الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

للقاهرة ألف وجه

يسمونها قاهرة المُعز، يطلقون عليها مدينة الألف مئذنة، ويحلو للبعض أن يسميها «مصر» كناية عن الدولة المصرية، حيث تمثل العاصمة الجزء الرئيسى من القُطر ومسرح الأحداث الكبرى والمدينة الأكثر شهرة إقليميّا ودوليّا.



لذلك يقال فى أحد المأثورات القديمة التى تتوارثها الأجيال، خاصة قاطنى الأحياء القديمة بالقاهرة «الذوق ما خرجش من مصر» نسبة إلى سيدى محمد الذوق الذى اشتهر بحُسن خُلقه، ودُفن بضريح عند بوابة الفتوح فى السور الشمالى للقاهرة ولايزال زائرو القاهرة القديمة وتحديدًا الجَمّالية يرددون حكاية ابن البلد الخَلوق الذى حاول الإصلاح بين اثنين من أهالى منطقته إثر خلاف كبير نشأ بينهما وتطوّر إلى خلاف بين عائلات فى المنطقة، إلا أنه لم يفلح فقرر الخروج والهجرة من الحى والمنطقة التى أصبحت لا تكترث لأمر كبرائها ولا تستمع للنصح ولا تسعى للإصلاح بل تُصِرّ على الخلاف والاختلاف، إلا أنه وافته المنية عند باب الفتوح.

 

 

 

وندم أهالى المنطقة على إغضابه، وبعد أن تصالح المتخاصمان أقاما له ضريحًا عند بوابة القاهرة الشمالية «باب الفتوح» وقالوا ورددوا العبارة الشهيرة: «الذوق ما خرجش من مصر» إكرامًا وتخليدًا لذكراه.

أمّا فى العصر الحديث، فأصبح يتردد على مسامعنا اسم «القاهرة الخديوية»، تلك التسمية التى تَنسب القاهرة إلى مؤسس الجزء الحديث منها وحفيد مؤسس مصر الحديثة الخديو إسماعيل، الذى استقدم لبناء عاصمته البنائين والفنانين والمخططين العمرانيين من أوروبا عامّة ومن فرنسا التى انبهر بها خاصة.

أمّا فى المواثيق الدولية وفى الأبحاث العلمية أيضًا فيظهر لنا مصطلح آخر ألا وهو «القاهرة التاريخية» كناية عما تحفل به تلك العاصمة الأزلية من طبقات تاريخية متتالية جعلتها مسرحًا لأحداث شتى على مَرّ العصور.

قاهرة وافدة؟!

لكن هل حقّا جميعها تشير إلى «مدينة واحدة؟ هل هى «قاهرة واحدة»؟ هل يقصد بها جميعًا نفس النطاق الجغرافى والتاريخى؟ وهل لاتزال تلك المسميات تنطبق على قاهرتنا الحالية؟

مراحل تاريخ

معظم هذه المسميات مرتبطة - إلى حد كبير- بالحقب التاريخية التى مرّت على مصر بوجه عام وعلى القاهرة بوجه خاص.

فالقاهرة تحديدًا شهدت وعاشت كل الحضارات التى مرّت على مصر، بدءًا من أصول الحضارات المصرية القديمة فى عصور ما قبل الأسرات منذ أكثر من ثلاثين قرنًا قبل الميلاد وحتى العصر الحديث والأسرة العلوية وما تبعها من تغيرات سياسية على المنطقة بأكملها، مما انعكس على عمرانها ومبانيها وعلى وجهها الحضارى والتاريخى أيضًا.

فمصر التى فتحها عمرو بن العاص فى القرن السابع الميلادى اتخذت لها عواصم متتالية هى الفسطاط والقطائع والعسكر، ولكن لم يخلد اسم أى منها سوى القاهرة، التى تنسب منذ إنشائها إلى مؤسسها «المعز لدين الله الفاطمى».

ومع تزايد العمران والعمارة وارتباط الحضارة بالبناء أصبحت مآذن المساجد والمساجد الملحقة بالأضرحة والمدارس هى المشهد الرئيسى الطاغى على سماء المدينة فأصبحت «مدينة الألف مئذنة».

أمّا عن تسمية «القاهرة التاريخية» فهو المصطلح الذى اعتمدته اليونسكو عالميّا على قوائم التراث العالمى للبشرية عام 1979 لذلك الموقع المتميز والمترامى الأطراف الذى يرتبط تاريخيّا بمراحل متعددة من تاريخ مصر وجغرافيا فى المنطقة العتيقة للقاهرة والمحصورة من أبواب القاهرة شمالًا «باب الفتوح» و«باب النصر» وتمتد جنوبًا لتشمل «مصر القديمة» بكنائسها الشهيرة الشاهدة على زيارة العائلة المقدسة لمصر، مرورًا بأحياء أخرى كانت شاهدًا على تاريخ وحضارة كالمناطق الشعبية الزاخرة بتراث مصرى أصيل يتوارثها الأجيال ويحفظونه على مَرّ الأجيال فى السيدة زينب والخليفة والدرب الأحمر والحلمية وغيرها.

