعض الأقارب والأهل

 

الشيخ المنشاوى هو صاحب أشهر تسجيل كامل للقرآن الكريم مرتلا، وله أيضا العديد من التسجيلات فى المسجد الأقصى والكويت وسوريا وليبيا، كما سجل ختمة قرآنية مجودة بـالإذاعة المصرية، وله كذلك قراءة مشتركة برواية الدورى مع القارئين كامل البهتيمى وفؤاد العروسى.

 تميزت قراءاته بقوة الصوت وجماله وعذوبته إضافة إلى تعدد مقاماته وانفعاله العميق بالمعانى والموسيقى الداخلية للآيات القرآنية الكريمة، ولقد تأثر المنشاوى بالشيخ محمد رفعت وكان محباً له ومن المعجبين بصوته وتلاوته.

 ويقول البعض إنه إذا كان الشيخ مصطفى إسماعيل أعظم من قام بتجويد القرآن، فإن الشيخ المنشاوى أعظم من قام بترتيله لِتميزه بعذوبة صوته وخشوعه فى القراءة وانفعاله بجلال القرآن ورهبته.

 وقال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب «فى تقديرى، إنه يمكن التعليق على أيّ قارئ من القرَّاء، إلاَّ المنشاوى الذى يمثِّل حالة استثنائية يحار أمامها الذائق الفاهم، فمن يتأمَل مخارج الحروف عنده يصعب أنْ يجد لها وصفًا، وذلك لِمَا منحه الله من حنجرة رخيمة، ونبرة شجية تلين لها القلوب والجلود معًا. ويتجلَّى ذلك عند ختامه للتلاوة، فتراه يستجمع كل إبداع التلاوة فى آخر آيتين بحيث يجعلك تعيش معه أشد لحظات الخشوع على الإطلاق». 

مواقف وعبر

كان الشيخ المنشاوى معظمًا لكتاب الله له حافظًا له هيبته، لم يكن مجرد «مقرئ» يذهب  لمن يدفع ووصل اعتزازه بنفسه لدرجة أن أحد الوزراء وجه له الدعوة لحفل قائلًا: سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفلًا بحضرة الرئيس عبد الناصر، فما كان من الشيخ إلا أن أجابه قائلًا: ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت محمد صدّيق المنشاوى.

 

 

 ورفض أن يلبى الدعوة وقرأ الشيخ المنشاوى القرآن الكريم فى سرادق عام لأول مرة فى قرية «أبار الملك» التابعة لمركز أخميم، وكان ذلك أول مؤشر على أن شهرة الشيخ الصغير، ثم انتقل مع والده وعمه إلى القاهرة ليتعلم القراءات وعلوم القرآن، وعند بلوغه الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ محمد أبو العلا. وفى عام 1953 كتبت مجلة الإذاعة والتليفزيون عن الشيخ محمد صدّيق المنشاوى باعتباره أول مقرئ تنتقل إليه الإذاعة، وبعد اعتماده مقرئًا فى الإذاعة عينته وزارة الأوقاف قارئًا بمسجد الزمالك بالقاهرة وظل به حتى وفاته، وقد زار الشيخ السعودية واليمن والإمارات والسودان سفيرًا للقرآن الكريم، ثم أوفدته وزارة الأوقاف المصرية إلى لندن وكان معه الشيخ حجاج السويسى لإحياء شهر رمضان لدى المركز الإسلامى والجالية الإسلامية، فى عام 1955 قام بزيارة إلى إندونيسيا برفقة الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد بدعوة من الرئيس الإندونيسى أحمد سوكارنو والذى منحه وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، كما حصل على وسام استحقاق آخر من الدرجة الثانية من سوريا.

 وقد روى ابنه حكاية غريبة عن محاولة لاغتيال الشيخ المنشاوى وقال «عندما كان مدعوًا فى إحدى السهرات عام 1963 وبعد الانتهاء من السهرة دعاه صاحبها لتناول الطعام مع أهل بيته على سبيل البركة ولكنه رفض فأرسل صاحب إليه يلح عليه فوافق، وقبل أن يبدأ فى تناول ما قدم إليه من طعام أقترب منه الطباخ وهو يرتجف من شدة الخوف وهمس فى إذنه قائلًا: يا شيخ محمد سأطلعك على أمر خطير وأرجو ألا تفضح أمرى فينقطع عيشى فى هذا البيت، فسأله عما به فقال: أوصانى أحد الأشخاص بأن أضع لك السم فى طعامك فوضعته فى طبق سيقدم إليك بعد قليل فلا تقترب من هذا الطبق أو تأكل منه، وقد استيقظ ضميرى وجئت لأحذرك لأنى لا أستطيع عدم تقديمه إليك فأصحاب السهرة أوصونى بتقديمه إليك خصيصًا تكريمًا لك، وهم لا يعلمون ما فيه ولكن شخصا ما أعطانى مبلغًا من المال لأدس لك السم فى هذا الطبق بدون علم أصحاب السهرة ففعلت فأرجوا ألا تبوح بذلك فينفضح أمرى، فقام الشيع بادعاء بعض الإعياء أمام أصحاب الدعوة ولكنهم أقسموا عليه فأخذ كسرة خبز كانت أمامه قائلًا: هذا يبر يمينكم ثم تركهم وانصرف». 

المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد
المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد

 

13 ابنا؟!

تزوج الشيخ المنشاوى مرتين، أنجب من زوجته الأولى أربعة أولاد وبنتين، ومن الثانية خمسة أولاد وأربع بنات، ورغم أن مسئولية تربية 13 ولدًا وبنتًا كانت كبيرة عليه لكن الأساس عنده كان تحفيظهم القرآن قبل أن يتجهوا فى دراستهم لمجالات عديدة، فمنهم من أصبح تاجرًا ومهندسًا وضابطًا وأستاذًا جامعيًا ومحاسبًا.

توفيت زوجته الثانية وهى تؤدى مناسك الحج قبل وفاته بعام .

وفى عام 1966 أصيب الشيخ المنشاوى بمرض دوالى المرى  ورغم مرضه ظل يقرأ القرآن حتى رحل عن الدنيا فى  يونيو 1969، وكان فى أيامه الأخيرة يقرأ القرآن بصوت جهورى شجى أكثر من أيام صحته وكان الناس يجلسون خارج بيته ليستمعوا إليه دون علمه وهم متأثرون وكأنهم أحسوا بدنو أجل الشيخ.