الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كيــف يحــدث التدويــن الشعبــى لقصــص الأوليـاء

التفسير الاجتماعى لكرامات «أهل الله»

ريشة: جون مراد
ريشة: جون مراد

كرامات الأولياء فى التراث الشعبى قصص لا تنتهى، تستطيع أن تواكب كل عصر وتتجاوزه وتستمر، وهو ما يعرف بالتدوين الشعبى للأحداث، والتأريخ الهلامى لسيرة الأولياء.



وتبدع الشعوب فى تخليد حياة أوليائهم وكتابة سِيَر حياتهم وفْقَ رؤيتهم لهم، ولهذا فقد أخطأ بعض المؤرخين كثيرًا عندما أزاحوا الكرامات الصوفية جانبًا إذْ أهملوا بذلك جانبًا خصبًا من طرائق البحث فى الوجه الآخر للمجتمع أشبه بالتأريخ الشعبى للحياة كما يتصورونها ويتمنّونها.

 

 

ولقد بدا لى فيما جَمِعته من كرامات شفهية أن المسلمين يكنُّون حُبّا جَمّا لآل البيت جعلهم يروون كرامات لا تُحصى عنهم، لكن الشىء المستغرَب هو أن الرؤية الشيعية للكرامات من حيث إنها لا تقع إلا على يد الأئمة قد أثّر على الأولياء السُّنِّيين لذا ألحقهم الناس بسلسلة نسَبيّة تنتهى بالحَسن أو الحُسين ابنىّ بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد جاءت هذه المحاولات فجّة لدى بعض أولياء ينتسبون إلى أصول غير عربية أو ينتسبون إلى أصول بربرية أو فارسية أو هندية أو تركية.

وقد يشطح بعض المريدين فى ملفوظاتهم وأفعالهم وما يؤثر عنهم فى موضوع الكرامات، ويُرجِعون هذا الشطح إلى الحالة التى تنتابهم وهى نابعة عن السُّقيا التى عبَّرَ عنها عز الدين المقدسى فى قوله:

فإنْ كنتُ فى سُكْرى شطحتُ فإننى. حكمتُ بتمزيقِ الفؤادِ الـمُـفَتّتِ

ومِن عجبٍ أنّ الذين أُحبُّهــــــم.. وقد أَعْلَقُوا أيدى الهوى بأَعِنّةِ

ســقَوْنى وقالوا: لا تُغَنّ! ولو سَقَوا.. جبالَ حُنَيْنٍ ما سَـقَوْنى لغَـنّتِ

هذه السّقيا هى المعادل الذى يجعل لغة المتصوفة لغة شاعرية، لغة تمنح الأشياء مسمّياتها من جديد، فهى غياب حضور اللفظ وحضور غياب المعنى. 

من الأدب العالمى

لقد كانت الكرامات مَنْهلا خصبًا للأدب العالمى، حيث وُظّفت توظيفًا انتشل الأدب من التقريرية للخيال اللا محدود والرؤى الشعرية التى تركت بصماتها على الأسلوب الأدبى للفنون، وقد استُقبل النص الكراماتى التراثى استقبالا أثْرَى الحكْى الأدبى، وفى خلال عملية الاستقبال استطاع الأدباء أن ينتجوا نصّا مغايرًا للنص التراثى ومتجاوزًا له أيضًا.

وللكرامة وظائف كثيرة إلا أننى أستطيع أن أحدد للكرامة كجنس عام وظيفتين أساسيتين هما: إثبات الولاية، والتنفيس الإبداعى عن أفراد المجتمع. 

 

 

 

وهاتان الوظيفتان تندرج تحتهما كل الوظائف الأخرى التى تبدو منهجيّا شرحًا لهاتين الوظيفتين، والوظيفة الأولى خاصة بالمتصوفين،أمّا الثانية فهى إنتاج إبداعى جماعى لأفراد المجتمع إمّا لإرضاء حالة الإبداع لديهم وقَوْلبة هذا الإبداع فى شكل الكرامات التى هى فى معظمها ذاتية الشهود.

وعلى ذلك فهى دليل قوى على تفرد ذاتية الفرد الإبداعية من جانب، ودليل على تقبل المجتمع لهذه الظاهرة لتفسير أشياء غيبية يجهل تفسيرها علميّا من جانب آخر.     