أمّا شرقًا فهى تمتد حتى جبانة المماليك التى تزخر بآثار مملوكية ليس لها مثيل فى العالم وغربًا يحدها شارع محمد على بشهرته الفنية الواسعة وعمرانه وآثاره الفريدة.

 

 

 

وحين يتم وضع موقع على قوائم التراث العالمى، فإن ذلك يتم بناء على معايير محددة توضح «أصالة» المنطقة وتكاملها مع العناصر المحيطة و«قيمتها الاستثنائية العالمية»، ولما كانت هذه الشروط قد انطبقت على القاهرة فإن تلك المنظمة العالمية قد اعترفت صراحة بقيمة هذه المنطقة ووضعتها على القوائم كتراث للبشرية ينبغى صونه وتنميته وتوريثه للأجيال الجديدة، ومن ثم يأتى الدور المحلى داخل مصر بوضع «أسس واشتراطات» الحفاظ والصون لهذه المناطق ووضع معايير محددة وتشريعات حازمة أطلقتها أجهزة الدولة المختلفة من محليات ووزارة ثقافة تهدف جميعها إلى إعلاء شأن هذا الموقع.

أوجه القاهرة

مصطلح آخر هو «القاهرة الخديوية»، فما هى تلك القاهرة؟ 

هى العاصمة الجديدة التى أنشأها «خديو مصر» أو «والى مصر» إسماعيل باشا خلال القرن التاسع عشر الميلادى بعد عودته من رحلته التعليمية فى فرنسا، متأثرًا بالنهضة الأوروبية، وأراد أن ينقلها إلى مصر فأنشأ عاصمة جديدة - متصلة منفصلة فى الوقت نفسه بالعاصمة القديمة - فهى على مقربة منها وتمتد جغرافيّا غربها إلا أنها عمرانيّا ومعماريّا لم تكن امتدادًا لها، بل كانت عاصمة أقرب ما تكون إلى الحداثة وإلى نمط البناء الأوروبى - وتزدهر بحدائق غنية وخضرة واسعة تجعلها تضاهى روعة كبرى مدن العالم آنذاك. كان ذلك فى منطقة الأزبكية وما حولها من أحياء كالعتبة والموسكى ووسط البلد والزمالك وجاردن سيتى فخَلق من منطقة برك ومستنقعات وأحياء مهملة عاصمة حديثة رائعة الجَمال وأطلق عليها حينذاك الإسماعيلية نسبة إليه، إلا أن بعض المسميات تختفى باختفاء أصحابها وتحول ميدان الإسماعيلية إلى ميدان التحرير وتجزأت وسط البلد إلى مناطق متعددة، إلا أنها جميعًا يرجع الفضل فى إنشائها إلى ذلك الوالى الطموح الغيور على مصر الذى أراد أن يجعلها قطعة من أوروبا، وكان له ما أراد فأصبحت «باريس الشرق» فى عصره كما كان يُطلق عليها.

والآن ومنذ أكثر من عشرة أعوام أطل علينا ذلك المُسمى الجديد ليعيد للخديو فضله فى إنشاء تلك المنطقة، بل يجعلها أيضًا - وفقًا للقانون المصرى - منطقة ذات اشتراطات ومعايير خاصة للحماية والصون والحفاظ من خلال قوانين جهاز التنسيق الحضارى التابع لوزارة الثقافة تُعرف باسم «القاهرة الخديوية».

ويتضح إذن إن القاهرة كلها تراثية وكلها ذات قيمة تاريخية وعمرانية لا مثيل لها سواء أكان ذلك فى جزئها القديم الذى يعود للقرون الوسطى ممثلًا فى القاهرة التاريخية التى تحوى الأحياء العريقة كالسيدة زينب والخليفة والجمّالية والدرب الأحمر وغيرها، أو فى «القاهرة الخديوية» التى تضم الأحياء الحديثة كوسط البلد وجاردن سيتى والعتبة وغيرها.

 

مآذن القاهرة .. تصوير- دعاء عادل
مآذن القاهرة .. تصوير- دعاء عادل

 

القاهرتان امتداد لبعضهما، وكلتاهما مفعمة بالحياة واجتهدنا فى صونهما كما أورثنا آباؤنا وأجدادنا حضارة عظيمة؟ هل نستطيع توصيل هذه الحضارات إلى الأجيال القادمة؟ هل نحافظ على قاهرتنا تاريخية كانت أمْ خديوية ونجعلها فخرًا لأبنائنا كما تسلمناها من أجدادنا؟!

هى مسئولية مشتركة للجميع نأمل أن يحملها ولا يتهاون فيها أى مصرى حريص على وطنه.