الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

.. المتحدة تعيد تشكيل الوعى بدراما تاريخية رائعة

«حراس الهوية»

فى البداية دعونا نعترف بأمر واقع.. الأعمال الدرامية بشكل عام هى واحدة من أهم أدوات القوة الناعمة، فمن خلالها تستطيع أن تبث أفكارك وتوجهاتك إلى كل بيت يحتوى شاشة تليفزيون أو كمبيوتر.. ما يعنى امتلاكك القدرة على التحكم بـ«الصورة الذهنية» على مستوى الفرد أو حتى «الفِكر الجمعى» على مستوى المجتمع.. ومن خلالها تستطيع أن تعيد تشكيل الوعى وتزكى روح الوطنية والانتماء.. وأن تكشف زيف أفكار هدامة تغلغلت أو حاولت أن تسيطر على أفكار أجيال كاملة.



وبلا شك، تسهم المسلسلات التاريخية أو المأخوذة من قصص حقيقية فى تشكيل الوعى، وهو ما يبدو جليًا فى التأثير الذى فرضته مسلسلات مثل «رأفت الهجان» أو «دموع فى عيون وقحة» أو «السقوط فى بئر سبع» أو «الحفار» أو «حرب الجواسيس»... فكلها مسلسلات ساهمت فى رفع الحس الوطنى وترسيخ قيم الانتماء والهوية المصرية. 

الاعتراف الأول لا بد أن يتبعه اعتراف آخر فى منتهى الأهمية وهو أننا فى مصر ولفترة طويلة تركنا حلبة المنافسة فى مجال الدراما التاريخية لدول أخرى استطاعت فرض رؤيتها وبثت سمومها من خلال أعمال تاريخية مليئة بالأكاذيب والمغالطات.

تراجعنا فى إنتاج الدراما التاريخية كان لأسباب كثيرة أهمها التكاليف الضخمة والإنتاج الباهظ الثمن وهو ما كانت شركات الإنتاج تهرب منه.. باحثة عن المكاسب القريبة المضمونة من خلال قضايا اجتماعية خفيفة أو كوميديا لطيفة تربح من خلالها.

 

 

ومع أن التاريخ يوفر لصنّاع الدراما كثيرا من الفرص لجذب الجماهير، وبناء وعيها بهويتها، وتشكيل صورتها الذاتية، وكثير من الدول أصبحت تبحث فى تاريخها عن الإنجازات والانتصارات التى يمكن أن تسهم فى زيادة اعتزاز شعبها بالانتماء لها، وتثبت للعالم أنها قدمت إنجازات حضارية تاريخية، وشاركت فى تطوير الحضارة الإنسانية.. إلا أن الأمر ظل بعيدا عنا فى مصر حتى عدة سنوات مضت.

لكن أن تأتى متأخرا خيرا من ألا تأتى.. وحسنا فعلت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية عندما تصدت خلال السنوات القليلة الماضية لإعادة الدراما التاريخية المصرية إلى المكانة التى تستحقها.. فعلتها فى المسلسل الملحمى البطولى «الاختيار» وكررتها أيضا فى هجمة مرتدة والقاهرة كابول.. وبدأنا وقتها نشعر بالتطور الكبير فى الإمكانيات وتوفير كل مستلزمات الإنتاج الضخمة.

وتمثل تجربة مسلسل «الاختيار» بالذات تغييرًا جذريًا فى مفهوم الدراما بعدما أخذ شقًا تاريخيًا بتعزيزها بمشاهد حقيقية ملحقة بعبارة تفيد ذلك على الشاشة وتمزج بين الدراما والأفلام التسجيلية وهو ما أعطاها المزيد من المصداقية.

وفى رمضان هذا العام 2024 تعود «المتحدة للخدمات الإعلامية» وتؤكد على توجهها نحو الدراما التاريخية وذلك بتقديم عمل ضخم هو «مسلسل الحشاشين» وفى رأيى أن هذا العمل تحديدا سيكون بمثابة الباب الكبير الذى سيفتح على مصراعيه لتقديم أعمال أخرى كبيرة ومن خلاله ستدخل الدراما التاريخية المصرية حلبة الصراع الكبرى فى امتلاك مساحات شاسعة فى التأثير ليس فى مصر فقط لكن فى العالم العربى كله وستنهى بـ«الحشاشين» عصر سيطرة الدراما التركية والسورية التاريخية على هذا المجال المهم.

«الحشاشين» من أول مشهد سترى كم هو مبهر «ديكورا وتصويرا.. وإضاءة.. ملابس» وهناك اهتمام كامل بالتفاصيل.. مع كادرات إخراجية احترافية جميلة.. إضافة إلى نص مكتوب بجمال وروعة.

 

 

والحقيقة أن الأعمال التاريخية من هذا النوع بالتأكيد هى صعبة.. لكنها مهمة فى توقيتها ونتائجها.. وفى ظنى أن الدراما المصرية سوف تستطيع من خلال «مسلسل الحشاشين» أن تنافس فى مساحة كانت مفقودة لفترة طويلة.. واستطاعت دول كثيرة أن تستحوذ على هذه المساحات.

>السؤال المنطقى هنا.. لماذا الدراما التاريخية مهمة؟

ببساطة لأنها تعبر عنك وعن رؤيتك وتتكلم بلسانك.. مثلا الدراما التركية المليئة بالمغالطات وتزييف التاريخ وتسييس للقضايا حققت شعبية طاغية لتركيا وخدمت على هدفها الرئيسى فى إعادة تركيا كدولة مؤثرة فى محيطها الإقليمى من خلال تأثيرها على الشباب والمراهقين رأينا ذلك فى «قيامة أرطغرل» إنتاج 2014، و«قيامة عثمان» إنتاج 2019، و«نهضة السلاجقة» إنتاج 2020، وشوف كمان إزاى إيران دخلت اللعبة دى بمسلسل «مختار نامة» إنتاج 2010.