 يقتنّع الشعبُ بالكرامة لمجابهة حاكم أو لسَتر فضيحة أو لتحقيق مكسب اجتماعى قد لا يتوافر إلا من خلال الكرامة.

وربما كانت الكرامة نتيجة للانكسار الذى يعانيه شعب ما فى حالات ضعفه فيلجأ إلى الاعتقاد «فى قوى أخرى غير منظورة لتساعده فى حل مشاكله وأصبح من اللازم الاعتقاد فى المخلص الذى يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جُورًا».

وتروى المستشرقة الأمريكية فاليرى هوفمان كرامة عن الشيخ وافى محمد وافى أنه «عندما مات أبوه وأراد الناس اختباره بمدى قدرته على تحقيق الكرامات حتى يلى منصب أبيه (كشيخ للطريقة) من بعده، فألقوا بإبرة فى غلاّية لقصب السُّكَّر (فى درجة حرارة عالية) وطلبوا منه أن يأتى بها، فأمسك بطفل وأدخل رأسه فى القصب المغلى، وسأله :هل ترى إبرة؟ فقال: لا، فأخرجه غير مصابٍ بسوء، ثم أدخل العصى التى يستند عليها فى الغلاّية وأخرجها وفى نهايتها الإبرة».

وحسب منظور هذه الحكاية فإن الكرامة مقياس لاختبار الشيخ لكنها أخطأت حينما ذكرت أن «القدرة على (الإتيان) بالكرامات من الصفات الضرورية التى يجب أن تتوافر فى الولى»، إلا إذا كانت تقصد وجهة نظر العامة الذين يرون فى الكرامات قوى غيبية قادرة على إدخال الدهشة فى نفوسهم، وتثبيت اعتقادهم فى الشيخ وفى قواه الخارقة مما يفتح لديهم الأمل فى قدرته على تحقيق أمنياتهم، ومن ثَم تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية و... إلخ.

فريق من الصوفيين يرى أن الكرامة ليست من شروط الولاية، بل عدَّها بعضهم عبئًا واختبارًا للولى ذاته، ناهيك عن أن بعض الأولياء يجهل أنه ولى.

فقد ذكر القشيرى «أن الولى يجوز أن يعلم أنه ولى».

وهذه الحكاية تقليد لنص كراماتى قديم «أسقط إبراهيم بن أدهم إبرة من يده فى النهر، فأشار إلى النهر قائلاً: ردوا إبرتى إليّ! فأخرجت ألف سمكة رأسها من الماء، وفى فم كل واحدة منها إبرة من ذهب.

قال إبراهيم: إنى أريد إبرتى عينها. فخرجت سمكة ضعيفة تمسك بإبرة فى فمها وتقول: هذا ما بقى من ملكك يا إبراهيم».

 

 

 

وعندما نوازن بين الكرامتين نجد أنهما تدوران فى رؤية إبداعية واحدة، فابن أدهم يبحث عن إبرته التى رماها- بنفسه- فى النهر، ووافى يبحث عن إبرته التى ألقاها فى الغلاية، ونجد تطورًا فى الكرامة، فالماء فى النهر سيبقى على الإبرة بينما الإبرة فى هذه الغلاية ذات الحرارة العالية لا شكَّ ستصهر الإبرة ولكنها تظل كرامة للشيخ.

كذلك فالكرامة الأولى تُسَخِّرُ الأسماك لكن على الصعيد الآخر يُسَخِّرُ وافى فى الكرامة الجديدة الطفل الذى يغرس رأسه فى العصير المغلى لكنه يحجب عن الرؤية فلا يرى ويخرجه سالمًا آية أخرى وسط انبهار المشاهدين والمتلقين.

وفى كرامة ابن أدهم تخرج سمكة ضعيفة حاملة إبرته بعد أن رفض الذهب زهدًا، بينما يُدخل وافى عصاه فى العصير المغلى فتخرج دون سوء يمسها وفى طرفها الإبرة الضائعة.     

سمر فى الصعيد

حلقات السَّمَر فى صعيد مصر تتخذ من قصص الكرامات مادة أساسية فى جلساتها، ويتنافس مريدو الطرُق المختلفة فى تأليف الكرامات المنسوبة لمشايخهم دفعًا لمنافسيهم من الطرُق الأخرى وحُبّا وكرامةً لمشايخهم الذين يرون أنهم تفرّدوا بأعلى الكرامات دون سواهم من المشايخ. 

