الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بلبل الصعيد

يتربع الشيخ ياسين التهامى على عَرش الإنشاد الصوفى المصرى منذ سنوات بعيدة، فقدْ استطاع الرجل الصعيدى ذو الملامح المميزة والصوت الموحى أن يمثل حالة خاصة ومتفردة فى عالم الإنشاد الصوفى أهم معالمها قوة الإحساس مَهما كانت صعوبة الكلمات التى يتغنى بها، فضلاً عن تقريب تلك المعانى والكلمات الصوفية الصعبة إلى جمهوره ومستمعيه بسلاسة جعلتها على ألسنة العامّة قبل المثقفين والنخبة ناهيك عن أن الرّجُل أصبح له جمهور ومريدون متنوعو الثقافة والتعليم والاهتمامات مثل المطربين العظام داخل مصر وخارجها. 



 

اسمه بالكامل ياسين تهامى حسانين محمد، وُلِدَ بقرية الحواتكة بمركز منفلوط بمحافظة أسيوط عام 1949، وهى قرية مميزة تحظى بالعديد من أضرحة أولياء الله الصالحين الذين تقام لهم موالد سنوية، ومن الأضرحة الموجودة بها: ضريح الشيخ التهامى حسانين، وهو بالمناسبة والد الشيخ ياسين التهامى، وضريح الشيخ أبى الحسن المحمدى، والشيخ عبدرب النبى، والشيخ الحلوى، والشيخ الريدى وغيرهم، ومعظم أبناء القرية ينتمون إلى الطرُق الصوفية ومن عشاق ومحاسيب آل البيت.

بيت «الذكر»

نشأ الشيخ ياسين التهامى فى بيت دينى، حيث كان والده من أولياء الله الصالحين الذين يهتمون بالموالد ويقدرونها، وكان لهذا الجو الدينى تأثير عميق على «ياسين» الذى نشأ وتربّى فى جو يسوده التدين وحُب وذِكر الله، وذلك من خلال ليالى الذكْر التى كان يقيمها والده فى المناسبات الإسلامية، مثل المولد النبوى الشريف وغيرها من المناسبات الدينية.

 

 

 

وكان من البديهى أن يرسل الوالد ابنه إلى الأزهر الشريف ليتلقى تعليمه هناك، وبالفعل التحق الابن به حتى وصل إلى السنة الثانية فى المرحلة الثانوية الأزهرية.

وكان عام 1970، ثم انقطع عن الدراسة لأسباب غير معروفة.

ورُغم أن الشيخ ترك تعليمه الأزهرى، فإن هذه الفترة من التعليم كانت خير معين له فى رحلته التى شاء القدَر أن يُسيره فيها، فقدْ حفظ القرآن الكريم وتمكن من تجويده، كما ساعده حفظ القرآن الكريم على إنماء ملكة الحفظ لديه التى كانت عاملاً مُهمّا بالنسبة له فيما بعد، بالإضافة إلى اللغة العربية وقواعدها التى درسها، وساعدته على معرفة أصول اللغة وقواعدها وكيفية نطقها نطقًا سليمًا.

وخلال هذه الفترة كان الشيخ ياسين مولعًا بالشِّعْر الصوفى، الذى كان يسمعه من والده وممن يحضرون ليالى الذكْر التى كان يقيمها، ثم ظل لمدة عامين متأملاً ومنقطعًا لقراءة أشعار المتصوفة الكبار من أمثال: عمر بن الفارض، والحلاج، والسهروردى، ومحيى الدين بن عربى، وغيرهم من أقطاب الصوفية الكبار الذين كان لهم الفضل، وأكبر الأثر فى تكوين شخصيته فى هذه الفترة وفيما بعد؛ خصوصًا أن هذه الأشعار تحمل معانى وقيمًا عديدة مثل تهذيب النفس والروح والارتقاء بها إلى أسمَى المراتب، وكان «ياسين» يردد مع نفسه هذه الأشعار، ويحفظها بجوار آيات القرآن الكريم.