والحقيقة أن إنتاج هذه الأعمال كان الهدف منه التأثير فى الأجيال الجديدة وخلق نوع من الارتباط العاطفى والتفاعل الاجتماعى والثقافى بين المراهقين، وما تطرحه هذه المسلسلات من مضامين وأفكار.

هذا التوجه يبدو واضحًا أيضا فى توجيهها إلى المشاهد العربى واللعب على أوتار «النوستالجيا التاريخية» عنده وجذب عاطفته نحو الرموز العثمانية، ففى «فاتح 1453» يتعلق بمحمد الفاتح، وفى «حريم السلطان» يشغف بسيرة سليمان القانونى، وفى «عاصمة عبدالحميد» ينبهر بـ«عظمة» عبدالحميد الثانى، أما فى «قيامة أرطغرل» فهو يُذهَل بقوة وكفاح أرطغرل جد آل عثمان.. بل وقد كانت ثمة محاولة تركية لغزو السينمات العالمية بفيلم أُنتِج فى هوليوود هو «الضابط العثمانى» يقدم رؤية تركية تبرئ العثمانيين من مذابحهم بحق الأرمن، ولكنه لم يحقق النجاح المنشود.

وبصراحة شديدة هذه التجارب أثبتت أن الدراما الملحمية قادرة على جذب الجمهور بشرط الصناعة الجيدة والإنفاق ببذخ فى المعارك والديكور والملابس، والتصوير فى أماكن مناسبة تاريخيا أو على الأقل صناعة ديكور متقن للأماكن التاريخية.

وبالمناسبة الدراما التاريخية الملحمية تعتبر توجها عالميا وحلبة للتنافس بين منصات البث الرقمى ولها جمهور عريض ويكفى أنك تتابع كمية المشاهدات لمسلسل زى «فايكنج» أو «المملكة الأخيرة» أو «البرابرة» ونهضة السلاجقة واللى اتجاوزت كل التوقعات، وحققت معدلات خيالية من المشاهدة.

وبنظرة سريعة على المسلسلات التى تقدمها شركات الإنتاج الأمريكية والبريطانية والكندية سنكتشف أنها تعمل لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية وثقافية بعيدة المدى، من أهمها بناء الصور الذهنية والنمطية عن هذه الشعوب وتقديم أبطال منها قادرين دائما على حل كل المشكلات وإنقاذ العالم.

وعلينا أن نعرف أن بناء الدراما التاريخية يحتاج إلى تحديد الأهداف، فهى لم تعد قضية إبداع فنى يقدمه مؤلف ومخرج وممثلون، لكن هناك خبراء فى مجال الصورة الذهنية والتأثير والدعاية والإعلام وهؤلاء أصبح لهم دور تفوق أهميته جودة العمل الفنى نفسه، والتقنيات المستخدمة فيه.

ويجب أن ندرك أن المسلسلات التاريخية أصبحت تشكل مجالا مهما للاتصال عبر الثقافات، فهى تؤثر فى كثير من الشعوب وتسهم فى بناء علاقات طويلة المدى معها عن طريق التعاطف مع قضاياها، وأنسنة قصص كفاحها، وتمجيد أبطالها، والإعجاب بقيمها وإنجازاتها...أو كشف زيف أفكار أعدائها ودمويتهم الموروثة من جماعة لجماعة.

لذلك أصبحت الدراما التاريخية عابرة للثقافات، وتحمل رسائل للشعوب الأخرى، وتسهم فى بناء الصورة الذهنية لدولة أو أمة، وتوسّع قاعدة القيم والأهداف المشتركة التى يمكن أن تكون أساسا للتعاطف وتبادل المصالح والمشاركة فى الكفاح لتحقيق أهداف عظيمة مثل مقاومة العنف والقتل والإرهاب.

علينا أن ندرك أن إنتاج المسلسلات الدرامية التاريخية لا يكون بهدف التسلية، أو تحقيق المتعة للمشاهدين فقط، ولكنه عملية تهدف إلى تحقيق كثير من الأهداف السياسية والثقافية..فهى بمثابة اتصال عابر للثقافات يسهم فى زيادة حضور الدولة على المستوى الإقليمى والعالمى بثقافتها وقيمها وإنجازاتها التاريخية.

والمستقبل يقوم على استثمار الدول لتاريخها فى بناء مجتمعات معرفية، وإقامة اقتصادها على المعرفة، لذلك تتزايد حاجة الدول إلى تعليم التاريخ للشباب، وتحفيزهم لاكتشاف كنوزه المعرفية التى تسهم فى تشكيل ثقافة الشعب، وتزيد قدراته على الإبداع وإنتاج المعرفة، ومن ثمّ يمكن أن تسهم الدراما التاريخية فى بناء المجتمعات المعرفية، وفى تحفيز الشعب لإنتاج المعرفة وتبادلها مع الآخرين.

الخلاصة.. الشعب الذى يستورد المعرفة، ولا يقوم بإنتاجها لن يكون له دور فى المستقبل، وهو ما أدركته جيدا الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية ولذلك قدمت لنا مسلسل «الحشاشين» باحترافية شديدة ليصبح نموذجا لأعمال تالية كتيرة لأن فى رأيى السنوات القادمة ستشهد تركيزًا أكبر من الدراما المصرية على التاريخ بجميع أبعاده، وذلك لارتباطه بقضية تشكيل وعى الأجيال الجديدة التى بتستقى معلوماتها من الدراما.