القفص
قصة: جابرييل جارسيا ماركيز ترجمة: د. هانى حجاج
أنجز بالتازار القفص بسرعة مدهشة ثم علقه، بحكم العادة، على الإفريز. وعندما انتهى من تناول الغداء، كان الجميع يمدحونه فى كل مكان: «إنه أجمل قفص فى العالم». توافد الخلق لرؤيته، حتى اجتمع حشد صاخب قبالة البيت، فاضطر بالتازار إلى إنزال القفص البديع ثم أنه مشغل النجارة فى الحال.
- «عليك أن تحلق ذقنك، تبدو مثل راهب». نبهته أورسولا، زوجته، فأجاب: «الحلاقة بعد الغداء ضارة بالصحة»!
لم تُحلق لحيته منذ أسبوعين، شعر قصير، أشواك منتفشة كعُرف بغل، يبدو فى المجمل كمظهر مراهق مذعور.
إلا أنه كان ملمحًا زائفًا رغم كل شىء. فقد بلغ الثلاثين فى مارس. يعيش مع أورسولا منذ حوالى أربع سنوات، دون زواج ودون أبناء، وقد منحته الحياة أسبابًا كثيرة ليكون متيقظًا، ولكنها لم تقدم له سببًا واحدًا ليكون مذعورَا من أى شىء أو يخشى أى شىء. بل إنه لم يكن يعلم أن القفص الذى انتهى من صنعه لتوه، هو فى نظر الناس أجمل قفص فى العالم. أما هو (الذى اعتاد على صنع الأقفاص مذ كان طفلًا) فلم يكن صنع ذلك القفص سوى نشاط روتينى.
- «طيب، استرح قليلًا إذًا، فبهذه اللحية لا يمكنك الذهاب إلى أى مكان».
هم أن يستريح فعلًا، غير أنه اضطر إلى مغادرة أرجوحة النوم عدة مرات ليعرض القفص على جيرانه؛ بينما لم تكن أورسولا قد أعارت القفص أدنى اهتمام حتى ذلك الحين. فى الواقع كانت متضايقة لأن زوجها أهمل عمله فى ورشة النجارة التى يأكلان منها العيش لينهمك تمامًا فى صنع القفص الظريف إياه. كان نومه سيئًا طوال أسبوعين، يتقلب كثيرًا ويغمغم بكلام فارغ، ولم يعد يفكر فى حلاقة ذقنه. لكن استياءها تبدد أمام القفص الرائع. وعندما استيقظ بالتازار من قيلولته، كانت قد كوت بنطاله وقميصه، ووضعتهما على مقعد بجانب أرجوحة النوم، وحملت القفص إلى منضدة غرفة الطعام. تأملته بصمت مشحون بالمعانى. - «كم ستطلب ثمنًا له»؟
- «لستُ أدرى، سأطلب ثلاثين بيزو حتى يرسو السعر بعد الفصال على عشرين».
- «بل اطلب خمسين؛ فقد سهرتَ كثيرًا خلال أسبوعين كاملين. أضف إلى ذلك أنه كبير جدًا. أظن أنه أكبر قفص رأيته فى حياتى».
بدأ بالتازار يهتم بحلاقة ذقنه. «وهل تعتقدين أنهم سيعطوننى الخمسين بيزو»؟
- «هذا مبلغ تافه عند دون مونتييل، والقفص يستحقه. عليك أن تطلب ستين»!
كان البيت ينعس فى الظل الخانق. هذا هو الأسبوع الأول من أبريل، وبدا الحر أقل احتمالًا بسبب صرير الصراصير. عندما انتهى بالتازار من ارتداء ثيابه، فتح باب الفناء لتبريد البيت، فدخل جمع من الأطفال إلى غرفة الطعام.
انتشر الخبر. وكان الدكتور أوكتابيو خيرالدو العجوز (السعيد بحياته الضجر من مهنته) يفكر فى قفص بالتازار بينما هو يتناول الغداء مع زوجته المشلولة. وكانت هناك على الشرفة الداخلية، حيث يضعان المائدة فى أيام القيظ، إصص أزهار كثيرة وقفصان فيهما عصافير ملونة. كانت زوجته تحب الطيور، تحبها إلى حدٍ تكره معه القطط لأنها لا تتورع عن أكلها ببساطة. وبينما هو يفكر فيها، ذهب الدكتور خيرالدو فى ذلك المساء لعيادة أحد مرضاه، ولدى عودته مرّ بمنزل بالتازار لرؤية القفص المذكور.