نقطة التحوّل فى حياة الشيخ عندما كانت تقام إحدى الليالى التى كان يقيمها والده بمناسبة المولد النبوى، وكان يردد ما يقوله الذاكرون، ثم وجد نفسه مندفعًا إلى حلقة الذكْر منشدًا من كلمات سُلطان العاشقين - عمر بن الفارض - الذى يُعد أكثر المتصوفة تأثيرًا فى نفس الشيخ ياسين التهامى.

ونستطيع أن نقول إن «التهامى» تخصص فى غناء قصائد القطب الصوفى الأشهر ابن الفارض، وأنشد تائيته الشهيرة (537 بيتًا) على مراحل عمره الفنى المختلفة.

بدأ الشيخ حياته بالإنشاد الدينى فى الموالد والحفلات الدينية بقرى ونجوع الصعيد أولاً قبل أن يسطع نجمه فى منتصف السبعينيات ليصبح بمرور السنوات والخبرات نجم الإنشاد الدينى الأول فى مصر، وتمتد شهرته خارجها حيث يُطلب بالاسم فى عدد كبير من الدول الأجنبية.

ظهر الشيخ ياسين التهامى فى فترة لم يكن فيها كثير من الأسماء المشهورة فى عالم الإنشاد سوى الشيخ أحمد التونى ابن الحواتكة أيضًا، وكان الإنشاد فى تلك الفترة يعتمد على لحن معين يلتزم به المنشد ولا يغيره مع اعتماده فى أغلب الأحيان على الكلام العامى، ولكن هذا النوع النمطى من الإنشاد لم يستهوِ الشيخ ياسين التهامى، الذى قرر أن يرتقى بهذا الفن، ويدخل فيه ما حفظه فى صباه من كلام أعلام الصوفية الكبار.

 

 

 

ورُغم صعوبة الكلام فى بعض القصائد، فإن «التهامى» استطاع بأسلوبه وإحساسه العالى أن يجذب إليه الجمهور الذى أخذ يردد ما يسمعه منه ولو لم يفهم معناه بالكامل إلا أنه يحسّه.

وبهذا الأسلوب أصبح «التهامى» صاحب مدرسة فى الإنشاد الدينى فى مصر تعتمد على الارتقاء بالإنشاد الدينى الشعبى من الأسلوب الدارج والكلمات العامية إلى تطعيمه بأرقى وأجمل ألوان الشّعْر الصوفى الفصيح لعمالقة الشعراء مضافًا إليه إحساس الشيخ الذى ليس له حدود.

أهم ما يميز الشيخ ياسين التهامى إحساسه بالقصائد وقدرته على تقديم حالة فنية متكاملة فيها الصوت والكلمة واللحن والأداء المسرحى، وطريقته فى الإنشاد فريدة ولها خصوصيتها، وتعتمد على التواصل المستمر بينه وبين فريق اللحن والجمهور وطبيعة وأجواء الزمان والمكان.. واستحضار ما يسميه هو نفسه «الحالة»، حيث التفاعل المستمر، وتبادل المشاعر والأحاسيس مع الجمهور وانفعالاته.

ولأنه وُلِدَ وتربّى فى أجواء التصوف، وحلقات الذكر.. جاء معظم إنشاد ياسين التهامى من قصائد وأشعار المتصوفة التى تربطه بها علاقة عشق، وممن أنشد لهم، وأولهم بالطبع عمر بن الفارض، وغيرهم من أقطاب الصوفية، وهو ما يناسب الإنشاد الدينى فى الموالد وحلقات الذكْر.

ولهذا يكثر فى إنشاد ياسين التهامى المعانى والمصطلحات التى تدعو إلى وحدة الكون والوجود، وتبجيل الأولياء وأهل البيت والاستغاثة بهم وطلب العون منهم والمَدَد، وهى المعانى التى تصادف هوىً عند معظم المصريين الذين يقدرون ويحبون آل بيت النبى ومن سار على طريقهم.

