السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«الريس زكريا».. عن رحيل «أمير الصحبجية»

«يا مسافر بورسعيد عند البلد الحبيبة سلم على كل نسمة بترفرف عالمدينة، آه يا بلدى يا عزيزة فين نسمتك اللذيذة، شوقى يوم عن يوم يزيد للغالية بورسعيد».



 

أجبرت الحرب أهالى مدن القناة أن يُهَجروا من بلادهم ومنازلهم تاركين جدرانًا وأحلامًا وأهلًا، على أمل العودة بعد أعوام لا يعلمها إلا الله، غصة لا يعلمها إلا من عاشها.

مشاعر تشبعت بها من أبوين كانا من سكان مدينة بورسعيد وحكاياتها التى لا تنتهى، مرا بتجربة الهجرة سمعت منهما عن مرارة الهجرة وفرحة العودة بعد النصر، ذكريات شكلتنى وشكلت روحى.. تعلقت بالسمسمية وكلمات أغانيها ورقصاتها، تلك الأغانى التى تخطت المفهوم الشائع للأغنية، لتتحول إلى سلاح نفسى يتسلح به أهل خط القناة لمواجهة همومهم وأشواقهم لبلدهم، ويدعمون به يقينهم بالنصر القادم.. اتخذوا من السمسمية وأغانيها وسيلة للتغلب على اليأس وهزيمة مرارة الغُربة والنكسة، خطوات تلقائية مبهجة، موسيقى تحمل معها نفحات أمل وتعلق بالحياة، لسان حالها أن القادم أجمل لا محالة..

المقاومة سمة أهل بورسعيد ومدن القناة عموما فكما قاومت بورسعيد بالنضال فى 56 و67 و73 قاومت أيضًا بالفن.. وكما تعلقت أنا بذكريات سمعتها، ما بال من عاشها وكانت كلمات تلك الأغنيات هى الجليس والأنيس له عن فراق البلد والأحباب، فوجد ابن السبعة عشر عامًا الخلاص فى تلك الكلمات، وتلك الآلة لينضم زكريا إبراهيم إلى فرقة سمسمية، ويبدأ طريق تأسيس «فرقة الطنبورة »، أشهر فرق السمسمية فى مصر، ومن بعدها أسَّس مركز «المصطبة» للحفاظ على هذا التراث البديع ونقله من جيل لآخر. 

 

 

 

منذ أيام رحل «أمير الصحبجية»، رحل الريس زكريا إبراهيم ذلك الرجل الذى عاش بحلم جمع تراث أهله وبلده ليكون اسمه بصمة لهم، كان الرجل وحده مؤسسة، جمع التراث من الأغانى والرقصات وحافظ عليه وأسس فرقته وأنشأ مدرسة لتعليم الأطفال فن السمسمية لتتوارثه الأجيال كى لا يندثر وممثلا مصر فى مهرجانات عالمية، حاملاً عبء الحفاظ على فولكلور أهله ومدينته الباسلة وحارسًا لتراثها.

 حمل الرجل فى دمه جينات الفن والمقاومة والنضال وبعد حدوتة حرب ونضال ورقص وغناء السمسمية رحل «الصُحبجى» زكريا إبراهيم عراب السمسمية وحارس تراثها الأمين.

«الصُحبجى»

زكريا إبراهيم من مواليد بورسعيد عام 1952 هُجر من بورسعيد مع أسرته عام 1969 إلى السنبلاوين بمحافظة الدقهلية فتفرق الأهل والأصدقاء واتجه كل منهم إلى محافظة، فى بيئة جديدة تمامًا.. وهو فى شوق إلى مدينتهم الأم.. فكانت تجربة صعبة جدًا.

 كان عمره وقتها 17 عامًا، وفى السنبلاوين وجد فرقًا للسمسمية، أسسها السوايسة والاسمعلاوية الذين تم تهجيرهم قبلهم بعامين فى 1967،  فكان وجود آلة السمسمية والتجمع الموجود حولها من مُهجرى بورسعيد ومنطقة القناة عمومًا بمثابة الخلاص بالنسبة له، خاصة إذا كانت هناك أغانٍ مثل «يا مسافر بورسعيد عند البلد الحزينة سلم على كل نسمة بترفرف عالمدينة، وهات حفنة تراب واقطفلى كل غاب، آه يا بلدى يا عزيزة فين نسمتك اللذيذة، شوقى يوم عن يوم يزيد للغالية بورسعيد».

 هذه الأغنية كان لها دور مهم جدا فى انجذابه للحالة، وفى نفس الوقت فهذه الفرقة لم تسهم فقط فى تجميع المهجرين معًا، بل أيضا كانت الجسر الذى يبنى العلاقة الاجتماعية بين المهجرين وبين السكان الأصليين، وكان يطلق على من ينضم للفرقة وقتها لقب «صحبجى هجرة» وهو من التحق بالفرقة بعد التهجير وليس قبلها فى بورسعيد.