كان هناك أناس كثيرون فى غرفة الطعام. وعلى المائدة كانت تُعرض قبة الأسلاك الضخمة، ذات الطبقات الداخلية الثلاث، المزودة بممرات وأقسام مخصصة للأكل والنوم مع عوارض فى الحيز المخصص لاستراحة الطيور، فكان القفص يبدو أشبه بنموذج مصغر لقصر أو مصنع. تفحصه الطبيب باهتمام، دون أن يلمسه، مفكرًا فى أن القفص يفوق بالفعل شهرته، وأنه أجمل بكثير مما كان يحلم به لزوجته.
- «هذا القفص هو إحدى مغامرات الفن»! قال ذلك وهو يبحث عن بالتازار بين الجمع، ثم أضاف وهو يثبت عليه نظرات الود: «كان يمكن لك أن تكون مهندسًا استثنائيًا».
احمر وجه بالتازار خجلًا، وتمتم بكلمة شكر.
«إنها الحقيقة.» رد الطبيب. وهو ذو بدانة ناعمة لينة مثل امرأة كانت جميلة فى شبابها، ويدين حساستين. وبدا صوته أشبه بصوت قس يتكلم: «لن تكون ثمة حاجة إلى وضع الطيور فيه».
-قال ذلك وهو يدّور القفص أمام أعين الجمهور، كأنه يعرضه للبيع- يكفى تعليقه بين الأشجار حتى يغرد وحده - ثم أعاده إلى المنضدة، وفكر هنيهة، وهو ينظر إلى القفص، وقال فى النهاية: «حسن، سآخذه».
- «إنه مُباع»! قالتها أورسولا بهدوء وحزم. وأكد بالتازار: «إنه لابن السيد تشبى مونتييل، لقد أوصى على صنعه».
وجم الطبيب لكنه اتخذ موقفًا وقورًا: «هل قدم لك التصميم»؟
أجاب بالتازار عاقدا حاجبيه: «لا. ولكنه قال إنه يريد قفصًا كبيرًا، مثل هذا، من أجل زوج من الببغاوات الصفراء».
فنظر الطبيب إلى القفص: «ولكن هذا القفص ليس للببغاوات الصفراء».
- «بل هو كذلك بالطبع يا دكتور». قالها بالتازار وهو يقترب من المنضدة. وأحاط به الأطفال. ثم تابع مشيرًا بإصبعه السبابة إلى مختلف الأجزاء: «المقاييس محسوبة بدقة وعناية». وضرب بمفاصل أصابعه، فامتلأ القفص بأنغام عميقة، وقال: «إنه أمتن سلك يمكن العثور عليه، وكل اتصال فيه ملحوم من الداخل والخارج».
تدخل أحد الأطفال وقال: «إنه ينفع حتى لببغاء عادية»!
فقال بالتازار: «وهو كذلك.»
هز الطبيب رأسه، وقال: «حسن، ولكنه لم يعطك النموذج. لم يوصِك على أى شىء محدد، اللهم إلا أنه يريد قفصًا كبيرًا لببغاوات صفراء. أليس كذلك»؟
تفكّر بالتازار قليلا وأجاب: «أجل».
فرد الطبيب ظهره وقال بحسم: «ليست هناك مشكلة إذًا؛ فقفص كبير للببغاوات الصفراء هو شىء، وهذا القفص بالذات شىء آخر. ليس ثمة دليل على أنهم أوصوك على صنع هذا القفص على وجه التحديد». قال بالتازار مؤكدًا: «بل هو هذا القفص بالذات؛ فلأى سبب صنعته»؟
أومأ الطبيب إيماءة نفاد الصبر. فقالت أورسولا ذلك وهى تنظر إلى زوجها: «يمكنك أن تصنع قفصًا آخر.» ثم وهى تنظر إلى الطبيب بعد ذلك: «وحضرتك لست على عجل».