ولا يخرج «ياسين» عن عيون الشعْر الصوفى إلا نادرًا، وإذا ما أنشد لآخرين نجده يميل لشعراء لهم نفس الروح والمشاعر والعاطفة القوية؛ مثل الأمير عبدالله الفيصل وعبدالله البردونى وأحمد شوقى والأخطل الصغير (بشارة الخورى)، وطاهر أبوفاشا، وإيليا أبى ماضى، ومن القدماء المتنبى وأبوفراس الحمدانى ورابعة العدوية، ولعنترة بن شداد من الشعراء الجاهليين.

ويقول «التهامى»: «إن المبدأ عندى هو روح القصيدة وليس شخص صاحبها».

مرحلة الاختلاف

الإنشاد اختلف قبل ياسين التهامى وبعده، فقبله كانت قصائد المتصوفة، مكانها بطون الكتب أو حلقات الذكْر ومجالس شيوخ الطرُق.

ولكن بعد ظهور «ياسين» فى الموالد والميادين والحفلات، أصبحت القصائد والأشعار الصوفية على ألسنة العوام فى القرى والأرياف والمدن، بل إن أغلب جمهور «التهامى» يحفظ عبارات لأقطاب المتصوفة من كثرة ما رددها وراء الشيخ «ياسين» فى الموالد والحفلات، أو لكثرة ما سمعها وهى قد تجاوزت المائة والخمسين أغنية تحتوى عبارات «ما حيلتى والعجز غاية قوتى»!، «أنا قلم والاقتداء أصابع»! «قلبى يحدثنى بأنك متلفى»! «روحى فداك عرفت أم لم تعرف».

 

 

 

وبحسب موسيقيين، فإن ياسين التهامى رُغم ارتجاله، ورُغم أنه لم يحصل على دراسات أكاديمية أو علمية؛ فإنه يمكن اعتباره أفضل مُنشد عربى فى علاقته مع الموسيقى وتوظيفه لها فى الإنشاد؛ لأنه أبدع لونًا جديدًا فى الإنشاد الدينى لم يكن موجودًا من قبل، يعتمد فيه على المزاوجة بين إيقاعات النغم الشرقى الأصيل والنغم الشعبى، وأدخل فيه الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها، ونوّع من المقامات الموسيقية المتعارف عليها؛ فطوّر بذلك فى الإنشاد الدينى، وميزه عن أنواع مختلفة قد تتداخل معه؛ مثل الابتهال الدينى الذى قدّمَه كبار المنشدين من أمثال النقشبندى ونصر الدين طوبار وطه الفشنى، ليس على مستوى الكلمة فقط.. بل كذلك اللحن وشكل الأداء؛ فقد ظل الابتهال أقرب للدعاء والمناجاة، ولا يرتبط فيه المبتهل بإيقاع بعينه، بل هو حُرّ فى أغلب الأحيان، وتصاحبه دائمًا بطانة تردد خلفه من دون موسيقى غالبًا.

 

طوّر «ياسين» لونًا من الإنشاد يعتمد على إدخال المقامات الشرقية بما فيها المقامات المهجورة على القصائد الدينية والتنويع بينها، وكذلك الآلات الموسيقية على اختلافها من كمان وناى وقانون وأكورديون، ومزَج بين إيقاعات النغم الصعيدى وإيقاعات النغم الشرقى الأصيل، كما اختلف أيضًا فى طريقة الأداء التى تعتمد أساسًا على العلاقة مع الجمهور وتقوم على التفاعل والتأثير المتبادل؛ خصوصًا أنه يُقدّم فى الميادين والموالد والشوارع مباشرة إلى الجمهور.

 

ويمتلك «التهامى» طاقة ومساحة صوتية هائلة، وصوته بالأساس هو ما أتاح له إنشاد أصعب القصائد بمقامات لم يؤدِّ عليها إلا كبار الفنانين، من أمثال ناظم الغزالى وأم كلثوم وصباح فخرى، وهو أقرب إلى البَوْح الذى يخوض فى مساحات واسعة فى النفس الإنسانية تجعله يؤثر فى ذاته دون معرفة معنى الكلمات أو حتى اللغة العربية نفسها، فهو صوت إنسانى بامتياز يحسه كل من يسمعه حتى ولو لم يكن يفهمه، أو كما قيل عنه «إن صوته وألحانه تفتح فى النفوس طرقًا من النور والإيمان».