وفيما جمعتُ من كرامات شفهية ومدوّنة أرى أن وظائف الكرامة تجىء على النحو لأكثر من سبب أولها: إثبات الولاية:

إن وظائف الكرامة تقوم بإثبات الولاية للولى، وهذا يعود إلى سببين إمّا لأن الولى يريد أن يثبّت مريديه ، وأن يثبت لهم قطبيّته وأنه غوث العصر وأن الله ألهمه بالكرامات وأمدّه بها، ولذلك كان الشيخ أحمد الدردير يردد فى أدعيته « أَيِّدْنا بالكرامات» أو لأن الشيخ فى تحدٍّ أمام منكريه الذين يرون فى التصوف بدعة فيحاول الشيخ أن يأتى بالحجج الدامغة حتى يؤمن المنكرون بالتصوف ومن ثَم يعترفون بالكرامات بشكل خاص. 

ويرى الباحث على زيعور أن الكرامة ربما «تشبع لذة عند الصوفى الذى يعيش عادة بلا لذائذ، وتعوّض عن نقص فى الحُب والنشاط والحركة».

لكن هذا الرأى لا يتفق مع أحوال الصوفيين الذين ملأ الحب الإلهى قلوبهم، وعاشوا فى لذة لو ذاقها الملوك لجالدوهم عليها بالسيوف على حد قولهم، ولعل نشاطهم الذى ترويه الكتب والمشاهدة يدحض نقص الحركة, فحياتهم كلها تجوال وخلوتهم ركوع وسجود وذِكْر يمثل الوِرْدَ الذى يعد برنامجا يوميّا.

ولقد بدا لى أن جانبًا كبيرًا من الكرامات فى هذا المجال يندرج تحت إثبات القدسية على مؤلَّف من المؤلفات.

فمثلا عندما أنشأ البوصيرى قصيدته المشهورة «البردة» التى اكتسبت شهرتها مما دار حولها من كرامات أسهم البوصيرى نفسه إن صدقت الروايات المنسوبة إليه فى جانب منها، حيث حُكى أن فالجًا «مرضًا» أصابه أعيا الأطباء، وفكّر فى إعمال قصيدة يتشفع بها إليه صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وأنشأها فرآه ماسحًا بيده الكريمة عليه فعوفى لوقته ثم لما خرج من بيته لقيه صالحٌ فطلب منه سماعها فعجب إذْ لم يخبر بها أحدًا فقال: سمعتُها البارحة تُنشد بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يتمايل، فأعطيتُه إياها. 

وقيل إنه اشتد رمده بعد نظمِها فرأى النبى فى النوم فقرأ عليه شيئًا منها وتفل فى عينيه فبرأ لوقته. 

وهنا نرى إلى أى مدى كشف البوصيرى نفسه إن صحت الروايةـ عن قداسة قصيدته وكيف أن رسول الله أُنشدت بين يديه فتمايل إعجابًا بها ثم نرى أن البوصيرى قد طوّر بنائية الكرامة المنامية بكرامة منامية أخرى لصالح، وقد استخدم الراوى عن البوصيرى «رأى» مما يحتمل معه الرؤية والرؤيا.

فصوص الحكم

يشير ابن عربى فى مقدمة كتابه «فصوص الحِكَم» فيقول: «أمّا بعد: فإنى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى مبشِّرة أريتها فى العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لى: هذا كتاب فصوص الحِكم، خذه واخرج به إلى الناس ينتفعوا به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولى الأمر منا كما أُمرنا»، ثم بدأ فى كتابة كتابه، وهذا الذى حكاه ابن عربى من المؤثرات التى قصدها كى تؤثر فى المتلقى، فالكتاب محدد من قِبل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عنوانًا ومتنًا ولا يخفى ما قصده من تحديد زمانى ومكانى يجتذب الحكاية من دائرة التخيل إلى دائرة الشهود.

وربما دفعت المنافسة بين الكُتّاب إلى إضفاء القدسية على مؤلفاتهم حتى تكتسب حصانة ما ضد النقد، ولا يخفى علينا أثر هذه المحاولة على المريدين الذين يتلقفون هذا الإبداع الملهم تلمسًا للبركة والمدد. 

ولماذا لا تكون تلك المحاولات موجهة ضد النقاد؟! 