قال الطبيب: «وعدتُ زوجتى به هذا المساء».
فرد بالتازار: «متأسف جدًا يا دكتور؛ فمن غير الممكن بيع شىء مباع».
هز الطبيب كتفيه. وتأمل القفص صامتًا وهو يمسح العرق عن عنقه بمنديله، دون أن يحوّل نظرته عن نقطة غير محددة، كمن ينظر إلى سفينة تمضى. وفى النهاية سأل بحلق جاف: «كم دفعوا لك ثمنًا له»؟
بحث بالتازار عن عينى أورسولا دون أن يجيب. وسمعها ترد: «ستون بيزو».
واصل الطبيب النظر إلى القفص. وتنهد: «إنه جميل جدًا، جميل إلى أقصى حد».
ثم إنه تحرك بعد ذلك باتجاه الباب، وأخذ يروِّح بمروحة يدوية بنشاط وحماس حار، ابتسم، وتلاشت ذكرى تلك الحادثة من ذاكرته إلى الأبد. غمغم: «مونتييل غنى جدًا».
لم يكن خوسيه مونتييل غنيًا فى الحقيقة مثلما يبدو، ولكنه ما كان يتورع عن عمل أى شىء ليتوصل إلى ذلك. فعلى بعد عدة شوارع من هنا، فى بيت مشحون بسروج الجياد، حيث لم تُشم قط رائحة شىء لا يمكن أن يباع، بقى غير عابئ بأخبار القفص.
وكانت زوجته، المشغولة بهواجس الموت، قد أغلقت الأبواب والنوافذ بعد الغداء، واضطجعت ساعتين وعيناها مفتوحتان على عتمة الغرفة، بينما كان خوسيه مونتييل ينام القيلولة. وهكذا فاجأتها جلبة أصوات كثيرة. عندئذ فتحت باب الصالة ورأت حشدًا أمام البيت، ورأت بالتازار ومعه القفص وسط الحشد، مرتديًا ثيابًا بيضاء وبذقن حُلقت للتو، وتبدو عليه ملامح البراءة المُهذبة التى يأتى بها الفقراء إلى بيوت الأغنياء.
- «يا له من عمل مدهش!» هتفت زوجة خوسيه مونتييل بوجه بشوش وهى تقود بالتازار إلى الداخل، متابعة: «لم أرَ فى حياتى شيئًا مماثلًا». ثم أضافت متضايقة من الحشد المجتمع عند الباب: «أدخله إلى الداخل وإلا فإنهم سيحولون الصالون إلى ميدان لمعركة ديكة».
على كل حال لم يكن بالتازار غريبًا فى منزل خوسيه مونتييل. فقد استدعى فى مناسبات مختلفة، لشطارته وإتقان عمله، من أجل القيام ببعض أمور النجارة الصغيرة. غير أنه لم يشعر قط بأنه على ما يرام وهو بين الأغنياء. فقد اعتاد على التفكير فيهم، وفى زوجاتهم القبيحات المحبات للاختلاف، وفى عملياتهم الجراحية الفظيعة، فيخالطه على الدوام شعور بالإشفاق عليهم. وعندما يدخل بيوتهم، لا يستطيع أن يتحرك دون جرجرة قدميه كالمشلول.
سألها وكان قد وضع القفص على منضدة غرفة الطعام: «هل بيبى موجود»؟
- «إنه فى المدرسة». أجابت زوجة خوسيه مونتييل، «ولكنه لن يتأخر فى المجىء»، ثم أضافت: «ومونتييل يستحم».
فى الواقع لم يجد خوسيه مونتييل الوقت الكافى للاستحمام. فكان يمسح جسده بالكحول الممزوج بالكافور لكى يخرج ويرى ما الذى يحدث. فهو رجل شديد الحذر لدرجة أنه ينام دون مروحة كهربائية، ليتمكن وهو نائم من رصد الهمسات فى جنبات داره.
صاحت امرأته: «تعال وشاهد هذا الشىء البديع».
فأطل خوسيه مونتييل بجسده الضخم وشعره الكث، يعلق منشفة على عنقه، من نافذة غرفة النوم. وسأل فى دهشة وغباء: «ما هذا»؟
- «إنه قفص بيبى»! أجاب بالتازار.