البمبوطية.. والسمسمية

استمرت هذه الفرقة لمدة عامين وأصبح الريس زكريا أحد نجومها، خاصة أنه قبل الهجرة كان راقصًا فى الأساس فى فرقة بورسعيد للفنون الشعبية، ومع السمسمية كان يرقص رقصة «البمبوطية»، وهى رقصة شعبية يعبر فيها كل راقص عن شعوره الشخصى وبالتالى لا توجد حركات ثابتة متفق عليها، لذلك كان يقوم بالمزج بين حركات السمسمية، وبين بعض الحركات التى تعلمها فى الفرقة فى بورسعيد بالإضافة إلى الغناء.

 اندمج فى السمسمية فى السنبلاوين من 69 حتى أوائل 71 ثم اتجه إلى القاهرة للدراسة فى المعهد العالى للتعاون الزراعى، والقاهرة فى عام 71 تعنى حركة الطلبة والموجة الثورية والمطالبة بالحريات وتحرير سيناء فانخرط فى هذه الحركة والعمل السياسى. 

اكتشف زكريا بعد عودته لبورسعيد أهمية تراث السمسمية ودوره الوطنى فى 65 وفى أعوام التهجير، وفى أكثر من حدث سياسى كأداة للمقاومة، لكن التحول الحادث فى الثمانينيات ببورسعيد وكونها أصحبت منقذًا تجاريًا بحتًا بعد الانفتاح، والمنطقة الحرة جعلته يقرر تجميع محبى «السمسمية».

بعيدًا عن الاتجاه المادى التجارى الذى انتشر حينها، بدأ الرئيس زكريا فى البحث عن الصُحبجية الحقيقيين وكانت مهمة صعبة لأنه كان «صحبجى هجرة» ولا يعلم الكثير عن الصُحبجية فى بورسعيد قبل التهجير، وظن البعض أن هذا الحلم عبث البعض وأن هذا المشروع الثقافى لن يتحقق وقوبل بسخرية أحيانًا.

 

 

 

20 ساعة أغاني

 فى 23 ديسمبر عام 88، أسس فرقة أسماها «فرقة بورسعيد للتراث الشعبى» وبدأ فى جمع قدامى المهتمين بالسمسمية وإقامة بروفات وجمع حوالى عشرين ساعة من الأغانى القديمة معتمدًا على كبار السن الحافظين للأغانى القديمة وتسجيلها للحفاظ على هذا التراث العظيم وعلى جانب آخر جّمع حوله شباب يرقص ويغنى ويحفظ هذه الأغانى.

 فى عام 94 كان قد اتجه لاستخدام آلة الطنبورة ذات الصوت الغليظ التى يتم استخدامها فى طقوس «الزار» بجانب آلة السمسمية ذات الصوت الحاد لعمل توليفة جديدة وكانت أول مرة يشاهد الناس آلة الطنبورة على الملأ بعد أن كانت مقتصرة فقط على الزار، فاستخدمها على المسرح وسافر بها ومن هنا جاءته فكرة تسمية الفرقة «فرقة الطنبورة».

وفى عام 96 سافر بالفرقة إلى باريس لتقديم عروض هناك، وكانت هذه الرحلة نقطة تحول له وللفرقة، فسافروا بعدها إلى دول كثيرة وتجولوا فى أوروبا كلها والصين وروسيا وكندا، وسافر بعدها لتقديم المحاضرات فى الجامعات المختلفة حول العالم سواء فى السوربون أو جامعات لندن وإسبانيا.

 

 

 

أسس الريس زكريا ابراهيم عددًا من الفرق فى مناطق مختلفة فى مصر، فهناك حوالى 11 فرقة تقدم عروضها فى مسرح «الضمة»، وجزء منها يسافر خارج مصر مثل فرقة الرانجو وفرقة نوبة نور وفرقة الجركن البدوية وعلى المستوى الدولى استطاع الوصول بهذه الفرق إلى مهرجانات كبيرة وقام بإنتاج ألبومات لهذه الفرق وكان يتواصل مع الجرائد الشهيرة للتسويق للفرق ومع المهرجانات الكبيرة لتعرض حفلاتها بها حتى أنتجت حوالى 14 ألبومًا، ولكنه عانى من التعتيم وكانت أمنيته أن يتم تسليط الضوء على هذا النوع من الفنون وهذا الفلكلور المصرى المرتبط بالمقاومة والحفاظ عليه من الاندثار وأن يكون على قائمة الاهتمام، كما يتم الاحتفاء بهه فى حفلاته خارج مصر.

وبهدوء شديد رحل الريس زكريا صاحب تاريخ من الحلم والأمل والعطاء رحل محققًا جزءًا من حلمه بالحفاظ على تراثه وفلكلور بلده ونقله من جيل إلى جيل.