وتستخدم الكرامة لنشر مذهب دينى معين وإضفاء قدسية عليه، وفى ذلك يروى الشيخ محمد علا الدين أن أبا حنيفة «فى حجته الأخيرة استأذن حجبة الكعبة للدخول ليلا فقام بين العموديْن على رِجْله اليُمنى ووضع اليُسرى على ظهرها حتى ختم نصف القرآن، ثم ركع وسجد ثم قام على رِجْله اليُسرى ووضع اليُمنى على ظهرها حتى ختم القرآن، فلما سلّم بكى وناجى ربه وقال: إلهى: ما عبَدَك هذا العبد الضعيف حق عبادتك، لكن عرفك حق معرفتك، فهب نقصان خدمته لكمال معرفته.

 

 

 

فهتف هاتف من جانب البيت: يا أبا حنيفة قد عرفتنا حق المعرفة وقد خدمتنا فأحسنت الخدمة، وقد غفرنا لك ولمن اتبعك ممن كان على مذهبك إلى يوم القيامة».

ونرى هنا أن الهاتف قد غفر لأبى حنيفة ومن اتبع مذهبه إلى يوم القيامة، ولو صحت هذه الكرامة فإن المتلقى الوحيد هو أبوحنيفة ذاته، أى أنه ليس هنالك شهود، ولذلك فإن المباركة من الله لأبى حنيفة ولمذهبه قد أذاعها أبوحنيفة ذاته. 

ولقد كتب فريد الدين العطار فى كتابه «أشتر نامه» أى كتاب الجمل، أنه رأى النبى فى أحد أحلامه، وأنه صلى الله عليه وسلم باركه». 

وعبر الشيخ أحمد التليلى فى مناقبه عن علمه «نور أضاء علىّ وأنا جالس فى مسجد سيدى عباس، ثم تكاثر ذلك النور وعلا وامتد شرقًا وغربًا». 

ولعل حالة أبى حامد الغزالى التى عبَّرَ عنها فى كتابه «المنقذ من الضلال» تنبئ عن أنه احتبس لسانه فلم يقدر على الكلام، واعتزل الناس، وخرج من العزلة لكى يكون قطب عصره بناء على رؤى منامية رآها هو ولم يرها غيره من أتباعه. 

ولقد عبَّرَ الشيخ عبدالقادر الكيلانى عن أنه لا يلفظ إلا ببركة الرسول والإمام علىّ، فقد قال: «رأيت رسول الله قبل الظهر وقال لى: يا بنى ألا تتكلم ؟ فقلت يا أبتاه أنا رَجُل أعجمى فكيف أتكلم على فصحاء بغداد؟

فقال افتح فاك: ففتحه فتفل سبعًا وقال لى: تكلم على الناس وادعُ إلى سبيل ربك بالحِكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر فجلست وحضرنى خَلقٌ كثير فارتج علىّ، فرأيت عليّا- رضى الله عنه- قائمًا بإزائى فقال: يا بنى لِم لا تتكلم بشىء؟ فقلت: يا أبتاه: ارتج علىّ، فقال: افتح فاك، ففتحته، فتفل فيه ستًا، فقلت: لِم لا تكملها سبعا؟ فقال: أدبًا مع رسول الله. ثم توارى عنّى». 

وعبدالقادر الكيلانى يُقرر أنه رأى الرسول وكذلك الإمام علىّ يقظة وليس منامًا مما يضفى على ما يقوله مهابة وقدسية، ونجد أن الكرامة قد أوجدت عدة كرامات تالية فى حلقات ومستويات مختلفة أيضًا مما يوحى أن الكرامة قابلة لبناء كرامات متتالية فى نسيج واحد.

جانب آخر

أما الجانب الاجتماعى والسياسى فى الكرامات، فربما يظهر من خلال أحلام الناس المتعلقة بالكرامات التى تحقق للناس أحلامًا لا يستطيعون تحقيقها فى الواقع.