نظرت إليه المرأة مرتبكة: «قفص من»؟
- «قفص بيبى.» أكد بالتازار. ثم قال متوجهًا إلى خوسيه مونتييل: «لقد أوصانى بيبى على صنعه».
لم يحدث أى شىء فى تلك اللحظة، لكن بالتازار شعر كما لو أنهم فتحوا عليه باب الحمام. خرج خوسيه مونتييل من غرفة النوم بالسروال الداخلى. وصرخ: «بيبى»!
همست زوجته وهى واجمة: «لم يأت بعد».
ظهر بيبى فى نفسه اللحظة عند فراغ الباب. كان فى حوالى الثانية عشرة وله الرموش المقوسة السوداء والهدوء المؤثر الذى لأمه.
- «تعال هنا، » -قال له خوسيه مونتييل- «هل أوصيت على صنع هذا القفص؟»
أخفض الصبى رأسه. فأمسكه خوسيه مونتييل من شعره، وأرغمه على النظر إلى عينيه: «أجب يا ولد»! عض الطفل شفتيه دون أن يجيب.
- «مونتييل!» همست زوجته.
أفلت خوسيه مونتييل ابنه والتفت إلى بالتازار بملامح هائجة، وقال له فى ثبات وعناد: «آسف جدًا يا بالتازار. ولكن، كان عليك أن تستشيرنى قبل أن تتصرف. أنت وحدك من يخطر له الاتفاق مع هذا الفسل».
وكلما تكلم كان وجهه يستعيد الهدوء.
ثم رفع القفص دون أن ينظر إليه وأعطاه لبالتازار قائلًا بلهجة باترة: «خذه فى الحال وحاول أن تبيعه لمن تستطيع. وأرجوك قبل كل شىء لا تجادلنى ببلاهات». ثم ربت على ظهره، شارحا: «لقد منعنى الطبيب من الغضب».
ظل الطفل فى أثناء ذلك مسمرًا فى الأرض، ودون أن يطرف له جفن، إلى أن نظر إليه بالتازار حائرًا والقفص فى يده. عندئذ أصدر الطفل صوتًا حلقيًا كأنه همهمة كلب، وألقى بنفسه على الأرض يصرخ كأنهم يعذبونه.
نظر إليه خوسيه مونتييل دون تأثر، بينما حاولت أمه المنزعجة تهدئته.
- «لا تُنهضيه»! -هتف- «دعيه ينفلق، ليضرب رأسه على الأرض لو أحب، ثم ضعى على جرحه ملحًا وليمونًا إذا شجها لكى يتعلم كيف يغضب على هواه».
استمر الولد يصرخ بلا دموع، بينما أمه تمسكه من معصميه.
«اتركيه!» -ألح عليها خوسيه مونتييل.
راقب بالتازار الطفل كما لو كان يراقب احتضار حيوان موبوء.
وكانت الساعة قرابة الرابعة. فى تلك الساعة كانت أورسولا، فى بيته، تغنى أغنية قديمة جدًا بينما هى تقطع شرائح من البصل.
- «بيبى». ناداه بالتازار بصوت متحشرج. اقترب من الطفل باسمًا، وقدّم له القفص. قفز الولد منتفضًا، احتضن القفص الذى كان كبيرًا بمثل حجمه تقريبًا، وظل ينظر إلى بالتازار بسعادة غامرة من خلال نسيج الأسلاك المعدنية، دون أن يدرى ما عليه أن يقوله. دمعة واحدة لم تسقط من عينه.
قال خوسيه مونتييل بنعومة: «ممم.. لقد طلبت منك أن تأخذ قفصك يا بالتازار».
أمرت المرأة طفلها: «أعد للرجل قفصه».
«احتفظ به». قال بالتازار للصبى. ثم توجه إلى خوسيه مونتييل: «من أجل هذا صنعته من مبتدأ الأمر».
شيّعه خوسيه مونتييل حتى الصالة ثم قال معترضًا سبيله: «لا تكن معتوها يا بالتازار، خذ قفصك إلى بيتك ولا تقم بمزيد من البلاهات. فأنا لا أفكر فى أن أدفع لك سنتيمًا واحدًا».
