شاى بالحواديت سكر برة

فى صباح من تلك الأصباح التى يبدو أن كل شيء يجرى فيها كما الوقت ذاته، من سفر مثل خيط ممتد ظنه ياسر لا ينقطع يعود من غربته، يغفو منهكا من إعياء أصابه جراء استعادته تفاصيل رحلة غربته الطويلة، يستيقظ فى المساء يملؤه الشوق يدفعه الحنين لكل الأماكن؛ يود لقاء ماضيه واستحضار ذكريات ما مضى، فالغربة كشفت له أن الحياة ليست خيطا غير منقطع.

ثمة أحداث قد عبرت حياته واختفت دون أن تترك أثرًا وأخرى يعيشها ربما للمرة الثانية، فأيامه قصور حواديت تاهت فى حنايا غابة مظلمة، وما مضى يسكنه يلون أيامه، يتشابك ماضيه مع حاضره لدرجة يصعب معها التمييز بينهما، ودون أن يدرى إذا به يتوقف أمام مقهى الزنجيرى المقابلة لمدرسة الثقافة الابتدائية القريبة من محطة قطار الحضرة، يلتفت ليجد نفسه وجها لوجه أمام الذكريات، يجلس على المقهى تتحسس عيناه الأماكن فإذا بغزال القهوجى وقد غابت مقادم أسنانه واستبدل بسواد شعره بياضا، بابتسامته يمسح المنضدة يبادره ياسر: كوباية شاى سكر بره 

تعانق عيناه باب مدرسته الابتدائية، عند هذا الباب كان يقف عم رمضان ينادى على الحلاوة العسلية يبيع الدوم، فى تلك المدرسة خطت أنامله الدقيقة حروف أمل، ولونت صفحات كراساته بالبهجة، خلف ذلك السور فناء سبقتهم فيه الضحكات وهم يركضون خلف كرة تعاورتها منهم الأقدام، فى حجرة الموسيقى تعزف لهم أبلة أنوار على البيانو نشيد بلادى.. بلادى، بخفة وابتسامة يضع غزال صينية الشاى على المنضدة.

يشكره ياسر ويتناول أعواد النعناع يغمرها فى الشاى يزوده بالسكر يقلبه وعيناه تدور مع دوران الملعقة، تعود اليوم الذكريات لتجده بعد كل تلك السنين عودا مازالت خضرته يانعة فتقص عليه حواديتَ ليعيش الأحداث مجددا مع تلك الصغيرة ڤيڤيان ذات الشعر الأملس والمرتب جدًا وضفائر شقراء يعلوها شريط أبيض والمعطف الأصهب بلون وبر الجمل فوق المريلة وإلى النمش فوق أنفها وعند خديها الذى قد يكون التفصيل الوحيد غير المنتظم فى مظهرها.

وكلما التقى ڤيڤيان فى فناء المدرسة يعجز لسانه عن اللهج، يتعمد أن ينطلق جريا فيظهر لها مهارته فى الجرى ويحمر وجهه خجلا إذا ضربته أبلة حمدية بالعصا لتقصير فى إجابة ورأت ذلك ڤيڤيان.

لا ينسى الوردة الصفراء فاقعة اللون التى توسطت حوض الزهور فى مدخل المدرسة يسقيها فيض براءته ترعاها عيناه كل يوم وهى تتفتح يوما بعد يوم يقطفها فتدمى أشواكها أنامله فلا يبالى ويجرى بها إلى ڤيڤيان يهديها إياها؛ يعنفه أستاذ حسين أمام المدرسات لقطف الوردة، توبخه أبلة عزيزة لما جرت عليه أشواك الوردة من جرح فى يده.

هو لا يحب أبلة عزيزة عياد التى لا تأتى إلى فصلهم إلا لتأخذ ڤيڤيان وعندها تبدأ أبلة حمدية فى قراءة قصار السور والجميع يردد وراءها، فى ذات اليوم لم يستطع أن يوارى إحمرار أذنيه فى الفصل عندما نادته أبلة حمدية: اقرأ الدرس يا أبو وردة.

قفز قلبه من مكانه وشعر بالتوازن يغيب عنه وكان عليه أن يقف، مرت لحظة كانت طويلة لم يكن يعرف ماذا سيقول وكيف سيقرأ، يلقى على ڤيڤيان نظرة خاطفة؛ يستعيد أنفاسه ويضع إصبعه على عنوان الدرس وبصوت طفولى يصدح: القطة والكتكوت

وانطلق يقرأ:

 فى يوم قال الكتكوت: أمى أحب أخرج. 

 أحب أخرج من الحظيرة. أحب أخرج وألعب.

الدجاجة قالت: لا. لا أنت صغير. القطة تأكلك.

القطة تأكل الكتكوت الصغير.

الدجاجة خرجت وخرج الكتكوت من الحظيرة.

الكتكوت سمع نو. نو الكتكوت صاح صو. صو

تنادى أبلة حمدية على ڤيڤيان لتكمل القراءة، فلم تستطع قراءة كلمة الكتكوت صحيحة وظلت تتلعثم فيها المرة تلو الأخرى ونهرتها أبلة حمدية فبكت ڤيڤيان وبكى ياسر لبكائها. 

يطفو بشكل عشوائى على ذاكرته خليط من شظايا صور الماضى، فجأة يدوى صفير قطار منطلق إلى محطة سيدى جابر. عليه أن يعود للبيت الآن. عليه فى الغد أن يذهب لمصلحة الشهر العقارى لإنهاء بعض أوراق، غيابه كل تلك السنين أنساه الزحام، فى طابور ينتظر دوره فى هدوء، جلبة وصياح، موظفة ذات شعر قصير غطته صبغة حمراء رديئة فشلت أن تخفى الشيب، وبأحمر شفاه تحاول إصلاح ما أتلفه الدهر، تحبس عينيها الجاحظتين نظارة طبية، على أنفها وخديها يتناثر النمش، أمامها كومة من ورق والجمهور يتكالب عليها، تصرخ فيهم بينما يمدون أوراقهم ينادون عليها:

 يا مدام ڤيڤيان. يا مدام ڤيڤيان.