فيروى الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الأسبق فى كتابه «أبو البركات سيدى أحمد الدردير»: «إن الشيخ أحمد الصاوى قال: «حصل معى أمرٌ يتعلق بالحكومة المصرية، وخافت على الأحبّة، فبعد توسلى بهذا القطب الشهير وهو سيدى أحمد الدردير رأيت أنى فى قصر منفرد مغلق الأبواب، ممتلئ بالحيات الكبار والأفاعى وصغار الثعابين، فتجاسرتُ على قتل الصغار ثم تفكرتُ فى نفسى فوجدت أنى لا أستطيع الصبر فى ذلك المكان لحظة خوفًا من الكبار ولم أجد مساغًا إلى الخروج بغلق الأبواب جميعها، فإذا بشباك مفتوح فى أعلى القصر، فنظرت فرأيت قصرًا آخر مقابلا للقصر الذى أنا فيه يسمى قصر الأمان، فتحيرت فى الوصول إليه لبُعد المسافة التى بينه وبين الذى أنا فيه.

وإذا بجوهرة يتلألأ نورها فى جو السماء إلى الأرض فخاطبتنى بقولها: أنا روح الدردير، افتح فمك حتى أدخل جوفك أو حتى أمتزج بلحمك ودمك، ففتحت فمى فدخلت فيه، فوجدت قوة عظيمة جدّا، وقلت فى نفسى: سر كيف شئت حينئذ.. وضعت إحدى رِجْلىّ فى الهواء والأخرى فى قصر الأمان..»

فالخوف كان دافعًا لهذه الكرامة محتميًا بجاه الإمام الدردير الذى كانت له مكانة عظيمة لدى الحُكام والأفراد. 

ولا يخفى علينا هنا أهمية الكرامات فى وصف حالة المجتمع وموقفه من السُّلطة كما أنها تعدُّ رافدًا أساسيّا فى فهْم الحالة النفسية للأفراد.

وهذا ربما يجعلها قريبة من الأدب العجائبى فى هذه الوظيفة بالذات، حيث يرى تودوروف فى كتابه «مدخل إلى الأدب العجائبى» أن موضوعات الأدب العجائبى قد صارت أدبيّا هى موضوعات الأبحاث السيكولوجية». 

ويركز الصاوى على وصف مسرح الأحداث، حيث الأفاعى التى توشك أن تلدغه، ويأتى المخَلص فى صورة إبداعية جميلة، حيث يبلع جوهرة «يتلألأ نورها فى السماء إلى الأرض» فتهبه قوة خارقة تمنحه قدرة السَّيْر فى الهواء. 

وقد عبر عن هذا الحدث بفعل «رأيت» الذى يتحمل الرؤية والرؤيا!

أو تكون الحاجة إلى الشفاء من مرض دافعًا للكرامة أيضًا، فقد أورد حمد الله الداجوى أن: «إسماعيل بن بلال الحضرمى قد عُمِى، فأتى فى المنام فقيل له: قل: يا قريب يا مجيب، يا سميع الدعاء، يا لطيف بمن شاء! رُدّ علىّ بصرى، فقال الليث بن سعد: رأيته قد عُمى ثم أبصر». 

كما قد تكون الكرامة السلاح الأخير الذى يواجِه به الأعزل السُّلطة، وهذا يدخل فى إطار التحدى وفى الوظائف الاجتماعية والسياسية للكرامة.

ولقد ذكرت جوليا جونيلا أنه فى حرب الخليج 1991 روى بعض الناس أن الولىّ الشيخ يوسف قرلق (وكان عالمًا وشاعرًا من الخلوتية وتوفى فى 1251هـ) خرج من قبره (فى سوريا) ليعين الشعب العراقى فى معركته ضد الأمريكان».

وهنا التوظيف السياسى والاجتماعى للكرامات وتحولها إلى سلاح فى يد الشعب. 

وقد انتشر الاحتفال بموالد الأولياء، وعبّر الاحتفال بالولى اعترافا صريحًا بالكرامات، فالناس يبدؤون أوَّلا فى رواية الكرامات التى يرونها وتهدف إلى المطالبة بإقامة احتفال سنوى بذكرى ميلاده أو وفاته فإن غُمّ الاثنان اختير تاريخ آخر يكون مناسبًا للمحتفلين ولا يتعارض مع احتفال بمولد ولىّ قريب.

وهنا تنشأ الذاكرة الجماعية للشعب مؤيدة بالكرامات مشروعية الاحتفال والبهجة، مصورة النقم التى ستحل بمن يقف ضد هذا القرار أو مفسرة لكوارث طبيعية حدثت للمنطقة أو لأشخاص مشهورين بها مُرجعةً ذلك إلى الولى.