هز بالتازار كتفيه مجيبا: «ليس مهمًا، لقد صنعته لكى أهديه إلى بيبى تحديدًا. ولم أكن أفكر فى تقاضى أى أجر».
عندما شق بالتازار طريقه عبر الفضوليين الذين يسدّون الباب، كان خوسيه مونتييل يطلق الصرخات كالمجانين فى منتصف الصالون. كان شاحبًا جدًا وتشعث شعره وقد بدأت عيناه بالجحوظ بالاحمرار.
- «يا معتوه!» راح يصرخ، «خذ غرضك هذا. ما كان ينقصنى هو أن يأتى شخص تافه ليصدر الأوامر فى بيتى. يا للعنة»!
استقبلوا بالتازار فى صالة البلياردو بالتهليل استقبال الفاتحين. كان يفكر حتى تلك اللحظة فى أنه صنع قفصًا أفضل من أى قفص آخر، وأنه كان عليه أن يهديه إلى ابن خوسيه مونتييل كيلا يواصل البكاء، وأنه ليس فى كل ذلك أى شىء استثنائى. لكنه سرعان ما انتبه إلى أن ذلك كله له بعض الأهمية والتقدير فى نظر أناس كثيرين، فأحس بشىء من الانفعال.
- «لقد أعطوك إذًا خمسين بيزو مقابل القفص».
- «بل ستين».
- يجب رسم علامة فى السماء أو تنصيب تمثال عملاق!» هتف أحدهم، «فأنت الوحيد الذى تمكن من الحصول على مثل هذا المبلغ الكبير من المال من دون تشيبى مونتييل. يجب الاحتفال بذلك، الليلة عيد».
قدموا إليه زجاجة بيرة، وردّ بالتازار بجولة شراب للجميع. ولأنها المرة الأولى التى يشرب فيها، فقد سكر تمامًا بُعيد الغروب، وراح يتكلم بحماس وفتنة عن مشروع خرافى لصنع ألف قفص كل واحد منها بستين بيزو، ثم عن صنع مليون قفص ليجنى منها ستين مليون بيزو.
قال: «يجب صنع أشياء كثيرة لبيعها إلى الأغنياء قبل أن يموتوا. فجميعهم مرضى وسيموتون. وبما أنهم معتلون فإنهم عاجزون حتى عن الغضب».
وعلى امتداد ساعتين ظل جهاز أسطوانات الموسيقى يدور دون توقف على حسابه. شرب الجميع نخب بالتازار، ونخب حظه السعيد وثروته الطائلة، ونخب أفكاره الألمعية وموت الأغنياء، ولكنهم تركوه وحيدًا عندما حان موعد العشاء.
انتظرته أورسولا حتى الساعة الثامنة، وقد أعدت له طبقًا من اللحم المقلى المغطى بشرائح البصل.
قال لها أحدهم إن زوجها فى صالة البلياردو، مجنون من النشوة، سيطير من فرط السعادة، يقدم الشراب إلى الجميع، ولكنها لم تصدقه لأن بالتازار لم يشرب قط من قبل. وعندما استلقت للنوم عند منتصف الليل تقريبًا، كان بالتازار فى صالة مضاءة، حيث توجد موائد صغيرة، حول كل واحدة منها أربعة كراسٍ، وكانت هناك حلبة رقص فى الهواء الطلق، يغنى فيها طير العندليب.
كان وجهه ملطخًا بأحمر الشفاه، ولأنه لم يكن قادرًا على أن يخطو خطوة أخرى، تساءل لماذا لا ينام مع هؤلاء فى سرير واحد؟ كان قد أنفق كثيرًا حتى اضطر إلى رهن ساعته، مع الوعد بالدفع فى اليوم التالى.
وبعد قليل من ذلك، بينما هو فاقد الوعى فى الشارع، انتبه إلى أن هناك من ينتزع منه حذاءه، ولكنه لم يشأ أن يغادر أسعد حلم فى حياته. أما النساء اللاتى مررن فى طريقهن إلى قداس الساعة الخامسة، فلم يجرؤن على النظر إليه، ظنًا منهن أنه ميت.